من قاعدة عملياته في شرق ليبيا، أطلق الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر قبل تسعةِ أشهر، معركة الزحف صوب العاصمة الليبية طرابلس من الشرق والغرب في آن واحد، متوقعًا حصد انتصاراتٍ سريعة في معركة الوقت، ومُراهنًا على تحييد الوحدات الرئيسية لقوات حكومة الوفاق، لكنّ جُل تقديراته السياسية والعسكرية كانت خاطئة؛ فبدلًا من أن يحسم الحرب في ليبيا في أسبوعين كما قال ووعد، بقيت قواته عالقةً على أطراف العاصمة في معارك استنزافٍ طاحنة تحولت لاحقًا إلى حربٍ بالوكالة تخوضها تسع دول منها تركيا التي أرسلت جيشها إلى الحرب في ليبيا بعد الحصول على غطاءٍ شرعي بموافقة البرلمان.
هذا التقرير يحاول شرح كيف تتغير خريطة الحرب في ليبيا بعدما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن وحدات من القوات التركية بدأت في التحرك إلى ليبيا، يرأسها جنرال من الجيش التركي برتبة فريق سيتولى قيادة المهمة العسكرية المقرر لها المكوث مدة عام قابلة للتجديد.
أين ستقاتل القوات التركية تحديدًا؟ وما هي أبرز مهامها القتالية؟
مع أنّها جاءت إلى الحرب في ليبيا تحديدًا لدعم حكومة الوفاق، فإنّ تركيا تُعلن رسميًّا أنّ هدف هذه القوات ليس القتال في ليبيا، وإنما تجنب وقوع أحداث من شأنها التسبب في مآسي إنسانية، لكنّ رئيس مجلس الدولة الليبي خالد المشري كشف في حواره مع قناة «الجزيرة» القطرية أنّ الدور المنتظر للجيش التركي هو القتال في أماكن احتدام المواجهة مع قوات حفتر، ممثلًا في تخوم الجنوب الليبي للعاصمة الليبية وغربها.
الخُطوة نفسها قد تقوّض الانتصارات التي حققها حفتر مؤخرًا بعدما استطاع الجنرال الليبي قلب الحرب في ليبيا لصالحه بدعم روسي إماراتي، مكّنه من فرض حظر جوي على طرابلس، نهايًة بالسيطرة على مدينة سرت الليبية الاستراتيجية في الشمال، التي تحتضن قاعدة «الجفرة» الجوية، التي استعادها حفتر مؤخرًا، ومكّنته من تحقيق انتصاراتٍ عسكرية على الأرض.
لذا ففي الوقت الذي ستحاول فيه تركيا منع قوات حفتر من اختراق الطوق العسكري حول العاصمة، ممثلًا في محاور القتال الرئيسية (طريق المطار، وخلة الفرجان وعين زارة، ووادي الربيع، ومعسكر اليرموك، والزطارنة، والعزيزية، والرملة، وقصر بن غشير)، قد تنطلق معارك أخرى ستكون أكثر أهمية لاستهداف القواعد الجوية، ويسيطر الجنرال الليبي على 11 قاعدة جوية، مقابل قاعدتين فقط لحكومة الوفاق؛ قاعدتي «مصراتة ومعيتيقة»، وتشير بعض تقارير إلى أنّ القاعدة الأخيرة أصبحت خارج الخدمة بعدما استهدفتها قوات حفتر بشكلٍ مكثف.
وسبق للرئاسة التونسية أن نفت صحّة ما تداولته الصحف المحلية بشأن طلب أردوغان من الرئيس التونسي السماح باستخدام المجال الجوي؛ للسيطرة على الغرب الليبي وإحداث توازن عسكري، لكنّ الخبر وإن لم يكن صحيحًا، فلا ينفي حقيقة نقاط القوة التي يمتلكها حفتر دون غيره في جنوب وغرب ليبيا ممثلة في القواعد الجوية، حتى وإن خسر غرفة عملياته الرئيسية ممثلة في مدينة «غريان» – 100 كم جنوب طرابلس – التي انطلق منها لمهاجمة طرابلس والتي كانت مقرّ الإمدادات المركزي.
