نظرت إليها كليوباترا ثم نظرت إليها الملكة فيكتوريا بعد 19 قرنًا، مسلة فُقدت في البحر وأخرى جرّت عبر شوارع مانهاتن، قصص لا تصدق عن مسلات مصر الموجودة في باريس ونيويورك ولندن
نشرت صحيفة «ذا ديلي بيست» الأمريكية تقريرًا تناولت فيه تاريخ مسلات مصر الثلاثة التي نقلت إلى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وعمليات نقلها المعقدة، ويعرض قصص «غطرسة الإمبريالية الأوروبية» التي كانت خلف نقل تلك المسلات، التي يتجاوز تاريخها تاريخ المدن التي نقلت إليها. فيما يلي ترجمة التقرير كاملًا:
في قلب باريس، وعلى بعد خطوات قليلة من القصر الكبير ومتحف اللوفر يوجد معلم فريد من نوعه بين التماثيل والنصب التذكارية التي لا تُعد ولا تحصى الموجودة في أنحاء المدينة. هناك تقف مسلة الأقصر الحجرية التي يبلغ طولها 75 قدمًا في منتصف ساحة الكونكورد، مع غطاء هرمي ذهبي ينعكس عليه ضوء الشمس في الأيام المشمسة، ومحفور على جوانبها صفوف من الكتابة باللغة الهيروغليفية المصرية القديمة تخليدًا لأعمال الفراعنة العظيمة. ومن الجلي أن المسلة في غير محلها.
تقف مسلة مشابهة على الضفة الشمالية لنهر التايمز في لندن، طُمست أجزاء من سطحها نتيجة لقرون من العنف، كما أنها تحتوي على شظايا قنبلة من الحرب العالمية الأولى.
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يوجد توأم هذه المسلة، وتحديدًا على قمة ربوة خلف متحف المتروبوليتان للفنون في حديقة سنترال بارك في نيويورك. هذه المسلات الثلاثة أقدم بكثير جدًّا من المدن التي توجد فيها.
كيف ذهبت مسلات مصر الثلاثة بعيدًا جدًّا عن موطنها؟
شهدت مسلات مصر قرونًا من الحروب والاضطرابات. أسقطتها الزلازل وأحرقتها الجيوش الفارسية، وشُحنت في نهر النيل وفُقدت في رمال الصحراء الكبرى، نظرت إليها كليوباترا ثم نظرت إليها الملكة فيكتوريا بعد 19 قرنًا، فُقدت إحداها في البحر، والأخرى جرّت جرًّا في شوارع منهاتن.
إن قصة نقل مسلات مصر هي شهادة على غطرسة الإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر التي نتجت من التقدم الصناعي والسياسي، إنها قصة عن الحروب والإمبراطوريات، وعن التطور التكنولوجي والتبادل الثقافي، إنها قصة عن الفن والعمارة تتجاوز الزمان والمكان.
وهي قصة بدأت مع نابليون بونابرت.
قبل سنوات من وصوله إلى حكم فرنسا إمبراطورًا، كان نابليون بونابرت جنرالًا شابًا مغرورًا يشق طريقه في أنحاء أوروبا للدفاع عن سيادة الجمهورية الفتية. كان من بين خططه إرسال جيش عبر البحر المتوسط إلى مصر – التي كانت آنذاك تحت سيطرة الدولة العثمانية – ثم التحرك به شرقًا إلى سوريا، فسيطرة فرنسا على هذه المنطقة من شأنه أن يشل بريطانيا من خلال عزلها عن الأراضي الشاسعة التي تستعمرها في الهند.
فُقدت إحداها في البحر والأخرى جرّت جرًّا في شوارع منهاتن.
وصل نابليون إلى ميناء الإسكندرية في الأول من يوليو (تموز) عام 1798 على رأس جيش مكون من 25 ألف جندي، وعلى الرغم من تحقيقه بعض النجاح في البداية تراجع نابليون إلى فرنسا في عام 1799، وعادت مصر إلى العثمانيين المدعومين من بريطانيا في عام 1801.
سعت القوات البريطانية المنتصرة إلى الحصول على تذكار لتخليد انتصارها على الفرنسيين. وعلى شواطئ ميناء الإسكندرية عثروا على شيء مثالي لهذا الغرض: فهناك تقبع مسلة طولها 68 قدمًا مدفونة في الرمال والطين، وهي توأم مسلة «إبرة كليوباترا» الشهيرة التي تقف منتصبة بالقرب منها.
أطلق المصريون القدماء على المسلات اسم «tekhenu»، وهو يعني «اختراق السماء». كانت هذه المسلات مخصصة لإله الشمس رع، وكانت عبارة عن «تمثيل رمزي لأشعة الشمس». ظهرت الكلمة الإنجليزية «obelisk» التي تعني مسلة بعد قرون مشتقة من الكلمة اليونانية «obeliskos» التي تعني جسمًا حادًا، وعادة ما يُقصد بها سيخًا للشوي على النار.
