صمت تام الأن يلف حلم ولي العهد السعودى.. هل تحولت مدينة “نيوم” إلى أحلام يقظة بعد أزمتي كورونا والنفط؟

كان يمتلك الأمير محمد بن سلمان رؤية جديدة لشريط الساحل المطل على البحر الأحمر، وكل ما يرغب به ولي العهد، الذي يتحكم بكافة السلطات في المملكة السعودية، يحصل عليه. ويقوم تصوره للسعودية الجديدة على أرض من مدن الخيال العلمي يديرها الذكاء الاصطناعي وألمع العقول في العالم، وتضم تجمعات حضرية تغزو الطبيعة وتحولها إلى ساحة مستقبلية. 

وفي حلمه عن السعودية، تتجمع كوكبة من أبرع العقول البشرية في مراكز تصل بينها سيارات طائرة، الذين يكرسون ما تبقى من حياتهم للعمل “في صناعات المستقبل”، وتلبي ثمار التطور احتياجاتهم اليومية السخية. وسيمضون أوقات فراغهم في الاستمتاع بوسائل الترفيه المتنوعة ما بين الرياضة والموسيقى والمحيط، كما تقول صحيفة The Times البريطانية.

أحلام ولي العهد

وتبدأ رؤية الأمير من على رمال منطقة “رأس الشيخ حميد”، الاسم الذي أمر بتغييره إلى آخر لامع وجديد، هو: “نيوم” المشتق من كلمة new أي جديد وحرف الميم نسبةً إلى كلمة مستقبل. ويقول إعلان المدينة إنها ستكون “مُسرِعاً للتقدم البشري، ومعملاً حياً حيث يمكن لريادة الأعمال رسم مسار المستقبل الجديد”. هذا كله مختلف تماماً عن السعودية التي نعرفها بقواعدها الاجتماعية المبهمة والخوف من التغيير والإعدامات العلنية.      

وفي المدينة التي يريد أن يبنيها هناك، ستتمكن العائلات من الاختيار بين شاطئ البحر والجبل، أو المطاعم الفاخرة أو الليالي تحت النجوم. ويعرض إعلان المدينة، الذي أُنتِج بجودة عالية، مقابلات مع “رواد نيوم” من جميع أنحاء العالم -وهم متطوعون يتطلعون إلى أن يكونوا جزءاً من تجربة تقول دون خجل أنَّ هدفها هو جعلنا “بشر أفضل”. (التحسين الجيني هو أحد “صناعات المستقبل” المذكورة).

وخرجت فكرة نيوم إلى الحياة تحت أشعة شمس السعودية القاسية منذ 3 سنوات مضت، ضمن خطة ملكية أوسع لبناء مجتمع بعيد عن العقيدة الدينية المتشددة ويمتلك اقتصاداً جديداً أقل اعتماداً على النفط. ويشكك البعض في أهمية وجود خطة مثل هذه. فقد جعل النفط السعودية، أو على الأقل عائلتها الحاكمة، ثرية ثراءً فاحشاً، لكن النفط لم يعد كما كان. 

إذ انخفض الطلب على النفط الخام في الخليج بفضل التقنيات الخضراء والمنتجين المنافسين مثل شركات النفط الصخري في الولايات المتحدة. ودخل سعر النفط في حالة سقوط حر حتى قبل أن يصيبنا فيروس كورونا المستجد ويوقفنا عن القيادة أو الطيران إلى أي مكان. وفي جميع أنحاء العالم، تتوجه الشركات حالياً لتأجير ناقلات النفط فقط لتخزين وفرة النفط في جميع أنحاء العالم.

صمت تام حول مشروع نيوم

وتحتاج الرياض إلى وصول سعر النفط إلى 80 دولاراً للبرميل حتى تغطي ميزانيتها الوطنية، لكن بحلول مارس/آذار انخفض إلى 40 دولاراً، وفي أبريل/نيسان انخفض لفترة وجيزة إلى أقل من 20 دولاراً للبرميل. ويقول صندوق النقد الدولي إنه حتى الاحتياطيات النقدية الهائلة الشهيرة في الخليج معرضة للخطر، إذ تستهلكها الحكومات بمعدل سيدفعها للاختفاء في غضون 15 عاماً. أما بالنسبة للسعودية، فقد تبدو كومة من 500 مليار دولار في بداية 2020 وافرة – حتى تقرأ أنها استنزفت 27 مليار دولار من ذلك في مارس/آذار وحده، وهو أكبر إسراف مالي يحدث منذ عقدين.