أمّا على الأرض، فالقوات التركية أمام مهمة إكمال ما بدأته قوات حكومة الوفاق، بشأن شنّ معارك ضارية ومتفرقة عبر أكثر من جبهةٍ في جنوب العاصمة وغربها، بهدف جرّ حفتر إلى اقتحام العاصمة من الشرق عبر الاصطدام بـ«كتائب مصراتة» التي تكافئه في القوة العسكرية، لذا فبعد الجولات الخاسرة التي شهدتها معركة طرابلس بعد ظهور المدرعات التركية في شوارع العاصمة، أقدم الجنرال الليبي على إجراء سلسلة تغييرات عسكرية وأمنية داخل قيادات الصفوف الأولى لقواته، إلى جانب الدفع بالكتيبتين «36 صاعقة» و«15 صاعقة» من الشرق الليبي، باتجاه العاصمة للالتحاق بالوحدات الأخرى الموجودة في محاور القتال.
وفي حال سيطرت تركيا على المطارات في غرب ليبيا، فإنها تكون أمّنت طرابلس للأبد من الهجمات الجوية، وأصبح الشرق الليبي عُرضة للقصف، كما أنّ تركيا ستؤسس قاعدة عسكرية لها في ليبيا ستكون مقابل القاعدة الإماراتية التي أسستها الإمارات عام 2016 وهي قاعدة «الخادم الجوية» جنوب طرابلس، بحسب ما نشرته «الجارديان» البريطانية، وتأسست تلك القاعدة نتيجة دعمٍ سخي للجنرال الليبي خلال معاركه للسيطرة على الشرق الليبي.
المسار السياسي للمعركة.. كيف تُغيّر تركيًا قواعد اللعبة؟
أطلق الجنرال الليبي المتقاعد المعركة في أبريل (نيسان) العام الماضي للانقضاض على طرابلس من الشرق والغرب في آن واحد؛ متوقعًا حصد انتصاراتٍ سريعة في معركة الوقت، ومُراهنًا على تحييد الوحدات الرئيسية لقوات حكومة الوفاق عند احتدام المواجهة أو الانضمام إليه، لكنّ جُل تقديراته السياسية والعسكرية كانت خاطئة؛ فبدلًا من أن يحسم الحرب في أسبوعين، بقيت قواته عالقةً على أطراف العاصمة في حرب استنزافٍ طاحنة، وفشلت في إحراز أي انتصارات فارقة تُمكنه من التفاوض بعد احتراق ورقته العسكرية، رغم أنه ما يزال يحتفظ حتى الآن بدعمٍ غير مشروط من عدة دول عربية وأجنبية، وما زال يُنظر إليه أن بمقدرته حسم الحرب.
استعان حفتر بالدعم الروسي الإماراتي والمصري، وفي المقابل استدعى الأمر من حكومة الوفاق زيارة عاجلة من مسؤوليها إلى قطر وتركيا، لتصبح ليبيا رسميًا بعد صراع الوكالة الجديد أبعد عن الصراع الأوروبي الغربي، فالتنافس لم يعد بين إيطاليا وفرنسا أكبر الحاضرين في الشأن الليبي، فتركيا وروسيا باتتا في صدارة المشهد حاليًا، وفي اعترافٍ نادر، أعلنت إيطاليا ،قبل يومين، على لسان وزير خارجيتها أن أنقرة أصبحت طرفًا أساسيًا في الساحة الليبية، بعدما كانت تتجاهلها الدول الأوروبية خلال عقد المؤتمرات الدولية المتعقلة بليبيا.
ولأنّ الدول الداعمة لحفتر ممثلة في (روسيا، ومصر، والإمارات، والسعودية، وفرنسا، والأردن) لن تسمح لتركيا بقلب مسار الحرب في ليبيا سياسيًّا ولا عسكريًّا، فإنّ دخول أنقرة (شرعيًّا) إلى ساحات القتال بعد طلب حكومة الوفاق من شأنه إطالة أمد الحرب بالوكالة وصولًا إلى الفصل الأخير الممثل في الجلوس إلى طاولة «التفاوض» بحثًا عن حلولٍ ثلاث: «القبول بالحل السياسي، أو إسقاط حكومة الوفاق، أو التنازل عن حفتر»، واللافت أنّ كل طرف لديه خياران فقط.