بُنيَت مسلتا الإسكندرية في الأصل قرابة عام 1440 قبل الميلاد، في مدينة أون (هليوبوليس) بالقرب من مدينة القاهرة الحالية، وكان الغرض منهما تزيين ما كان آنذاك أحد أعظم المعابد المجمعة في المملكة الحديثة في مصر، وهي فترة الاستقرار التي استمرت من حوالي 1570 قبل الميلاد إلى 1070 قبل الميلاد. دمر الجيش الفارسي الغازي المعبد ومعظم مدينة هليوبوليس في عام 525 قبل الميلاد، وأسقط المسلتين على الأرض.
بقيت المسلتان على حالهما في مكان سقوطهما حتى القرن الأول قبل الميلاد، عندما نقلا إلى الإسكندرية لاستخدامها في تزيين «السيزاريوم»، وهو معبد مخصص للقياصرة. وشهدت المسلتان هناك كل أعمال العنف والمؤامرات التي دامت لستة قرون من الحكم الروماني، حيث انتهى الحكم الفرعوني لمصر مع انتحار كليوباترا في عام 30 قبل الميلاد.
اكتسبت المسيحية زخمًا في مصر الرومانية، حيث برزت الإسكندرية مركزًا للنشاط الديني. وتحول معبد السيزاريوم إلى كنيسة مسيحية في القرن الثالث الميلادي. وتحت ظل المسلتين تعرضت الفيلسوفة الوثنية هيباتيا للضرب حتى الموت ثم الحرق من قبل حشد من الغوغاء المسيحيين في عام 415م.
ظلت الإسكندرية تحت الحكم الروماني حتى عام 646م عندما فتحها المسلمون هي وبقية مصر. تراجع مركز المدينة في مقابل نمو المدن الساحلية القريبة مثل رشيد. وبقيت المسلتان واقفتين معًا إلى أن أدى زلزال كبير وقع عام 1303م إلى سقوط إحداهما على الأرض. وبقيت تلك المسلة الساقطة على ذلك الوضع غارقة في وحل الشاطئ لما يقرب من 500 سنة.
أصبحت المسلة الباقية علامة بارزة للمدينة، حيث كان العوام يُطلقون عليها اسم «إبرة كليوباترا» مهملين حقيقة أنها لم تنصب في معبد السيزاريوم إلا بعد سنوات من وفاتها. من المنظور الرومانسي للتاريخ ترمز كل من الملكة كليوباترا ومسلة الميناء الوحيدة إلى التراث المصري القديم للإسكندرية. لذلك فإن تسمية المسلة «إبرة كليوباترا» ساعد على ربط المدينة بأيام مجدها الخوالي.
وضع البريطانيون الخطط لنقل المسلة الساقطة إلى لندن لتخليد انتصارهم، ورفعت فرقاطة فرنسية غارقة من المياه لاستخدامها رصيفًا يمكن من خلاله دفع المسلة الحجرية إلى سفينة بريطانية لنقلها بعد ذلك، غير أنه قد وقعت عاصفة جرفت الفرقاطة، ليغادر الأسطول البريطاني بعد ذلك بوقت قصير تاركًا المسلة في مكانها.
على مدار العقدين التاليين حاولت بريطانيا الحصول على المسلة هديةَ صداقة من الحكومة المصرية. ذكرت رسالة كتبها القنصل البريطاني في الإسكندرية صامويل بريغز عام 1829م ذكرت أن المسلة «شيء فريد من نوعه بالنسبة لإنجلترا، ويمكن عدها إضافة قيمة إلى الزخارف والآثار التي تزين العاصمة البريطانية».
أُهديت المسلة إلى بريطانيا، لكن لم تخصص أموال لنقلها. بينما هدد صاحب الأرض التي توجد فيها المسلة بتقطيعها لاستخدامها في البناء. ومع ذلك على الرغم من المحاولات والمكائد المتنوعة على مدار العقود التالية ظلت المسلة المملوكة لبريطانية غارقة في الوحل في الإسكندرية.
وحتى لا يتفوق البريطانيون عليهم فاوض الفرنسيون المصريين للحصول على المسلة الأخرى المعروفة باسم إبرة كليوبترا في عام 1820م، فإنهم أيضًا تخلوا عن هديتهم نظرًا إلى نقص الأموال وعدم وجود خطة لنقلها من مصر، وبقيت المسلتان في مكانهما في ميناء الإسكندرية كما هو حالهما منذ قرون.
في عام 1829م كتب عالم الآثار الشهير جان فرانسوا شامبليون (الذي يرجع إليه الفضل في فك رموز اللغة الهيروغليفية) إلى السلطات الفرنسية عن زوج مسلات أفضل موجود في معبد الأقصر، واقترح بشدة أن تسعى فرنسا للحصول عليهما حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن إبرة كليوباترا في الإسكندرية، لقد شعر شامبليون بأن مسلتي الأقصر – على الرغم من كونهما أقل شهرة – كانتا أكثر قيمة من الناحية الفنية والأثرية.
