بينما تسبر الولايات المتحدة غور أسباب تراجعها، عليها أن تدرك من أين جاءت قوتها في المقام الأول.
نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية مقالًا للكاتب الصحفي فينسنت بيفنز تحدث فيه عن النظام العالمي الذي تسوده العولمة، والأسس التي قام عليها هذا النظام، وكيف أقامت الولايات المتحدة هذا النظام في الأصل، وكيف سيكون شكل العالم إذا سقطت راية القيادة من يد أمريكا.
في مستهل مقاله، يقول الكاتب: إذا قرأتَ التعليقات الصادرة من نيويورك وواشنطن، أو تحدثتَ مع النخب في أوروبا الغربية، فمن السهل أن تتوصل إلى أن الذعر ينتاب الناس بسبب سقوط راية «القيادة الأمريكية». ومن التعهدات التي أطلقها جو بايدن في حملته الرئاسية إلى المؤسسات البحثية عبر الأطلسي، توجد نصائح تحث على إحياء السيادة الأمريكية واحتواء الصين.
لدى هؤلاء الناس ما يكفي من أسباب القلق؛ فهذه اللحظة تزعزع الأركان التي قامت عليها هيمنة أمريكا. ومن الواضح على نحو مؤلم أن الولايات المتحدة غير مؤهلة للتعامل مع جائحة فيروس كورونا؛ مما يعني عدم الاستفادة من مواطن القوة الأمريكية (لا يمكننا إطلاق النار على الفيروس على كل حال).
يتابع المقال: ظل الرئيس ترامب لسنوات يصرف وجهه عن الحلفاء، ويثير العداء مع المؤسسات الدولية. ويبدو أن الصين تُمهِّد الأجواء لوصولها إلى مرحلة القوة العظمى. ويتحدث المسؤولون الأمريكيون الآن صراحةً عن «حرب باردة جديدة» لمواجهة بكين، ويبدو أن الصين تمثل تهديدًا الآن حتى أن المؤرخ الأمريكي هال براندز من معهد أمريكان إنتربرايز يتساءل متعجبًا عما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تعود إلى العمل المتعلق بإسقاط الحكومات غير الصديقة في الخفاء.
لقد قتلتونا
وأشار الكاتب إلى أنه من غير المستغرب أن يساور القلق خبراء المؤسسة وصناع السياسة الأمريكيين وحلفائهم بشأن التراجع الأمريكي. لقد كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية هما الفائزان في العملية التي أتت بهذا العالم الذي تسوده العولمة، والمستفيد الرئيس من انتصار واشنطن في نهاية الحرب الباردة. لكن كثيرًا من الناس يشعرون الآن بشيء مختلف للغاية.
يتابع الكاتب: في أوائل أبريل/نيسان، تلقيتُ رسالة من وينارسو، وهو أحد معارفي في إندونيسيا ويدير منظمة تهتم بالناجين من القتل الجماعي الذي وقع هناك في ستينيات القرن الماضي. وكان الرجل يسعى لجمع الأموال لشراء الأرز حتى لا يجوع المجتمع من حوله في ظل الإغلاق العام المفروض في البلاد. ولا يزال الدولار مفيدًا ومؤثرًا في إندونيسيا، كما يعرف وينارسو ذلك جيدًا.
ويتشهد وينارسو بالحرب الباردة لشرح القوة الاقتصادية والسياسية لأمريكا. وأخبرني أنه من السهل أن نعتقد أن واشنطن كانت منتصرة حقًا في القرن العشرين، لأننا «جميعًا عايشنا نسخة من الرأسمالية التي تتمحور حول الولايات المتحدة والتي أرادت واشنطن نشرها». وسألته كيف انتصرت أمريكا؟ فأجاب بسرعة: «لقد قتلتونا».