يبحث حفتر عن انتصارٍ عسكريٍ كاملٍ لأنّ التوازن على جبهات القتال أو الهزيمة تسلبانه شرعيته؛ لذا بقاء حفتر في المشهد السياسي مقرونٌ بإسقاط طرابلس، أو إجبار حكومة الوفاق على وقف الحرب مقابل بدء عملية سلام يكون الجنرال الليبي نفسه أحد أطرافها، وتسعى الدول الداعمة لحفتر إلى سرعة عقد مؤتمر «برلين» المزمع عقده الشهر الجاري، بعد أن تأجل أكثر من مرة بسبب خلافات بين الدول العشرة المدعوة إليه (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، تركيا، إيطاليا، مصر، الإمارات)، وتكمن أهمية ذلك المؤتمر في غياب طرفي الصراع الرئيسيين (حفتر والسراج) الذين أجهضا أكثر من مرة عقد المؤتمر؛ نتيجة ميل الوضع العسكري على الأرض لأحدهما.
رئيس حكومة الوفاق فائز السراج رحّب بالمبادرة، لكن الوفاق تتخوف من أنّ يكون المؤتمر يهدف إلى وقف إطلاق النار، ومنح حفتر ورقة تفاوضية جديدة لم يكن يمتلكها من قبل، ممثلة بالتفاوض وقواته مرابطة على مدن غلاف طرابلس، وهو ما يحوّل هزائم تلك القوات لانتصارات سياسية، وهو من شأنه الالتفاف السياسي على قرار تركيا الدخول رسميًا إلى ليبيا.
ومن جهةٍ أخرى، تقاتل حكومة الوفاق بمساعدة تركيا أملًا في انتزاع انتصار عسكري يُجبّر الدول الداعمة لحفتر بالتخلي عن الجنرال الليبي، عبر انتزاع شرعيته المتمثلة في ميادين القتال، أو القبول بوقف إطلاق النار مقابل الوصول لحل السياسي القائم على الاعتراف بالشرعية الدولية لحكومة فائز السراج، وإجبار الدول على وقف دعمها غير المشروط لحفتر.
وتجدر الإشارة إلى أن صحيفة «ريبوبليكا» الإيطالية نقلت عن مصادر في وزارة الدفاع الإيطالية وضع خطط إجلاء طارئة لرئيس الوزراء الليبي نفسه ولأهم المسؤولين بحكومة الوفاق الوطني، في حال سقطت طرابلس وفشلت الحملة التركية في حسم المعركة التي صارت حربًا بالوكالة.
بعيدًاعن طرابلس.. هل يمكن أن تندلع حروب أخرى داخل ليبيا؟
المفارقة في معركة طرابلس، أنّ حكومة الوفاق توسلت في البداية لإيقاف الحرب، التي تستهدف إسقاط آخر رقعة جغرافية ليست في متناول حفتر، وذلك بعدما دخلت قواته مدينتي غريان والزاوية بدون قتال، لكنّ المفاجأة التي لم يتوقعها أطراف القتال، هي أنّ المعركة تحولت من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم المضاد، ثم الزحف إلى ثكنات حفتر ومواقعه القديمة قبل القتال، بداية من الجنوب الليبي الذي سيستهدفه الجيش التركي.
وسبق للرئيس التركي أن أعلنش أنه سيبحث مع الروسي، فلاديمير بوتين، موضوع دعم موسكو لحفتر، في إشارة إلى المرتزقة الروس الذين يقاتلون في المعارك، وهو من الممكن أن يفرز اتفاقًا جديدًا بين الحليفين يضبط إيقاع القتال، ويحدد وجود القوات بما يمنع مواجهتهما وجهًا لوجه، مثلما حدث في سوريا حين اتفق الطرفان على انسحاب وحدات حماية الشعب الكردية من الحدود التركية، وتسيير دوريات مشتركة.
وتزامنًا مع تصاعد التوتر في ليبيا، أجرى الجيش المصري عملية برمائية بالقرب من الحدود مع ليبيا بمشاركة كبار قادة الجيش، وأحدث المعدات العسكرية وعلى رأسها الميسترال «جمال عبد الناصر»، في رسالةٍ بدت تصعيدًا واضحًا.
يقول الصحافي الليبي عبد السلام الراجحي لـ«ساسة بوست»: «هدف تركيا ليس إسقاط الشرق الليبي، كما أن قواتها تقاتل في غرب وجنوب غرب ليبيا بعيدًا عن مصر، كما أنّ الاتفاق مع حكومة الوفاق يشمل طرد حفتر من تخوم العاصمة وما حولها، وصولًا إلى قرار سياسي فقط».
وتبدو من خريطة الصراع، أن تركيا لن تسمح لحكومة الوفاق بدفع كتائب مصراته للهجوم على الشرق في حال انهزم حفتر في الجنوب والغرب، السؤال نفسه واجهه خالد المشري خلال لقائه مع قناة «الجزيرة» القطرية بشأن امتلاك تركيا لقرار الحرب وتحكمها في وقف إطلاق النار، وهو ما يتعارض مع رغبة الوفاق في استعادة كافة الأراضي الليبية التي يسيطر عليها حفتر.