في 29 نوفمبر 1830م تنازل والي مصر محمد علي باشا عن ملكية المسلات الثلاثة نوعًا من التعبير عن «امتنانه لفرنسا على علامات الكرم والصداقة التي أظهرتها له في مختلف الأوقات». أنشئت سفينة نقل خشبية ضخمة أطُلق عليها اسم الأقصر (Louqsor) في ميناء طولون على ساحل فرنسا على البحر المتوسط، ورست هذه السفينة في ميناء الإسكندرية يوم 3 مايو (أيار). انتقل طاقم السفينة إلى أسطول من القوارب النهرية الصغيرة ودخلوا إلى نهر النيل عبر رشيد متجهين إلى الأقصر.
وصل الطاقم بعد شهر ليروا ما وصفها شامبليون بأنها «مدينة المائة بوابة التي تحتوي على قصور وتماثيل لأبي الهول وكمية هائلة من الآثار، وكل ذلك يشهد على عظمة الماضي واضمحلال الفترات التالية».
كانت الأقصر في ثلاثينيات القرن الماضي على بعد قرن من أن تصبح وجهة سياحية دولية. وجد البحارة قرية هادئة مليئة بالمعابد نصف المدفونة والآثار. كانت هناك حاجة لهدم حوالي 30 منزلًا لكي يتمكن العمال الفرنسيون من إنزال المسلة وسحبها إلى نهر النيل. وبعد مفاوضات حادة أدارها مترجم حكومي يُدعى إبراهيم تم التوصل إلى تسوية يعوَّض بموجبها كل مالك عقار. وقد تم لاحقًا اكتشاف أن إبراهيم تلقى رشًا كبيرة بسبب دوره في الوساطة.
نُصبت المسلة بالضبط في مكان إعدام الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت قبلها بـ43 سنة فقط.
تم توظيف حوالي 400 من الرجال والنساء والأطفال للعمل في هدم المنازل وما تلا ذلك من حفر قناة لكي تسمح لسفينة الأقصر بسحب المسلة في وضع عمودي على الشاطئ لتسهيل تحميل تلك الحمولة العتيقة. شبه السكان المحليون المذهولين –الذي لم ير معظمهم من قبل سفينة بهذه الضخامة- سفينة الأقصر بـ«مسجد عائم».
اختار الفرنسيون أخذ المسلة الغربية – الأقرب إلى النهر – لسبب واضح وهو أنه سيكون نقلها أسهل من نقل توأمها. تم أحيطت المسلة البالغ طولها 75 قدمًا ووزنها 200 طن بالخشب استعدادًا لإنزالها، إلا أن تفشي وباء الكوليرا تسبب في مقتل كثير من العمال المحليين بالإضافة إلى بعض الفرنسيين. لم يزعزع ذلك التأخير الطاقم، وانتهوا من العمل على مجموعة معقدة من البكرات التي من شأنها توزيع وزن المسلة والإجهاد الناجم عنها، مما يسمح بنزولها بهدوء على سكة أنشئت لنقلها إلى سفينة الأقصر.
في صباح يوم 24 أكتوبر من عام 1831م، أي بعد ما يقرب من خمسة أشهر من وصول طاقم السفينة إلى مدينة الأقصر أصبح كل شيء جاهزًا أخيرًا. صدر الأمر وتم إنزال المسلة على مراحل. وُضعت المسلة الضخمة في وضع أفقي ببطء وبصعوبة كبيرة، ثم سُحبت نحو السفينة المنتظرة. وأخيرًا أصبحت المسلة على متن السفينة في 19 ديسمبر (كانون الأول): «الفرحة والفخر اللذان شعر بهما الجميع عند الانتهاء من هذه العملية المهمة لا يمكن وصفه؛ لقد تكللت أربعة أشهر ونصف من العمل الشاق والمحاولات والمعاناة بالنجاح التام».
بعد ذلك انتظر الطاقم ثمانية أشهر في الأقصر لكي يرتفع الماء في نهر النيل بما يكفي لتطفو السفينة ذات الحمولة الهائلة لكي يتمكنوا من الإبحار شمالًا. غادرت السفينة الأقصر في 25 أغسطس (آب) ووصلت إلى رشيد في الأول من أكتوبر حيث حوصرت هناك لثلاثة أشهر أخرى بسبب انخفاض منسوب المياه. أخيرًا خرجت السفينة من نهر النيل إلى الإسكندرية على ساحل المتوسط، حيث حوصرت مرة أخرى بسبب سوء الأحوال الجوية حتى شهر أبريل (نيسان). وأخيرًا وصلت سفينة الأقصر إلى ميناء طولون في ليلة 10 مايو 1833م، حيث خضعت بطاقمها للحجر الصحي لمدة شهر آخر.
وصلت السفينة مدينة باريس في شهر ديسمبر، لكنها اضطرت إلى الانتظار حتى شهر أغسطس التالي لكي يصبح جريان نهر السين هادئًا بما يكفي لإنزال المسلة. بعد كل هذا الوقت والجهد وبعدما وصلت المسلة أخيرًا إلى مقرها الجديد في ساحة الكونكورد، لم تكن قاعدتها قد بنيت.
