لأسابيع طويلة نظر الأوربيون إلى جائحة «كورونا» باعتبارها شيئًا لا يمكن أن يحدث في الأراضي الأوروبية. ربما أقنعهم بذلك أن معظم الأوبئة مثل «زيكا» و«إيبولا» وُلدا وماتا على الأراضي الفقيرة ولم يخرجا منها. لكن يبدو أن «كورونا» قد تعلّم درس العولمة جيدًا، وقرر أن يعتبر العالم قريةً صغيرة لا معنى لوضع الحدود بين بيوتها.
لذا دخل الفيروس أوروبا بلا سابق إنذار، وبات مصدر تهديد للمواطن الأبيض وغير الأبيض. يختبر الفيروس مناعة الأفراد الحاملين لها، فإما يقضي عليهم، أو يتغلبوا عليه، لكنّه في الوقت ذاته يختبر مناعة الاتحاد الأوروبي. هل يخرج الاتحاد من نفق «كورونا» المُظلم كيانًا واحدًا محتفلًا بانتصاره الجماعي على الوباء؟ أم يخرج من النفق ممزقًا إلى دوله المختلفة، كل دولة تحتفل بفوزها منفردةً على الفيروس وتشتكي «خذلان الأحبة» من باقي دول الاتحاد.
ناشدت إيطاليا الاتحاد الأوروبي بإعطائها إمدادات طبية لمواجهة الجائحة التي تهدد وجودها، لكن الرد الأوروبي تعامل مع إيطاليا كأنها دولة أفريقية. الاستجابة الأوروبية جعلت ماتيو سالفيني أبرز يميني متطرف في إيطاليا مقبولًا. فقد عقّب سالفيني قائلًا: «عندما يكون الآخرون في شدة فعلى إيطاليا أن تدفع، أما إذا وقعت إيطاليا في شدة فإنهم يغلقون حدودهم ومحافظ أموالهم».
لا يمكن توجيه اللوم لدولة مُحددة من دول الاتحاد، ولا حتى للاتحاد كاملًا، كما أن الوقت ليس وقت تبادل الاتهامات. خاصةً وأن قيام دولة بمساعدة أخرى قد يثير قلاقل سياسية واعتراضات شعبية داخل الدولة المُبادِرة. هذه الحقيقة هي ما أدركها ساسة أوروبا فلم يُعادِ أحدهم الآخر باتهامات الخيانة أو التخاذل، لكن انشغل كل واحد منهم بمحاولات إنقاذ دولته.
«كورونا» ليس أول الشقوق في كيان الاتحاد الأوروبي
لكن ماذا سيحدث إذا توقف منحنى فيروس ««كورونا»» عن الصعود، وأخذت منظمة الصحة العالمية تخفض من تصنيفها لخطورة الفيروس حتى تعلن انتهاءه للأبد؟ خطوة متفائلة وبعيدة حاليًا، لكنها سوف تحدث يومًا ما، ينتهي الوباء ويبقى الاتحاد الأوروبي. لكن حين تنحسر موجة الهلع من «كورونا» سوف تظهر الشقوق التي تملأ كيان الاتحاد الأوروبي.
من أبرز تلك الشقوق ضعف قدرة أوروبا على تحقيق تنسيق مشترك عبر حدود مختلفة. بجوار ذلك الشَق الكبير توجد شقوق متناثرة توضح البيروقراطية المتأصلة والهشاشة السياسية التي بُني عليها الاتحاد. فما قيمة سياسة الحدود المفتوحة والسوق الموحدة إذا كان إنقاذ منطقة اليورو لدولةٍ ما سوف يُشعل انتقاد الرأي العام في دولة أخرى.
دعنا لا نلم «كورونا» على تلك الشقوق، فلن يتعدى دوره سوى أنه وضع الاتحاد تحت ضغط اختبار حقيقي ومن ثم أظهر ما كان مختفيًا بالفعل. ولإثبات براءة «كورونا» من تهمة هدم الاتحاد الأوروبي، دعنا نتجاهل الشَق الخاص بـ«كورونا» مؤقتًا، ونبحث عن تصدّعات أخرى كانت في جسد الاتحاد الأوروبي من قَبل.
أزمات عدة أحدثت تصدعات في الاتحاد الأوروبي مُنذرة بقرب انهياره. أول الأحداث الضخمة كان منذ 12 عامًا في فترة الأزمة المالية العالمية عام 2008. ثم بعدها الأزمة الأوكرانية واحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم مع عجز الاتحاد عن مساعدة أوكرانيا سياسيًا أو عسكريًا.