ومن جهةٍ أخرى، فمصر لا يمكنها التدخل في الحرب في ليبيا بقواتٍ بريةٍ؛ لأنّ التدخل التركي جاء بناءً على دعوة واتفاق بين أنقرة والحكومة المعترف بها دوليًّا، بينما حفتر لا يمتلك شرعية دولية، بالإضافة إلى أن وجود تركيا في أقصى الغرب يحول دون تصدير القاهرة مخاوفها المتعلقة بمخاوف الأمن القومي.
مؤتمر «برلين».. من المستفيد الأكبر من إنهاء الحرب في ليبيا؟
اللافت أن أعضاء مؤتمر برلين يُشار إليهم بأنهم شركاء الحرب في ليبيا، فحفتر أطلق النفير العام للسيطرة على طرابلس، مدعومًا بدعمٍ أمريكي فرنسي روسي، بالإضافة لذخيرة مصرية، وأموال سعودية، وطائرات إماراتية، كما وصفها المتحدث باسم جيش حفتر بـ«الضربات الجوية الصديقة»، وسبق لحكومة الوفاق أن اتهمت دولًا كبرى (الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا) بتوفير غطاء دولي لحفتر بعدم إصدار قرار من مجلس الأمن بتوقف القتال إلا بعد إحراز الجنرال الليبي تقدمًا ميدانيًا يجعله شريكًا في العملية السياسية المقبلة.
كما طلبت حكومة الوفاق من فرنسا إيضاحات عاجلة بشأن العثور على صواريخ فرنسية داخل قاعدة تابعة لحفتر، والأمر نفسه تكرر، بعدما أعلنت الولايات المتحدة بفتح تحقيق عاجل بشأن تسليم الإمارات أسلحة أمريكية للجنرال الليبي استخدمها في معركته.
ومع اشتراط رئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، استبعاد حفتر من المفاوضات الدولية والعملية السياسية؛ وجد الجنرال الليبي نفسه مُجبرًا على خوض الحرب حتى النفس الأخير، مدعومًا من مصر والسعودية والإمارات لخوض معركة الحسم، وهو ما كشفت عنه صحيفة روسية بشأن حصول حفتر على منظومة دفاع جوي متطور من طراز «بانتسير إس1/ إس آي 22» روسية الصنع، تُنقل على عربة «مان إس إكس 45» ألمانية الصنع، وحسب الصحيفة، فإن الإمارات هي الدولة العربية التي تمتلك 50 قطعة عاملة من هذه المنظومة، وعلى الأرجح فإنها هي التي مدت الجنرال الليبي بها.
حصول حفتر تحديدًا على منظومة دفاع جوي متطور، جاء نتيجة حصول حكومة الوفاق على الطائرات المسيرة من طراز «بايراكتار تي بي 2»، تركية الصنع، والتي حوّلت مسار الحرب خلال الجولة الثانية متفوقة على الطائرات الإماراتية والليبية التابعة لحفتر، التي فشلت في التصدي للطائرات التركية، كما اتهمتها «منظمة العفو الدولية» بالقصف العشوائي للمدنيين والمناطق السكنية، استنادًا إلى صور الأقمار الصناعية.
وبفضل الدفاع الجوي الذي امتلكه حفتر، تمكنت قواته من إسقاط طائرة تركية من طراز «درون» باهظة الثمن، وهو ما مثّل مفاجأة كبيرة للوفاق، دفعت الجنرال حفتر – الذي تمكّن من ضبط إيقاع الحرب في ليبيا لصالحه- لإعلانه رفض مبادرة إطلاق النار إلا بعد دخول طرابلس.
وفي حال نجح مؤتمر برلين في إصدار قرار من الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، يكون الجنرال الليبي الذي عجز عن إنهاء المعركة بتحقيق أهدافها، أو إحراز أي تقدم عسكري قد حصل فعليًّا على مكسبٍ سياسي يُمكّنه من التفاوض مجددًا بوصفه أقوى رجلٍ في ليبيا، كما يرى نفسه، وحتى الآن لا توجد مؤشرات على انتهاء صراع الوكالة قريبًا، كما لا توجد أدلة قوية على أنّ القوات التركية قد تنجح سريعًا في أهدافها في ظل الدعم الذي يحظى به حفتر.