القاهرة – طارق ضيف الله : —
لم يكن ستيفن هوكينج Stephen Hawking عالمًا في تخصصه فقط، بل كان موسوعي المعرفة. وبكلماته هو: «لقد كان مَرَضي بركةً علي»، كشف كيف أتاح له الوقت الطويل، على كُرسي العجلات، عُمق الفكر وسعة المعرفة.
مع ذلك، وكما سنرى، وَقَع العالم الكبير في أسر محدودية إدراك العقل البشري، وفي أسر «الزمن»، الذي عاش وساهم فيه بإنتاجه العبقري في علم الكونيات على مدار نصف قرن، حين أراد أن يحاول الإجابة عن الأسئلة الكبيرة، أسئلة من نوعية «هل ثمة إله لهذا الكون؟».
لقد أجاب ستيفن هوكينج عن هذا السؤال في صدر كتابه الأخير، المُعَنْوَن: إجابات موجزة عن الأسئلة الكبيرة، Brief answers to the big questions. وذلك ضمن أجوبة أخرى عن أسئلة كبيرة أيضًا.
يقول هوكينج:
ليس لدي ضغينة ضد الإله. أنا لا أريد لعملي أن يُعطي انطباعًا عن إثبات أو نفي وجود الإله. إن عملي يتعلق بوضع إطار منطقي عام لفهم الكون من حولنا.
لقد ظن الناس في قرون خَلَت أن أصحاب الإعاقة يعيشون تحت لعنة أنزلها الإله بهم، إذًا لربما أغضبت أحدًا ما هناك في السماء!
عن نفسي، أُفضل التفكير باستخدام قوانين الطبيعة، فهل يا تُرى يصبح الإله هو تلك النواميس؟ لا؛ إذ يمكن اعتبار ذلك تعريفًا له، وليس إثباتًا لوجوده.
كان أريستارخوس Aristarchus الإغريقي أول من قال إن الخسوف والكسوف يُمكن تفسيرهما بطريقة علمية، وأنهما ليستا من الظواهر الغيبية. وعلى هذا الأساس أفضل الاعتماد على ما عرفناه من قوانين الطبيعة عندما أصف ما يحدث الآن أو فيما مضى أو في المستقبل؛ هنا على الأرض أو في الفضاء.
إذًا ربما يقول أحدهم إن الإله هو تجسيد لتلك القوانين، لكني لا أستخدم هذا الوصف التشخيصي.
عقيدتي أن الكون خُلق من العدم، من لا شيء على الإطلاق، بطريقة تلقائية. وحتى لو سلمنا بأن الإله هو من سن تلك النواميس التي يعمل الكون بموجبها، فإنها أصبحت غير خاضعة له، وليس للإله أن يتدخل فيها.
يُخبرنا العلم أنه ثمة ثلاثة مكونات في الكون حولنا: المادة، والطاقة، والفضاء ذاته. وقد أعطانا أينشتاين Einstein معادلته الشهيرة في النسبية الخاصة، حيث الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء. وبناءً على ذلك تصبح المادة والطاقة وجهين لعملة واحدة. إذًا يُمكننا القول إن لدينا الطاقة والفضاء فقط.
سيقولون إن الإله هو الذي خلقهما، لكن مهلًا، تتطلب قوانين الطبيعة وجود طاقة سلبية، في مقابل الطاقة الموجبة، حيث المَعْني بالأخيرة كل المادة التي في الكون وكل طاقة النجوم والمجرات… إلخ. يقول لنا العلم إن الفضاء بطريقة ما هو المخزن الهائل لتلك الطاقة السلبية، هائل للحد الذي يكفُل دومًا نتيجة صفرية حين يُضاف، بطريقة جبرية، إلى الطاقة الموجبة. تخيل أنك على شاطئ، وتريد عمل كومة من الرمال. سيتعين عليك أخذ الرمل من منطقة مجاورة، مُحدثًا حُفرة بها كي تبني كومة الرمل التي تريدها. هكذا تكون قد صنعت تلة من الرمال، لكنك أيضًا قد صنعت ثقبًا في الأرض. ورياضيًا نتيجة عملك تساوي صفر. من ثم الكون بما فيه يؤول رياضيًا إلى الصفر. إذًا لا حاجة لإله كي يخلقه.
مع ذلك قد يسأل أحدهم: من الذي قدح شرارة الوجود الأولى؟ ما الذي تسبب في النشأة التلقائية للكون في لحظة الانفجار العظيم Big Bang؟
كي نفهم هذه النقطة علينا أن نستدعي أحد خصائص فيزياء الكم العجيبة، التي تخبرنا أن الجسيمات تحت الذرية قد تدخل إلى عالمنا فجأة وبشكل عشوائي، وتبقى قليلًا، ثم تغادره فجأة إلى حيث تظهر في مكان آخر. فلما كان حجم الكون عند بدايته الأولى ضئيلًا جدًا، في حدود الجسيمات تحت الذرية، من ثم يمكن تطبيق مفاهيم ميكانيكا الكم عليه، فيظهر فجأة للوجود وبشكل عشوائي، من لا شيء، ثم قد يختفي، ليُعاوِد الظهور من جديد، حتى جاءت لحظة ميلاده الفعلية، فظهر الكون للوجود في حجم غاية في الضآلة، ومُفعَم بالطاقة، ثم تمدد بشكل هائل، فلم يعُد بإمكانه الاختفاء من الوجود مرة أخرى.