نُقل مكعب بكتلة 236 طنًّا من بريتاني ليتم نحته لإنشاء قاعدة المسلة، وأخيرًا في 25 أكتوبر 1836م رُفعت مسلة الأقصر إلى مكانها باستخدام تطبيق عكسي للأساليب نفسها التي استخدمت لإنزالها في مقرها السابق في مصر. ذكر الأدميرال في البحرية الأمريكية سيتون شرودر أن المسلة «قد تم إحضارها من الأنقاض الصامتة لأعظم مدينة في العالم القديم إلى أعظم وألمع عواصم العالم الحديث». لقد نُصبت المسلة بالضبط في مكان إعدام الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت قبل 43 سنة فقط.
وعلى الرغم من امتلاكها رسميًّا لكلا مسلتي الأقصر فإن فرنسا لم تسع مطلقًا لاستعادة المسلة الثانية توأم المسلة التي نُصبت في باريس. كما أنها لم تحاول قط نقل إبرة كليوباترا من الإسكندرية. يبدو أن فرنسا كانت اكتفت بتجربة نقل مسلة واحدة قديمة بوزن يبلغ 200 طن عبر البحر، ولم ترغب بالقيام بذلك مرة أخرى.
على الجانب الآخر في إنجلترا، كان النقاش مستمرًّا حول مسلة بريطانيا التي كان يُشار إليها في ذلك الوقت بشكل خاطئ باسم «إبرة كليوباترا». قُدم المقترح تلو الآخر إلى البرلمان لكن لم يُنفذ أي منهم بسبب التمويل. في الوقت ذلك بدأ الباحثون عن التذكارات في اقتطاع أجزاء من المسلة؛ إذ لم يتمكنوا من مقاومة إغراء وجودها في وضع أفقي بدون أي رقيب. وألقي القبض على مسافر بريطاني يحمل مطرقة يكسر بها جزءًا من الكتابات الهيروغليفية الموجودة على المسلة في عام 1859م، وقال بأنه يعرف أن هذه المسلة ملك لبريطانيا «وبوصفي فردًا من الأمة البريطانية فإنني أحاول الحصول على نصيبي منها».
أثناء وجود فريق إنجليزي يُدعى السير جيمس ألكساندر في باريس عام 1867م صُدم لدى مشاهدته الأثر المصري الرائع في ساحة الكونكورد. وبمجرد أن رأى المسلة تذكر مسلة بريطانيا المهملة في الإسكندرية وشرع في بذل كامل جهده لتصحيح ذلك الوضع.
وعمل على مدار السنوات الثمانية التالية على الشؤون المالية واللوجستية لذلك المشروع. تم تقديم عشرات الأفكار حول كيفية نقل المسلة بأمان من الإسكندرية إلى لندن. كان قد تحقق الكثير من التقدم التكنولوجي في العقود التي تلت نقل فرنسا لمسلتها باستخدام سفينة خشبية. كما حدثت ثورة في صناعة السفن في أربعينيات القرن الماضي بعد البدء في استخدام هياكل الحديد المطاوع، وكانت بريطانيا حريصة على إظهار تفوقها الصناعي كلما سنحت الفرصة. وهكذا تقرر أن تُوضع المسلة في داخل أنبوب حديدي عملاق، ثم يُسحب بعد ذلك إلى إنجلترا باستخدام سفينة كبيرة.
لقي القبض على مسافر بريطاني يحمل مطرقة يكسر بها جزءًا من الكتابات الهيروغليفية الموجودة على المسلة في عام 1859م، وقال بأنه يعرف أن هذه المسلة ملك لبريطانيا «وبوصفي فردًا من الأمة البريطانية فإنني أحاول الحصول على نصيبي منها».
عندما وصل العمال أخيرًا إلى موقع المسلة في الإسكندرية في النصف الأول من عام 1877م للبدء في الحفر لإخراج المسلة المدفونة جزئيًّا تعرضوا لتأخير كبير بسبب مالك الأرض الذي طالب الحكومة بالحصول على تعويض نظرًا لوجود المسلة في أرضه لسنوات طويلة. في النهاية حصل المالك على تسوية مرضية ليصبح متاحًا البدء في العمل الجاد.
أزيلت التربة من حول المسلة وأسفلها مع وضع كتل خشبية لدعمها مع التقدم في أعمال الحفر. اكتشفت عشرات القطع الأثرية، بما في ذلك قبو دفن يحتوي على عدة هياكل عظمية، وقد احتفظ البحارة بجماجم تلك الهياكل العظمية كتمائم.
بشكل عام كانت مهمة البريطانيين أسهل بكثير من مهمة الفرنسيين قبل نصف قرن من الزمان، وكان السبب في ذلك ببساطة هو وجود المسلة في وضع أفقي بالفعل جاهزة للنقل. لم تكن هناك حاجة لاستخدام نظام معقد من الحبال والروافع والبكرات مثل تلك التي استُخدمت في الأقصر من قبل الفرنسيين. كل ما كان عليهم هو الحفر وتحميل المسلة والإبحار بها.