وتسمى خطة الأمير لإعادة تصميم السعودية “رؤية 2030″، وتأتي نيوم في صميمها. لكن في السنوات التي تلت الإعلان عنها، كانت الكتابة عن المدينة أكثر من العمل على بنائها. وتُحدَد المسألة البسيطة المتعلقة بالتصميم الذي يُفترَض أن تكون عليه مدينة أحلام الأمير في مجموعتين رئيسيتين من الوثائق الطموحة للغاية. 

وهناك الكثير من الأمور التي يجب استيعابها، على الرغم من غياب التفسير من المسؤولين الفعليين والمديرين والاستشاريين والمعماريين والمهندسين وبالتأكيد السياسيين، بشكل عام. وتلتزم إدارة المشروع بالصمت التام. خلال الإعداد لهذا المقال، تلقت صحيفة The Times البريطانية رداً موجزاً ​​على محاولتها الثانية للاتصال بهم، وجاء فيه: “شكراً لكم على اهتمامكم بنيوم. لسنا حالياً في وضع يسمح لنا بمناقشة المشروع، لكننا سنضيفكم إلى قائمة التوزيع الإعلامي”.

“محض خيال في أسوأ الأحوال”

ومن بينها الوثيقتان الطموحتان: الأولى هي كتيب رسمي يعرض صوراً رائعة عن نيوم: مناظر طبيعية صحراوية بألوان ناعمة من الأرض، ومن طائرة بدون طيار تحوم فوق معالمها متناغمة وبارعة الدرجات. ويرسم الكتيب صورة غامضة عن مستقبل نيوم. وهناك الكثير مما ستعمل عليه؛ ومن ذلك: بناء نظام طاقة متجدد بنسبة 100%، وإنشاء نظام اقتصادي يجمع بين “البحث والتطوير والتعليم والاستثمارات”. وستعمل على تطوير نظام رعاية صحية قائم على التكنولوجيا الحيوية، سيشمل تطبيق التقدم العلمي الذي صممه أفضل الباحثين في العالم، الذين سيجذبهم مستوى المعيشة العالي للعيش هناك، على سكانها مباشرةً. وستقود نيوم ثورة في المجال الصحي، ستركز فيها على مجالات مثل: علم الوراثة، والواجهات الرقمية البيولوجية والذكاء الاصطناعي، وكلها تهدف إلى التنبؤ بالأوضاع الصحية أو منعها أو علاجها علاجاً أفضل.

ونظراً لأنه لم يُبنَ أي جزء من هذه المدينة حتى الآن، تركت انطباعاً بأنها محض خيال في أسوأ الأحوال، وفي أفضل الأحوال أكثر تكلفة مما يمكن للمملكة تحمله. لكن وفقاً لأحد الأشخاص العديدين الذين شاركوا في هذه الخطط، ربما نكون قد أخطأنا. إذ يصر جون روسانت، رئيس مؤسسة NewCities Foundation الاستشارية مقرها كندا، وعضو في المجلس الاستشاري لمدينة “نيوم”، على أنَّ المشروع ليس جنوناً كما يُعتقَد. ويقول إنَّ الحديث عن “القمر الاصطناعي” ليس في الخطط الرسمية لسبب وجيه. وهو مجرد مثال على الهدف الذي تجسده المدينة: لا يمكننا أبداً معرفة ما الذي سيبدو عليه المستقبل. ويقول إنَّ الواقع أقل إبداعاً.

ويقول روسانت: “لن يكتفوا ببناء مدينة ضخمة ويتوقعون أن يأتي الناس إليها”. إذ ستكون المرحلة الأولى هي البنية التحتية العادية للمدينة الجديدة -أي أساسيات المنطقة مثل محطات تحلية لإمدادات المياه. وسيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يبدأ تطوير الإسكان، وبعد ذلك لن يكون نموذج البناء عبارة عن ناطحات سحاب مثل تلك الموجودة في فيلم Blade Runner التي تظهر في بعض انطباعات الفنانين، ولا فورة هائلة من الهندسة المعمارية الخيالية. لكن يوضح روسانت: “إن السجل التاريخي لبناء مدن جديدة تماماً من الصفر هو سجل فقير للغاية”.

نيوم وجيران السعودية 

ومع ذلك، فإنَّ أحد جوانب المدينة الحقيقية الأشهر والأكثر إثارة للفضول، هو علاقتها مع جيران المملكة العربية السعودية. إذ تقع محافظة تبوك -حيث تقع نيوم- في المكان الذي تلتقي فيه الحدود السعودية والأردنية والإسرائيلية والمصرية على خليج العقبة عند الطرف الشمالي للبحر الأحمر. وتمتلك الأردن وإسرائيل بالفعل منتجعين سياحيين مهمين -هما العقبة وإيلات- اللذين يعملان على بعد أميال قليلة من بعضهما البعض. ومن بين التصورات التي تشملها نيوم، جسر يربط رأس الشيخ حميد بمدينة شرم الشيخ المصرية؛ مما يُحوِل المدن الأربع إلى مجمع عطلات عملاق مرتبط داخلياً طريق البر أو السكك الحديدية، ومع العالم الخارجي من خلال المطارات التي يمكن أن تعمل بالتزامن.

