«هل أعطيتم جثة خاشقجي لشخص سوري عشوائي يمشي في شوارع تركيا»، كان هذا جزءاً من فحوى مكالمة غريبة جرت بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ويظهر فحوى المكالمة الصادم استعداد ترامب للدفاع عن السعوديين مهما فعلوا حسب شبكة CNN الأمريكية.
فإذا كان الأمريكيون قد دهشوا من رد فعل ترامب المتسامح تجاه هجوم الطيار السعودي الذي نفذ مؤخراً بقاعدة بحرية أمريكية، فإن الدهشة ستزداد عندما يعرفون فحوى مكالمة التي جرت بين ترامب ومحمد بن سلمان بشأن اغتيال خاشقجي، والتي كشف تفاصيلها مسؤول أمريكي.
إذ إن محتوى المكالمة الغريبة يكشف إلى أي مدى يمكن أن يتسامح ترامب مع السعودية تحت قيادة محمد بن سلمان، حسبما ورد في مقال كتبه بيتر بيرغن محلل شؤون الأمن القومي لدى شبكة CNN.
وأشارت CNN إلى أن أجزاء من هذا المقال مقتبسة من كتاب بيتر بيرغن الجديد «ترامب وجنرالاته: تكلفة الفوضى»، الذي نُشر مؤخراً.
مكتب التحقيقات الفيدرالية يصنفها كعملية إرهابية.. فهل يراها ترامب كذلك؟
يتعامل مكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة (FBI) مع حادثة إطلاق النار التي وقعت الجمعة الماضية 6 ديسمبر/كانون الأول بالقاعدة الجوية التابعة للبحرية الأمريكية في مدينة بينساكولا بولاية فلوريدا الأمريكية، وأسفر عن مقتل ثلاثة بحَّارة أمريكيين، باعتباره «عملاً إرهابياً».
يجعل هذا من مُطلِق النار المزعوم، الضابط بسلاح الجو السعودي محمد الشمراني، أول مواطن أجنبي ينفذ هجوماً إرهابياً مميتاً في الولايات المتحدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
فوفقاً لمؤسسة أبحاث «أمريكا الجديدة«، كان كل هجوم إرهابي جهادي مميت آخر في الولايات المتحدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، من تنفيذ مواطن أمريكي أو شخص مقيم إقامة قانونية دائمة بالولايات المتحدة.
كان رد فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الهجوم في بينساكولا خافتاً على نحوٍ غير معهود، ولم يصفه بأنَّه عمل إرهابي مع أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي يتعامل معه وفق هذا الأساس.
تحدث ترامب مع العاهل وولي العهد السعوديين، وقال: «إنَّهما مصدومان للغاية مما حدث في بينساكولا، وأعتقد أنَّهما سيساعدان عائلات الضحايا بصورة كبيرة للغاية».
يعلق كاتب التقرير قائلاً: تخيَّلوا هذا السيناريو، ماذا لو لم يكن مُطلِق النار في بينساكولا سعودياً، بل مواطن دولة مثل اليمن مُدرَجة على قائمة دول «حظر السفر» التي أصدرها ترامب وتضم سبع دول ذات غالبية مسلمة يخضع مواطنوها لعمليات «تدقيق كبير».
كان ترامب سيملأ الدنيا صراخاً بشأن حظر السفر الذي أصدره، مثلما فعل في الأسابيع الأخيرة عدة مرات في تجمعات حملته الانتخابية، وادَّعى أنَّه جعل الولايات المتحدة أكثر أمناً من الإرهابيين.
والسعودية ليست مدرجة على قائمة حظر سفر ترامب، على الرغم من حقيقة أنَّ 15 من الخاطفين الـ19 الذين قتلوا قرابة 3 آلاف شخص في أمريكا إبَّان هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كانوا سعوديين.
يُذكِّرنا هجوم بينساكولا بأنَّ ترامب ألقى بكل ثقله، بصورة أكبر حتى من أسلافه، خلف السعوديين، فدافع عن حربهم المثيرة للجدل في اليمن والحصار على قطر، ويواصل دعم النظام بعد قتل صحفي مقيم في الولايات المتحدة ومنتقد للحكومة السعودية داخل إحدى القنصليات السعودية.
وكان ترامب ثابتاً بشكلٍ خاص في دفاعه عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
كيف بدأ هذا التناغم الوثيق بين ترامب ومحمد بن سلمان؟
ساهمت عاصفة ثلجية في عقد التحالف بين آل سعود وآل ترامب.