بعد إخراج المسلة من التربة المحيطة بها بُني الأنبوب الحديد حولها. اكتمل بناء الأنبوب الحديدي بطول وصل إلى 92 قدمًا، وقطر حوالي 16 قدمًا. وقد عُلقت المسلة بداخل الأنبوب من خلال سلسلة من الأضلاع الحديدية، كما زودت الأنبوب بدفة وأشرعة للمساعدة في استقراره أثناء رحلته عبر البحر، وكذلك كانت هناك مقصورة صغيرة لإيواء الطاقم.
في صباح يوم 28 أغسطس 1877م كان الجو مليئًا بالضباب، ورُبط قاربي قطر يعملان بالبخار بالأنبوب – الذي كان قد أُطلق عليه اسم كليوباترا – في محاولة لسحبه إلى البحر. إلا أن المياه بدأت في الدخول إلى الأنبوب، واكتشف الغواصون أن حجرًا مخفيًّا في الرمال قد اخترق جسم الأنبوب. كان لا بد من قلب الأنبوب رأسًا على عقب لإصلاحه قبل أن تبدأ الرحلة في نهاية الأمر.
تحت قيادة الكابتن هنري كارتر سُحب الأنبوب كليوباترا من ميناء الإسكندري في 21 سبتمبر (أيلول) بواسطة السفينة أولجا، حيث توقفوا في الجزائر وجبل طارق آخذين المسلة إلى وطنها الجديد. داروا حول الساحل الجنوبي الغربي للبرتغال في 10 أكتوبر، لكن واجهتهم عاصفة رهيبة بعد أربعة أيام قبالة الساحل الشمالي الغربي لإسبانيا. ضربت الأمواج السفينتين بعنف وجرفت المياه ستة بحارة ليلاقوا حتفهم قبل أن يطلب الكابتن كارتر فصل السفينة كليوباترا وحمولتها الثمينة عن السفينة أولجا. حيث اعتبرت المسلة مفقودة في البحر الغاضب.
كانت صحيفة نيويورك تايمز مهتمة بالتكهن «بمدى عجب وحيرة علماء الآثار في المستقبل لدى عثورهم على المسلة» بعد آلاف السنين. وواصلت الصحيفة التساؤل حول ما سيعتقدونه ليس لعثورهم على المسلة في مكان عجيب فحسب «تحت سطح البحر»، لكن كذلك «مع تغليفها في أنبوب معدني لحمايتها من العوامل الطبيعية».
إلا أن المسلة لم تغرق، وسرعان ما استعادتها سفينة بخارية أسكتلندية اسمها Fitzmaurice، حيث عثرت على السفينة كليوباترا هائمة في البحر وسحبتها إلى ميناء فيرول في إسبانيا. (لم يعثر على الجماجم التي أُخذت من موقع المسلة في أي مكان، ويُحتمل أن البحارة المالطيين المؤمنين بالخرافات قد ألقوها في البحر أثناء العاصفة). وبقيت المسلة هناك لثلاثة أشهر، حيث كان قائد سفينة Fitzmaurice يقاتل للحصول على مكافأة مقابل ما فعله. وأخيرًا استعيدت السفينة كليوباترا وسحبت بواسطة قارب القطر أنجليا لتصل إلى لندن في 20 يناير (كانون الثاني) 1878م.
اقتُرحَت عدة أماكن لتكون مقرًّا نهائيًّا للمسلة. كان المكان الأفضل في وسط ما يعرف الآن باسم حديقة ساحة البرلمان إلى الشمال مباشرة من كنيسة وستمنستر، حتى إن مسؤولي المدينة تكبدوا عناء إنشاء نموذج خشبي بحجم المسلة نفسه ووضعه في الموقع المقترح لرؤية كيف ستبدو.
لكن كانت هناك مشكلة في هذا الموقع، وهي أنه سيُوضع حجر يبلغ وزنه 200 طن (بغض النظر عن القاعدة) مباشرة أعلى أنفاق خط سكة حديد المتروبوليتان. طالب أصحاب الشركة بالحصول على تعويض دائم ضد احتمال اخترقها للأرض وسقوطها على خط السكة الحديدية. فإن مسؤولي المدينة اختاروا بدلًا من ذلك وضع المسلة في مكان آخر.
في النهاية اختير موقع على ضفاف نهر التايمز شرق جسر السكك الحديدية تشارينج كروس مباشرة. في ذلك المكان وُضع الأنبوب كليوباترا على قاعدة خشبية، وعند انخفاض منسوب المياه جرى تفكيكها لإخراج المسلة منها. باستخدام رافعات هيدروليكية رفعت المسلة، كما وُضع غلاف حديدي مجهز بأذرع حولها للسماح بوضعها في وضع مستقيم.
كانت قاعدة المسلة – على عكس قاعدة مسلة باريس – جاهزة. وُضع داخل تلك القاعدة مجموعة متنوعة من التذكارات: مجموعة كاملة من العملات المعدنية البريطانية (بما في ذلك الروبية الهندية)، أوراق تشرح الحصول على المسلة ورحلتها من مصر إلى مقرها الحالي، خريطة لندن، دليل للسكك الحديدية، التوراة باللغة العبرية، الأناجيل بلغات متعددة، بعض لعب الأطفال، علبة سجائر، و«صور عشرات النساء الإنجليزيات الجميلات».