تصدّع آخر نشب نتيجة تدفق اللاجئين على الدول الأوروبية بعد سلسلة الاضطرابات التي شهدها الشرق الأوسط. منذ لحظات الأزمة الأولى انكشف اختلاف قادة أوروبا في التعامل مع تلك الأزمة. لم يقتصر الأمر على مجرد الاختلاف القولي بل امتد إلى قيام وزراء داخلية دول الاتحاد بطرح تجميد اتفاقية «شينجن»، المكسب التاريخي للاتحاد، لمدة عامين كإجراء مؤقت لعدم قدرة الدول على إدارة أزمة اللاجئين.
على سبيل المثال رفعت المجر دعوى قضائية ضد الاتحاد الأوروبي وأغلقت معابرها مع كرواتيا، تبعتها السويد بإعلان إغلاق الجسر الرابط بين السويد والدنمارك. وفي الدنمارك ذاتها صوتت الأغلبية الشعبية على منع التعاون الأمني مع الاتحاد فيما يتعلق بالمهاجرين.
دول الاتحاد الأوروبي تخفي المعلومات عن بعضها البعض
حالة التصرف منفردًا تكررت في الأزمة الراهنة حين بدأت الدول تباعًا في غلق حدودها. بالرغم من أن المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، قالت إن دول الاتحاد الأوروبي يجب أن لا تنعزل عن بعضها البعض وألا تُوقف حرية الحركة بينها، لكن هورست سيهوفر، وزير الداخلية الألماني، قال بعد ثلاثة أيام من تصريح ميركل: إن ألمانيا راغبة في إيقاف انتشار العدوى لذا يلزم على الحكومة تقييد حركة الناس لا مجرد منع التجمعات الكبرى.
الموقف ذاته المُحب للحركة الحرة، قالته رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لين، وحذرت الدول من غلق حدودها. لكن بعد بيانها بسبع ساعات لا أكثر، قامت رئيسة الوزراء الدنماركية، ميت فريدريكسن، بإغلاق حدود بلادها. كذلك أظهر «كورونا» وجهًا آخر للدول التي تنادي دائمًا بالوحدة الأوروبية والتكافل الأوروبي، وعلى رأسهم فرنسا.
خلال شهر فبراير (شباط) الفائت اجتمع وزراء صحة دول الاتحاد مرتين في بروكسل وأعلنوا عن رغبتهم في تنسيق مشترك. بعد الاجتماعين قررت المفوضية الأوروبية إجراء مكالمة هاتفية يومية تجمع وزراء الصحة والداخلية لضمان تنسيق مشترك على مستوى مرتفع. لكن يبدو أن المكالمات الهاتفية لم تكن مجديةً، فبعد انتهاء إحدى المكالمات قررت فرنسا وألمانيا منع تصدير الكمامات الطبية للخارج، ووضع قيود صارمة على بيعها خارج الأراضي الوطنية.
الهدف الأساسي للقمة الهاتفية كان معرفة مخزون كل دولة من المعدات الطبيّة وأدوات الوقاية كي يسهل نقلها من للدول المحتاجة. وبالفعل وافق قادة الاتحاد رسميًا على تبادل المعلومات الحقيقية حول المعدات، لكن بعد يوم واحد فقط من الاتفاق صدر قرار فرنسا وألمانيا. أسوةً بالسابقيّن قررت رومانيا فرض حظر شديد الصرامة على تصدير المعدات الطبية وأدوات الوقاية. ثم أعلنت المجر أن 120 ألف كمامة تم تعطيل وصولهم لها واحتجازهم في ميناء هامبورج.
رد الفعل الأوروبي لم يكن على قدر الأزمة
الابتعاد عن الآخرين مسافة كافية من أهم وسائل الوقاية من عدوى «كورونا»، لهذا ربما تريد دول أوروبا الابتعاد عن بعضها مسافة كافية. لكن ابتعاد الأفراد عن بعضهم يعني نشاطًا اقتصاديًا أقل، فالناس سوف يعملون أقل فينفقون أقل فيستثمرون أقل. ومع بُعد الدول أيضًا عن بعضها سوف يتباطأ الاقتصاد العالمي أكثر ويحدث عزوف أكثر من الأشقاء الأوروبيين عن تحمل تبعات الوحدة ومساندة الدول المنهكة من مكافحة الأزمة.