فبعد 7 أسابيع فقط في رئاسة إدارة ترامب، في صباح يوم 14 مارس/آذار 2017، كان من المقرر أن يلتقي محمد بن سلمان الذي كان يتولى منصب ولي ولي العهد السعودي آنذاك بالرئيس ترامب لفترة وجيزة في البيت الأبيض.
بعد ذلك، كان من المفترض أن يتناول الرئيس الغداء مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لكنَّ عاصفة ثلجية ضخمة كانت تضرب شمال شرق الولايات المتحدة، ما أسفر عن إلغاء أكثر من ألف رحلة طيران في المطارات الثلاثة بمنطقة واشنطن.
كانت ميركل بالفعل قريبة من المطار في ألمانيا، بانتظار الإقلاع متجهةً إلى الولايات المتحدة، ووفقاً لمسؤول بإدارة ترامب، أرادت أن يخبرها ترامب بنفسه إذا ما كانت رحلتها ستؤجَّل أم لا، لذا اتصل ترامب بميركل، وقال لها: «إنَّني أكره حقاً تأجيل (الزيارة)، لكن هذه العاصفة ضخمة».
كان تأجيل زيارة ميركل يعني مد اللقاء الموجز بين ترامب ومحمد بن سلمان ليشمل غداءً رسمياً مع الرئيس وأعضاء رئيسيين بحكومته، وهو ما كان يُمثِّل شرفاً كبيراً للأمير البالغ من العمر 31 عاماً.
كان والد محمد بن سلمان، الملك سلمان البالغ من العمر 81 عاماً، ملكاً بالاسم فقط، لكن كان واضحاً أنَّ أصغر وأحب أبنائه إليه هو مركز القوة الناشئ في المملكة السعودية.
جمعت بين محمد بن سلمان وصهر ترامب جاريد كوشنر، وكلاهما سليل أسرة ثرية، ومتقاربان في العمر، علاقة تقوم على أساس اعتقاد بأنَّهما معاً يمكنهما تغيير الشرق الأوسط.
أقدم محمد بن سلمان على التودد لكوشنر بحماسٍ كبير. وقال كوشنر ذات مرة: «بادرني محمد بن سلمان بطرقٍ لم تبادرني بها امرأة قط»، وهذه ملاحظة علمتُ بشأنها من مصدر بإدارة ترامب وتُنشَر هنا للمرة الأولى.
أدرك السعوديون قوة العلاقات العائلية وبدا التحالف مع ترامب منطقياً وبديهياً بالنسبة لهم، خصوصاً بعد علاقتهم المتوترة مع الرئيس باراك أوباما، الذي بدا عازماً على قلب ديناميات القوة في الشرق الأوسط رأساً على عقب بالاتفاق النووي الذي توصل إليه عام 2015 مع غريمي السعودية، الإيرانيين.
إسناد السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط للسعوديين
أخضعت إدارة ترامب لاحقاً معظم سياستها في الشرق الأوسط للسعوديين.
فحين حاصر السعوديون جارتهم الغنية بالنفط، قطر، في يونيو/حزيران 2016، بعد فترة وجيزة من زيارة ترامب للسعودية، تماهى ترامب مع الأمر على الرغم من استضافة قطر لقاعدة عسكرية أمريكية رئيسية تتولى مهمة تنسيق الحرب ضد كلٍّ من تنظيم الدولة «داعش» وحركة طالبان.
انحاز الرئيس ترامب على الفور مع خطاب السعودية تجاه قطر، فغرَّد قائلاً: «من الجيد للغاية رؤية زيارة السعودية مع الملك و50 دولة تؤتي أكلها بالفعل. قالوا إنَّهم سيتبنون نهجاً متشدداً تجاه تمويل… الإرهاب، وكان الجميع يشيرون إلى قطر. ربما ستكون هذه بداية النهاية لرعب الإرهاب!». هل كان ترامب ببساطة غير مدرك لأهمية قطر بالنسبة للولايات المتحدة؟
ثم جاءت إيران: شهدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية مراراً بأنَّ إيران ملتزمة باتفاقها مع الولايات المتحدة، ولم تكن تطور أسلحة نووية.
لكن في 8 مايو/أيار 2018، أعلن ترامب أنَّه سينسحب من الاتفاق النووي الإيراني، قائلاً: «الحقيقة هي أنَّ هذا كان اتفاقاً مريعاً يفيد طرفاً واحداً وما كان ينبغي أن يُبرَم قط».
كان السعوديون مبتهجين بالإجراءات التي اتُّخِذَت ضد إيران. فأعلنت وزارة الخارجية السعودية ترحيبها بانسحاب إدارة ترامب من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات القاسية على إيران.