في 12 سبتمبر عام 1878م رُفعت المسلة أخيرًا إلى الوضع الرأسي أعلى قاعدتها أمام حشد من الناس. رُفع علم المملكة المتحدة وعلم الدولة العثمانية في ذلك الاحتفال. وفي اليوم التالي أُنزلت ما أطُلق عليها «إبرة كليوباترا» في مكانها وإزالة الدعامات. وفي عام 1881م أضيفت أجنحة برونزية إلى قاعدة المسلة لتغطية حوافها التالفة، وأضيف زوج من تماثيل أبي الهول إلى جانبيها لإكمال مجموعة الزخارف.
في وقت مبكر من شهر سبتمبر 1877م، وبينما كان يجري سحب مسلة لندن من ميناء الإسكندرية، كان العمل جاريًا على قدم وساق من أجل حصول الولايات المتحدة الأمريكية على أثر مماثل. حرصت الولايات المتحدة على ترسيخ مكانتها كقوة عالمية وريثة لإمبراطوريات الشرق القديمة، شأنها شأن إخوانها الأوروبيين، وقد رأت أن الحصول على مسلة أمر حاسم لتحسين سمعتها العالمية.
عن ذلك كتبت صحيفة نيويورك هيرالد: «من السخيف أن يأمل شعب أي مدينة عظيمة أن يحظى بالسعادة دون مسلة مصرية. حظت روما بهذا الشرف، وكذلك القسطنطينية. تحتوي باريس على مسلة، وكذلك لندن. إذا لم تحتو نيويورك على مسلة فإن شعوب كل تلك المدن العظيمة سينظرون إلينا بازدراء، ولن نتمكن أبدًا من الارتقاء والحصول على عظمة أخلاقية حقيقية حتى نحصل على مسلة».
جرى تبادل مجموعة من الرسائل على مدار عدة أشهر في أوائل عام 1879م قبل نشر خبر موافقة الخديوي إسماعيل باشا على منح مسلة إبرة كليوباترا الشهيرة الموجودة في الإسكندرية هدية للولايات المتحدة تعبيرًا عن الصداقة.
كتب القنصل الأمريكي العام في مصر إلبرت فارمان إلى واشنطن في ختام المفاوضات: «لا يمكن عد هذه الهبة المتمثلة في هذا الأثر القديم والشهير كأي صنيع آخر من صنائع الحكومة المصرية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي إثبات على تقديرها الكبير للصداقة القائمة منذ زمن طويل بين البلدين».
إلا أن الصداقة الدولية لم تكن هي الدافع الوحيد لإقناع إسماعيل باشا بمنح إبرة كليوباترا إلى الأمريكيين. فعندما أبرم هذه الاتفاقية في أوائل عام 1879م كانت بريطانيا وفرنسا تضغطان على الحكومة العثمانية للإطاحة به من منصب الخديوي خوفًا من ميله الشديد إلى الاستقلال. (كان إسماعيل يأمل أن تُبقي هذه الهدية الولايات المتحدة على الحياد فيما يتعلق بالنزاع على بقائه في السطلة. إلا أنه خُلع في شهر يونيو وحل محله ابنه توفيق الأكثر طاعةً لفرنسا وبريطانيا).
على عكس مسلات مصر التي حصلت عليها فرنسا وبريطانيا، كانت المسلة التي حصلت عليها الولايات المتحدة معلمًا تاريخيًّا محبوبًا وبارزًا لمدينة الإسكندرية ومشهورًا على المستوى الدولي، حيث بقيت هذه المسلة قائمة لأكثر من 18 قرنًا لتصبح رمزًا للمدينة. كان السكان المحليين على علم بأن مسلة مدينتهم قد «أهديَت» إلى الأمريكيين، لكنهم لم يتوقعوا أن يأتوا لأخذها في وقت قريب جدًّا كما حدث في أكتوبر 1879م.
أصاب مواطني الإسكندرية موجة من السخط والصدمة إزاء فكرة أخذ مسلتهم ونقلها بهذه السرعة. نُشرت مقالات معارضة لاذعة في الصحف المحلية، وكان العمال في موقع العمل مهددين بالتعرض للعنف الجسدي، وامتدت المعارضة إلى السياسيين الأوروبيين وعلماء الآثار المقيمين بالمدينة الذين أصروا على أنه من غير الشرعي أخذ الأشياء التاريخية من مصر على الرغم من إعلان الخديوي.
واستجابة لكل هذه العقبات ضاعفت فرق العمل الأمريكية جهودها مواصلين الليل والنهار في العمل لإقامة السقالات والحفر اللازمة لإنزال المسلة من على قاعدتها ونقلها إلى الميناء. لم يحتج البريطانيون إلى إنزال مسلتهم التي كانت في وضع أفقي بالفعل، لذلك لم يكن لدى الأمريكيين سوى الفرنسيين الذين ذهبوا للأقصر قبل نصف قرن لتعليمهم كيفية إنزال المسلة بأمان من قاعدتها ونقلها.