يردف الكاتب: لقد أمضيتُ السنوات الثلاث الماضية بين الخاسرين في تلك اللعبة الكبرى، ومع الأفراد الذين تحطمت حياتهم حتى يتسنى قيام هذا النظام العالمي. وقضيتُ معظم وقتي في مقابلات مع الضحايا والناجين من شبكة فضفاضة من برامج القتل الجماعي التي استهدفت المعارضين المدنيين لحلفاء واشنطن في الحرب الباردة.
وتعرَّفتُ أناسًا في أربع قارات عايشوا الانقلابات ومؤامرات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) كالتي يتحدث عنها السيد براندز. ولفهم طبيعة القوة الأمريكية -ومستقبلها- فهمًا كاملًا، لابد من استيعاب أن تجاربها لا تقل أهمية عن تجارب أي شخص في قاعة اجتماعات في باريس أو مركز أبحاث في واشنطن.
الحرب وثمن الزعامة الأمريكية
ولفت الكاتب إلى أن البلاد التي ينتمي إليها وينارسو هي المثال الأكثر أهمية؛ ففي عامي 1965 و1966، شاركت الحكومة الأمريكية في قتل ما يقرب من مليون مدني إندونيسي. وكانت هذه واحدة من أهم نقاط التحول في الحرب الباردة. فإندونيسيا هي رابع أكبر دولة من حيث تعداد السكان في العالم، وأدرك صناع السياسة في ذلك الوقت أنها غنيمة أكبر قيمة من فيتنام.
ولكن ما حدث أصبح في طي النسيان إلى حد كبير في العالم الناطق باللغة الإنجليزية على وجه التحديد لأنه كان يُنظر إليه على أنه نجاح تحقق. ولم يُقتل جنود أمريكيون؛ ولم يسترعِ انتباه أحد أن هناك دولة أخرى انجذبت، انجذابًا طبيعيًّا على ما يبدو، إلى فلك الولايات المتحدة.
واستدرك الكاتب قائلًا: لكن العملية لم تكن طبيعية. واستخدم الجيش المدعوم من الولايات المتحدة انتفاضة فاشلة كذريعة لسحق اليسار الإندونيسي، الذي ظلت واشنطن تسعى إلى مواجهة نفوذه لمدة عشر سنوات، ومن ثم سيطرت على البلاد.
وتوضح وثائق وزارة الخارجية التي رُفِعت عنها السرية مؤخرًا أن الولايات المتحدة ساعدت وحرضت على القتل الجماعي في إندونيسيا، وقدمت الدعم المادي وشجَّعت على عمليات القتل وقدَّمت المكافآت للجناة.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تُقْدِم فيها الولايات المتحدة على فعل شيء كهذا؛ ففي عام 1954، قِيل إن السفير الأمريكي في غواتيمالا سلَّم قوائم القتل (قوائم بأسماء الشخصيات المطلوب تصفيتها) إلى الجيش في ذلك البلد. وفي العراق عام 1963، قدَّمت CIA قوائم بأسماء الشيوعيين واليساريين المشتبه في انتمائهم إلى حزب البعث الحاكم.
شهدت إندونيسيا في عام 1965 ذِرْوَة العنف المناهض للشيوعية في القرن العشرين. وأبادت المذبحة الحزب الشيوعي الإندونيسي الشعبي غير المسلح؛ أكبر حزب شيوعي خارج الصين والاتحاد السوفيتي، وأُطيح بالرئيس سوكارنو، أحد القادة المؤسسين لحركة عدم الانحياز والمناهض الصريح للإمبريالية، وحل محله الجنرال سوهارتو، وهو ديكتاتور يميني سرعان ما أصبح أحد أهم حلفاء واشنطن في الحرب الباردة.
عملية جاكرتا
وأوضح الكاتب أن ما حدث كان انتصارًا واضحًا للحركة العالمية المناهضة للشيوعية، إذ بدأت الجماعات اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء العالم في استلهام نموذج «جاكرتا» وبناء برامج محاكية له. وساعدهم في ذلك مسؤولون أمريكيون ومنظمات مناهضة للشيوعية عابرة للحدود.