ويثير هذا المجمع الصدمة، كونه يضم إسرائيل، التي تجمعها علاقات دبلوماسية بين مصر والأردن لكن ليس مع السعودية، باعتباره رمزاً واحداً لكيف أنَّ هذه الخطة لا تتعلق بالسعودية كما نعرفها. بينما الرموز الأخرى تمثل قوانين المدينة الجديدة القانونية والاجتماعية المنفصلة. إذ تشمل المقترحات أن يكون لـ”نيوم” نظام قضائي خاص بها مستلهم من مدن مثل هونغ كونغ ودبي.

لن تكون مملكة سعودية جديدة، بل لن يكون هناك أي وجه شبه مع السعودية على الإطلاق.

جاء كورونا وانهارت أسعار النفط

في وقت سابق من العام الجاري، دخل سعر النفط في حالة من السقوط الحر، مهدداً خطط ولي العهد السعودي الاستثمارية الأوسع، بالإضافة إلى إثارة سؤال حول المصدر الذي يمكن منه جمع مبلغ الـ500 مليار دولار اللازم لبناء “نيوم”. ثم اجتاح فيروس كورونا المستجد، وتوقف كل شيء، بما في ذلك مشروع نيوم. كل ما هو موجود حالياً هو قصران -أحدهما للملك والآخر لابنه المفضل- وكمية كبيرة من معدات تحريك التربة. 

وأثارت حالة التوقف التام ضجة عالية من العديد من منتقدي السعودية: خيال عربي مثل جزر دبي الصناعية التي لم تُبنَ قط، أو مجرد مفاخرة فارغة، مثل ادعاء الأمير محمد بفخر قبل قتل خاشقجي أنه سيقلل من استخدام عقوبة الإعدام.

من جانبه، يعترف علي شهابي، عضو آخر في المجلس الاستشاري لمدينة نيوم، الذي أصبح بصفته سعودياً مقيماً في نيويورك متحدثاً غير رسمي للمشروع، بأنَّ أزمة فيروس كورونا المستجد ستعطي وقفة للتفكير. ويضيف أيضاً أنَّ الحاجة إلى بعض جوانب ثورة نيوم المفرطة أصبحت أقل إلحاحاً مما كان عليه عندما صيغ حلم المدينة لأول مرة. 

وكان من المفترض أن تكون نيوم منصة انطلاق للسعودية الجديدة التي تصورها الأمير -حيث يتمتع الناس بمزيد من الحريات الاجتماعية، وزيادة التأكيد على الترفيه والتسلية والتكنوقراطية- لكن هذا يحدث على أي حال. إذ لم يصدر رد الفعل الديني الذي توقعه الكثيرون رداً على قيادة المرأة وعملها، واستضافة حفلات البوب ​​ودور السينما. ويعود ذلك جزئياً إلى حبس رجال الدين الإصلاحيين وإقصاء ما يعرف بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن لا يمكن إنكار حقيقة أنَّ سكان المملكة الذين يغلب عليهم الشباب يتمتعون إلى حد كبير بهذا التغيير.

ويتوقع الأمير محمد أن يصبح حاكم المملكة “الإصلاحي” لنصف قرن قادم، فهو لا يزال في الرابعة والثلاثين من عمره فقط. وقد شاهد القليل من هذا العالم لدرجة تدفعه للسعي لإثارة الإعجاب أكثر من نظرائه المعاصرين. ففي حين التحق إخوانه بجامعات في الولايات المتحدة، تلقى هو تعليمه في الرياض وبقي فيها، في حين يمتلك ألعاب الأمراء المعتادة -يخت فاخر بقيمة 450 مليون جنيه إسترليني وقصر فرنسي.

يقول الشهابي، مثل جون روسانت، إنَّ الجوانب الأكثر جموحاً من مشروع الأمير، وتجربة “رؤية 2030” الاقتصادية الأعم، كانت بمثابة تنبيه لعقل الأمير أكثر منها توقعات صعبة وسريعة. ويضيف: “أعتقد أنَّ قيمة نيوم لزعيم بعقل متفتح هي أنها قطعة ورق فارغة. مكان يمكنك فيه إجراء التجارب”. ومع ذلك، لا نزال لا نعرف على وجه التحديد ما هي هذه التجارب.

شاهد أيضاً

النمسا – حلول رقمية مبتكرة لتقليل انبعاثات قطاع التنقل

دشنت النمسا برنامجا جديدا للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة في مجال التنقل، يركز على تحقيق …