وكما فعل الفرنسيون، أنشأ الأمريكيون نظامًا ضخمًا من بكرات الرفع، ومع مواجهة بعض الصعوبة تمكنوا من إنزال إبرة كليوباترا إلى الوضع الأفقي في 6 ديسمبر. وبمجرد البدء في تحريك المسلة أصبح الحشد المشاهد – الذي كان غاضبًا ومهتاجًا في البداية – صامتًا للغاية، وهتفوا عندما أُنجز العمل، واستغرق الأمر ثلاثة أشهر أخرى لوضع المسلة على سكة خشبية تتيح دفعها إلى الماء من أجل نقلها.
تعلم الأمريكيون الدرس من البريطانيين الذين كادوا يفقدون مسلتهم في عرض البحر، لذلك اشتروا سفينة شحن مصرية خرجت من الخدمة حجمها كبير بما يكفي لأخذ إبرة كليوباترا في رحلة طويلة عبر المحيط الأطلسي. أنشئت فتحة في مقدمة السفينة المعنية واسمها دسوق (Dessoug) – نسبة إلى مدينة دسوق المصرية – وانزلقت المسلة إلى داخلها باستخدام رصيف عائم، ووضعت قاعدة المسلة التي يبلغ وزنها 50 طنًّا على قاعدة من الفولاذ في مؤخرة السفينة.
في يونيو من عام 1880م سافر الطاقم الأمريكي إلى القاهرة لتوديع الخديوي وتقديم الشكر له على مقاومة المطالبات الأوروبية والسكندرية بالتراجع عن إهداء المسلة لأمريكا. وأخيرًا في 12 يونيو تحركت السفينة دسوق مبحرة من ميناء الإسكندرية في اتجاهها إلى نيويورك.
عبرت السفينة دون أي مشكلات مضيق جبل طارق وجبل الأزور، إلا أن محركاتها تعطلت فجأة في منتصف المحيط الأطلسي في 6 يوليو، وتوقفت السفينة وأنزلت أشرعتها لمدة أسبوع إلى أن تمكن طاقمها من إجراء الإصلاحات اللازمة، وخلال ذلك الوقت اعترضوا واشتروا الخبز من سفينة نمساوية كانت في طريقها إلى القسطنطينية. في النهاية أصلحت السفينة دسوق وواصلت رحلتها لتصل إلى نيويورك في 20 يوليو وتحط مرساتها في نهر هدسون قبالة شارع 23.
لدى وصول طاقم السفينة إلى نيويورك وجدوا أن أهل المدينة ما زالوا يناقشون المكان المناسب لوضع إبرة كليوباترا به. كان مسؤولو المدينة يرغبون في وضع المسلة في إحدى الساحات سواء في الجادة الخامسة، أو الثامنة، أو شارع رقم 59، أي في زوايا سنترال بارك. كان من شأن وضع المسلة في أحد هذه الأماكن أن يجعلها ظاهرة جدًّا لجميع سكان نيويورك وسهلة الوصول إليها، لكن في الوقت ذاته كان هناك قلق من أن تراكم المباني الشاهقة حول المسلة سيحجبها ويجعلها غير ظاهرة.
مارس ويليام إتش فاندربيلت، الذي مول معظم رحلة المسلة من مصر إلى أمريكا، ضغطًا لوضعها على ربوة بالقرب من متحف متروبوليتان للفنون في سنترال بارك، وفي النهاية انتصر رأيه، وجرى تجهيز الربوة لاستقبال ساكنها الجديد.
أبحرت السفينة دسوق جنوبًا إلى جزيرة ستاتن، حيث تم فتح بدنها وسقطت أشعة شمس نيويورك على إبرة كليوباترا للمرة الأولى. بعد ذلك نُقلت المسلة إلى مجموعة من الطوافات التي سحبتها عبر الميناء إلى شارع 96 غربي منهاتن. وهناك كانت العقبة الكبيرة الأولى هي نقل المسلة عبر خطوط السكك الحديدية الموجودة على طول النهر والمستخدمة بكثافة ضمن خطوط السكك الحديدية المركزية في نيويورك.
كان إيقاف حركة القطارات لأي مدة الزمنية من أجل نقل المسلة أمرًا غير قابل للنقاش، لذلك فقد جرى بناء جسر مؤقت وتثبيته فوق الخطوط بين القطارات المارة. وبأقصى سرعة ممكنة سحب العمال بسحب المسلة التي يبلغ طولها 77 قدمًا ووزنها 240 طنًا عبر خطوط السكك الحديدية، ثم أزالوا الجسر للسماح باستئناف حركة القطارات. لم يستغرق كل هذا العمل سوى 80 دقيقة فقط.
باستخدام نظام من الركائز الخشبية سُحبت المسلة عبر المدينة، بداية بطول شارع 96 إلى برودواي، ثم جنوبًا إلى شارع 86، ومنه تحولت مرة أخرى في طريقها إلى سنترال بارك. جعلت الاختلافات في ارتفاع مستوى الأرض من عبور حديقة سنترال بارك عملًا شاقًا.