بدورها، جَنَحت الحركات اليسارية إلى التطرف أو حملت السلاح، معتقدةً أن مصيرها القتل إذا حاولت خوض طريق الاشتراكية الديمقراطية. وفي أوائل سبعينيات القرن الماضي، رسم الإرهابيون اليمينيون في تشيلي كلمة «جاكرتا» على منازل الاشتراكيين؛ مهددين بقتلهم أيضًا. وبعد الانقلاب المدعوم من CIA في عام 1973، نُفِّذ التهديد وقُتِلوا بالفعل.
كما هُدِّد اليساريون البرازيليون بـ «أوبيراسو جاكارتا (عملية جاكرتا)» أيضًا. وبحلول نهاية السبعينيات، خضع معظم أمريكا الجنوبية لحكم حكومات استبدادية موالية لأمريكا، والتي أمَّنت موقعها في السلطة بالقتل الجماعي. وبحلول عام 1990، أوصلت فرق الموت في أمريكا الوسطى أعداد القتلى في أمريكا اللاتينية إلى مئات الآلاف.
وفي أمريكا الشمالية وأوروبا، إذا خطر ببال الناس التفكير في هذه الحملات الإرهابية، فالرواية غالبًا ما تكون أن الولايات المتحدة عقدت تحالفات مع شخصيات بغيضة ارتكبت انتهاكات يندى لها الجبين.
يعلق الكاتب قائلا: هذه رواية خاطئة؛ إذ وقفت حكومة الولايات المتحدة وراء كثير من أعمال العنف، وكانت بعيدة كل البعد عن كونها غير وثيقة الصلة بما جرى. ووُضِع معظم الدول في العالم الثالث السابق على مسارها الحالي من خلال الصراعات التي وقعت خلال الحرب الباردة. وأنتج العنف نسخة من رأسمالية المحسوبية التي تشكِّل الواقع اليومي لمليارات الناس، وهي جزء لا يتجزأ من نسخة العولمة التي انتهى إليها العالم.
حقائق ثابتة ولكن
وشدد الكاتب على أنه لا يوجد شخص عاقل يستطيع أن ينكر الأشياء العظيمة التي قامت بها الولايات المتحدة في القرن العشرين، أو أن دولًا عديدة تمتعت بالرخاء والازدهار في الوقت الذي كانت فيه في تحالفات هانئة مع واشنطن. ولكن مع مُضينا قدمًا في القرن الحادي والعشرين، سيجب على الأمريكيين مواجهة الجانب المظلم من الهيمنة الأمريكية؛ لأن معظم بقية دول العالم قد فعل ذلك بالفعل.
وأحد أسباب هشاشة النظام الحالي هو أن كثيرًا من الناس في جميع أنحاء العالم يعرفون، وفي الواقع يشعرون بذلك بالفعل من الندوب التي على أجسادهم، أن واشنطن استخدمت الوحشية لبناء ذلك النظام. ولا نعرف حتى الآن كيف سيبدو العالم لو تمددت الصين في الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة، وخَلَفتها في الموقع الذي ستخسره. وليس هناك من أسباب للاعتقاد بأنه لمجرد أن جذور هذا النظام العالمي ملوثة بالدماء، فإن شيئًا أفضل سينبعث إلى الحياة إذا انهار هذا النظام.
وبينما ينظر الأمريكيون –وهم قلقون- في أوضاع بلادهم المتراجعة في العالم، فإننا بحاجة إلى أن نفهم أن الولايات المتحدة ليست محبوبة في الواقع باعتبارها منارة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فمن الأرجنتين إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومن تيمور الشرقية إلى إيران، يشك ملايين الناس في نوايا واشنطن، حتى وإن لم يكن لديهم رغبة خاصة في محاكاة حكومة الصين هي الأخرى.
واختتم الكاتب مقاله قائلًا: ومع ذلك، فإن الفشل في إدراك الواقع، والمحاولة المستميتة لاستعادة نظام عالمي مَعِيب للغاية، يمكن أن يكون بالغ الخطورة بالنسبة للجميع.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «شبكة رمضان الإخبارية».