حرب اليمن.. ترامب يتحدى الكونغرس
شنَّ محمد بن سلمان في عام 2015 حرباً متهورة على المتمردين المدعومين من إيران في اليمن المجاور، قالت الأمم المتحدة إنَّها سرَّعت الأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم.
نتيجة لذلك، صوَّت مجلس الشيوخ الأمريكي العام الماضي لصالح إنهاء أي دعم أمريكي للحرب في اليمن، ووافق مجلس النواب على إجراءٍ مماثل. لكن لم يتفاجأ أحدٌ كثيراً باستخدام ترامب حق النقض (الفيتو) ضد القرار يوم 16 أبريل/نيسان 2019.
وبعد ذلك بشهر، مضى ترامب، رغم معارضة كبيرة من الكونغرس، قُدُماً بمبيعات أسلحة بقيمة 3 مليارات دولار للسعوديين، مُحتجَّاً في ذلك بمخاوف مزعومة تتعلق بالأمن القومي.
خاشقجي.. المشكلة أن محادثات ترامب مع الملك وولي عهده تحديداً لا تسجل
يقول الكاتب أخيراً، فكِّروا بعملية القتل التي تمت يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018 بحق جمال خاشقجي، وهو كاتب سعودي بارز دخل إلى القنصلية السعودية في إسطنبول، للحصول على مستندات ورقية كي يتمكن من الزواج من خطيبته التركية.
كان خاشقجي البالغ من العمر 59 عاماً، ويكتب لصحيفة The Washington Post الأمريكية، منتقداً للنظام السعودي، وكان يعيش في منفى ذاتي بالولايات المتحدة.
وبعد مقتل خاشقجي، تحدث ترامب هاتفياً بصورة منتظمة مع الملك سلمان ونجله. وبقيت المحادثات بين ترامب والملك سلمان ومحمد بن سلمان سرية للغاية. في العادة، يكون هناك العديد من المسؤولين الكبار الذين يستمعون إلى المكالمات التي تجري مع الزعماء الأجانب المهمين، ثُمَّ يُفرَّغ نص المكالمة ويُوزَّع على أولئك المسؤولين. لكن لمنع التسريبات، لم يُفرَّغ نصٌّ لمكالمات ترامب مع الملك سلمان ونجله.
ولكن هناك مكالمة صادمة.. أين جثة خاشقجي
في العلن، كان ترامب يدافع عن السعوديين، لكنَّه كان صريحاً حين تحدث للملك سلمان.
إذ يقول كاتب التقرير أخبرني مسؤول بالإدارة الأمريكية أنَّ ترامب قال للملك سلمان: «هذه مشكلة كبيرة. أين الجثة؟ علينا حل هذا الأمر. علينا إعادة جثته لعائلته».
ووفقاً للمسؤول، تحدث ترامب أيضاً مع محمد بن سلمان بصورة منفصلة.
سأل ترامب محمد بن سلمان قائلاً: «أكنت تعلم أي شيء عن هذا الأمر؟ هل كان لك أي دور؟ محمد، يجب أن أعرف.
هل كان هناك منشار عظام؟ لأنَّه إن كان هناك منشار عظام، فهذا يغير كل شيء. أقصد أنَّني خُضتُ بعض المفاوضات الصعبة للغاية. لكن لم يكن علي اصطحاب منشار عظام معي قط».
رد محمد بن سلمان على الرئيس: «لا أعرف. نحاول اكتشاف الأمر، لا نعرف أين الجثة، لكن نعلم أنَّها أُعطيت لشخصٍ سوري».
فسأل ترامب ولي العهد مستفهماً: «مجرد شخص سوري عشوائي يسير في تركيا؟».
فردَّ محمد بن سلمان: «حسناً، لا نعلم، نحاول معرفة ذلك، لقد أُعطيت (الجثة) لسوري يعيش في تركيا، ولا نعلم أين أخذ الجثة».
فقال ترامب: «نعم. حسناً، زوِّدونا بالتطورات، علينا أن نعرف، علينا أن نعرف».
وأضاف ترامب: «تعلم أنَّنا متمسكون بك، هذه علاقة مهمة».
تُنشَر هذه المحادثات للمرة الأولى هنا، حسب الكاتب.
وهذا باختصار هو رد ترامب على أي شيء يضم السعوديين «نحن متمسكون بكم»، حتى حين يتضمَّن ذلك ضابط جيشٍ سعودياً يُزعَم أنَّه قتل ثلاثة بحَّارة أمريكيين الجمعة الماضية.