تبقى لنا معالجة موضوع المسألة المتعلقة ببداية الزمن. تنبئنا قوانين الطبيعة أن الزمن ظهر مع الفضاء، إذ المكان مرتبط مع الزمان، منسوجان معًا كما تقول النسبية العامة. من ثم ليس هناك زمان قبل لحظة الانفجار العظيم.
أخيرًا يمكنني القول إنه من المحتمل عدم وجود جنة أو نار أو حياة أخروية؛ حيث سنتحول بعد الوفاة إلى تراب. ومع ذلك سوف نحيا بطريقة ما عندما تنتقل جيناتنا إلى الأحفاد. لدينا حياة نحياها مرة واحدة لنُقَدِّر هذا التصميم الكبير للكون… ومن أجل هذا، أنا شديد الامتنان.
انتهى كلام هوكينج.
لا أُخفي خيبة أملي حين انتهيت من قراءة الأسباب العلمية التي أوردها العالم الكبير، وأسس عليها عدم جدوى فِكرة الإله الخالق. ذلك أن هوكينج كان يعرف أكثر من غيره كيف قَلَب أينشتاين فيزياء نيوتن، ومن قَبْلَه، رأسًا على عَقِب، بعدما رَسَخَ في وجدان الناس قانون الجاذبية لمدة قرنين كاملين. لم أستطع فهم تلك القفزة غير المبررة إلى انكار خلق الإله لهذا الكون، اعتمادًا على ما في أيدينا الآن من فهم ناقص لقوانين الكون. أليس من الوارد كما حدث مِرارًا عبر تاريخ العلم، ظهور نظريات جديدة تشرح بشكل أعمق ما لا يُمكننا فهمه الآن؛ كمسألة ظهور الجسيمات تحت الذرية عشوائيًا، ثم اختفاؤها لتظهر في مكان آخر. خطأ منهجي وقع فيه العقل الجبار، فعلق فكرته عن عدم جدوى وجود الإله على خيط واهن مع الأسف.
كما وقع أسير الحديث عن نشأة الكون من تلك البداية الضئيلة الكثيفة، باعتبار تخصصه في علم الكون Cosmology، مُهمِلًا الحديث عن ظاهرة الحياة على سبيل المثال، مع أنه ليس لدينا للآن فهمًا مؤسسًا على العلم وحده، ومُجمع عليه، قادر على تفسير نشأة الحياة، ناهيك عن الموت والبعث والنشور.
لقد فشل هوكينج في إجابته عن السؤال الذي طرحه بنفسه عام 1988م: «ما الذي نَفَخَ النار في المعادلات، فأخرج لنا كونًا يُمكننا وصفه؟» وإن المرء لَيَعْجَب، كيف تؤدي تلك النشأة بالمُصادفة التي يطلب منا ستيفن تصديقها، إلى كل هذا الجمال والأناقة في المعادلات، التي ساهم هو في كتابتها، لتصف هذا الكون الرائع بكل دقة. بالتأكيد ثمة من أعطى لهذا الكون وجوده من العدم، وركَّب فيه آليات عمله، على هذا النحو من الجمال والجلال.
الأسئلة الكبيرة – بطبيعتها – أكبر من أن يُجيب عنها العقل بمفرده؛ لذلك أعتقد أن للعلم والإيمان مسارين مختلفين. الإيمان طريقه القلب، الفطرة، الوجدان، المشاعر… إلخ، والعلم طريقه العقل، والمدركات الحسية القابلة للقياس… إلخ. طريقان لا يتقابلان. وسيظل القلب قادرًا على استقبال أبسط الإشارات ليؤمن بإله خالق، أبدع هذا الكون، وأجرى نواميسه، وهو وحده القادر على تعطيلها متى شاء. ولن تُجدي كل علوم الدنيا نفعًا في إقناع عقل من قال بعدم جدوى وجود الخالق.
ستيفن هوكينج.. لترقُد روحك في سلام، فقد قدمت للإنسانية نموذجًا رائعًا وعلمًا نافعًا، وقضيت عمرك تتساءل عن الخالق، بغض النظر عما انتهيت إليه من إنكار. وإني لأتذكر قول الصوفي عبد القادر الجيلاني عن الحلاج الصوفي: «عَثَر الحلاج، ولم يكُن في زمانه من يأخُذ بيده، ولو أدركته لأخذت بيده». فأقول ربما لم يوجد من المؤمنين من له مِثل عقلك فيُحاججك. لله الأمر جميعًا، وعساك قد أفضيت إلى رحمة الله.