وفي الخامس من يناير 1881م وبعد عدة تأجيلات بسبب الثلوج والطقس البارد وصلت إبرة كليوباترا إلى وجهتها النهائية على قمة الربوة المخصصة لها. استغرقت رحلة المسلة من النهر إلى الموقع المخصص لها 112 يومًا بمعدل حركة يُقدر بـ97 قدمًا في اليوم.
وكما حدث في حالة مسلة لندن وضعت كبسولة زمنية في قاعدة مسلة إبرة كليوباترا في نيويورك تحتوي على عملات معدنية وميداليات ونسخة من إعلان الاستقلال. ووضعت القاعدة الأصلية المصنوعة من الجرانيت للمسلة في موقعها بواسطة عربة تجرها الخيول، وأصبح الموقع جاهزًا لكي تُنصب المسلة مرة أخرى.
توافد حشد من حوالي عشرة آلاف شخص على سنترال بارك في 22 يناير عام 1881م لمشاهدة عملية نصب إبرة كليوباترا في وضعها الرأسي. كان الصمت يخيم على الجميع، وهو صمت يصفه أحد الشهود الذين عاصروا الحدث بأنه كان صمت «غير طبيعي تقريبًا»، واستمر ذلك إلى أن وصلت المسلة إلى زاوية 45 درجة، وعندها توقفوا لالتقاط الصور. وعندما استأنفت حركة المسلة أصدر المتجمعون ما يشبه الزئير المليء بالإثارة.
وهتف هنري جورينج قائلًا: «إنه لشيء رائع أن يشهد المرء تحريك كتلة يقترب وزنها من 220 طنًّا وتغيير موقعها بشكل مهيب، لكن بسهولة وثبات كما لو كانت بلا وزن». بعد 15 شهرًا من السفر لما يزيد على 5 آلاف ميل نُصبت المسلة في وضعها الرأسي في خمس دقائق فقط.
كانت مسلة نيويورك هي آخر مسلات مصر التي خرجت منها. وتلاشت مكانتها كمقصد سياحي عظيم مع مرور الوقت، واليوم يحجبها عن الرؤية الجناح الجنوبي لمتحف المتروبوليتان للفنون. دُمرت مسلة لندن تقريبًا في عام 1917م، عندما انفجرت قنبلة ألمانية بالقرب منها خلال غارة جوية في الحرب العالمية الأولى. وفي الوقت نفسه تجد مسلة الأقصر نفسها في باريس تقف في منتصف دوار مروري يتذكره الناس دائمًا بأنه موقع لقطع الرؤوس الملكية وليس بأنه موقع تحفة مصرية قديمة.
في النهاية أصبحت مسلات مصر الثلاثة جميعها بعيدة جدًّا عن وطنها وخارجة عن السياق الذي توجد فيه، بحيث لا تعطى التقدير الحقيقي الذي تستحقه. من المحتمل ألا يعرف السائح أو المسافر أبدًا عمر المسلات أو ما مرت به لكي ينتهي بها المطاف في مواقعها الحالية. من خلال نقل المسلات من مصر جردتها هذه المدن من معناها، وحولتها إلى مجرد حلى ضمن الحلى الكثيرة التي تزين العواصم الإمبراطورية في العصر الحديث.
على الجانب الآخر من العالم في مدينة الأقصر وعلى ضفاف نهر النيل في جنوب مصر تقف أطلال معبد الأقصر، وهي في الوقت الحالي المحطة الأولى والأكثر شعبية للسياح في طريقهم إلى وادي الملوك أو الكرنك. على جانبي مدخل المعبد يوجد تمثالان ضخمان لرمسيس الثاني جالسًا وهو يرتدي التاج المزدوج الذي يمثل اتحاد مصر العليا وصعيد مصر. أمام التمثال الأيسر توجد مسلة من الجرانيت أعلى قاعدة مرسوم عليها صفوف من قرود البابون. أما أمام التمثال الأيمن فتوجد بقايا قاعدة مشابهة لكن لا توجد فوقها مسلة.
عدم التطابق هذا يمنح المعبد مظهرًا غير متوازن، إذ إن تحقيق التماثل يعوقه عدم وجود جزء لا يتجزأ من الزخرفة الخارجية. إن معرفة أن المسلة المفقودة تقف الآن في بعيدًا بآلاف الأميال في وسط باريس يبدو أمرًا عصيًّا على الفهم، بل يبدو أمرًا عجيبًا.
لخص وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ويليام إيفارتز أعمال نهب الآثار المصرية بأفضل شكل ممكن في عام 1881م عندما قال: «هذه المسلات، الأبنية العظيمة المعبرة عن النصر هي تتويج لقوة مصر ومجدها، ويبدو أن كل الغزاة قد فكروا أنهم لا يمكنهم إظهار إخضاعهم لمصر وفخرهم بهيمنتهم عليها سوى عبر أخذ مسلة – العلامة الأبرز للكبرياء والاعتزاز للمصريين – لتكريم عاصمة الأمة الغازية.»