الأمر الذي بدأت بوادره تظهر منذ الآن، فعلى سبيل المثال، الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة قدّم تسهيلات مالية ضخمة، صحيح أن ترامب يعارضها، لكن التسهيلات ماضية في طريقها ببطء. لكن الاتحاد الأووربي كانت استجابته بطيئة وأدنى من المتوقع. هذا التناقض يتماشى مع المعتاد من الطرفين، ففي حالة الأزمات تميل الحكومة الفيدرالية للتدخل كي يبقى الاقتصاد الوطني في حالة حركة مستمرة.
أما أوروبا، فبالرغم من أنها وضعت خطة عمل مشتركةً، لكنها لم تخلق سياسة مالية مشتركة. لذا لن تُفاجأ بإعلان البنك المركزي الأوروبي أنه لن يكون خط الاستجابة الأول، ولن يبالغ في تقديم الدعم المالي. كذلك أعلن البنك أن الاستجابة الأولى يجب أن تكون سياسية ثم وطنية، ثم بعد ذلك يمكن مناقشة أمر خفض الفائدة، أو تقديم دعم مالي للدول والسوق الأوروبية المشتركة.
أما في المملكة المتحدة فقد خفض بنك إنجلترا أسعار الفائدة وأعلنت الحكومة عن تخفيفات مالية بقيمة 30 مليار جنيه إسترليني. هذا القرار الذي يُعتبر أفضل من باقي قرارات دول أوروبا؛ يلفت النظر إلى التصدع الذي يلي «كورونا» في التأثير ويسبقه في الزمن، خروج بريطانيا من الاتحاد.
خروج بريطانيا له تبعات سياسية على بريطانيا بالفعل، لكن له تبعات مشابهة على الأسرة الأوروبية كاملةً. أبرز التبعات هو إضعاف القرار الأووربي الموحد فيما يتعلق بالأزمات العالمية. أو بالأدق خلق نموذج لدولة حرة تفعل ما تريد في اقتصادها لتساعد شعبها، دون أعباء التحالف المشترك.
اليمين المتطرف في أوروبا يتحين الفرصة.. فهل ساعده «كورونا»؟
لكن بعد أن أتى «كورونا» ليجعل الخوف على قوة القرار الأوروبي الموحد رفاهيةً؛ لأن الخوف الآن على الوجود الأووربي من أساسه. في عالم ما بعد «كورونا» قد لا يوجد اتحاد أوروبي، وقد لا توجد أيضًا قوة عظمى واحدة. حالة الفردية التي تتصرف بيها الدول حاليًا تخبر كل دولة أنه وقت الشدة لن توجد قوة عظمى تمد لها يد العون، سواء كان ذلك الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية.
ربما تحاول الصين استغلال الفيروس الذي بدأ لديها في تقديم نفسها كأخ أكبر للدول المصابة لتُمهد لنفسها طريق أستاذية العالم فيما بعد الأزمة. فقد تقدمت لتحل محل الولايات المتحدة في تقديم المعونات للدولة المنكوبة، وعلى رأسها إيطاليا التي تخلى عنها الأوروبيون. لكن حتى هيمنة الصين تبدو حدثًا أبعد سوف يشبه بالتأكيد حدث أهم وأقرب، موت الأساتذة الموجودين حاليًا.
وهو ما يبدو غائبًا عن وعي قادة أوروبا الذين لا يدركون أن اليمين المتطرف يقف على الأبواب. على سبيل المثال لا الحصر: إيطاليا حتى وقت قريب كان يحكمها ائتلاف شعبويّ يرفض سياسات الاتحاد التقشفيّة. في فرنسا توجد ماري لوبان التي تضعها استطلاعات الرأي الشعبي ثانيًا بعد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. إسبانيا حقق فيها اليمين المتطرف مكاسب ضخمة في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. حكومات وارسو وبراج وبودابست تحمل ضغينة للاتحاد أكثر من المودة.
حين تُدرك الشعوب أن القيادة الدولية فشلت، وأن مفهوم المصلحة المشتركة جعلهم يتحملون مغارم التقشف دون مغانم المساندة وقت الأزمة، فإنهم بالتأكيد سيلجأون إلى الحكومات اليمينيّة التي تعدهم بدولةٍ قوية يعيش فيها أبناء الدولة فقط متمتعين بمكاسب اقتصادهم ومتخففين من أخلاقيات مساندة الآخرين.