تحول يوم أمس الجمعة الخامس والعشرين من أكتوبر موعد انطلاق مظاهرات العراق، إلى يوم دام بعد سقوط 42 قتيلاً وأكثر من ألفي مصاب من المحتجين، بحسب آخر إحصائية نشرتها «مفوضية حقوق الانسان» في العراق.
في العاصمة بغداد، وفي مدن الجنوب التي ترزح تحت الفقر والبطالة، وانتشار المليشيات المسلحة الموالية لإيران، تصاعدت الموجة الثانية من الاحتجاجات خلال شهر أكتوبر الجاري، ورغم تعهدات الحكومة وأجهزتها الأمنية بعدم تكرار ما حدث في الأول من أكتوبر من قمع سقط فيه 157 قتيلًا من المتظاهرين وأُصيب فيه أكثر من 6 آلاف آخرين، إلا أنَّ ما حدث أول مرة حدث ثانيةً في بغداد، ومدن الجنوب
حرق مقار الأحزاب والمليشيات المسلحة.. في البدء كان قتل المتظاهرين
في محافظات المثنى وميسان والكوت والبصرة وذي قار والعمارة، وبعد إطلاق النار على المتظاهرين، حاصرت الحشود الشعبية مقار الأحزاب والمليشيات المسلحة هناك، ففي محافظة المثنى وخلال اتصال هاتفي أكد الصحافي والناشط في التظاهرات خليل بركات إحراق مقار كل من: «مليشيا عصائب اهل الحق» الموالية لإيران، وحزب «الدعوة» الإسلامي، و«تيار الإصلاح»، و«مليشيا بدر»، و«مليشيا سرايا الخرساني»، و«ائتلاف النصر» الذي يقوده رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي.
وأضاف بركات: «مبنى الحكومة المحلية كان هدفًا للمتظاهرين الغاضبين وبعد حصاره وطرد عناصر الأمن المكلفين بحراسته دخله المحتجون وأضرموا فيه النيران، لكن عددًا منهم حوصر داخل المبنى وسقط جراء ذلك 12 متظاهرًا حرقًا فضلًا عن إصابة العشرات».
ويذكر الصحافي خليل بركات أنّ المتظاهرين غيروا أسلوب وحولواهم المظاهرات إلى اعتصامات مفتوحة، ورفعوا لافتات على أبواب المؤسسات الحكومية والأحزاب والمليشيات كُتب عليها: «مغلقة بأمر الشعب».
في محافظة ميسان أخذت المظاهرات منحى أكثر دموية، فبعد مقتل تسعة متظاهرين خلال تجمعهم حول مقر «مليشيا عصائب اهل الحق»، حدثت صدامات مسلحة بين اهالي الضحايا ومقاتلي تلك المليشيا، وفي شهادته يقول مبين الخشاني، أحد المشاركين في المظاهرات: «أصيب قائد مليشيا العصائب هادي العلياوي في ميسان، وخلال نقله إلى المستشفى بسيارة إسعاف، لاحق أهالي المتظاهرين الذين سقطوا برصاص المليشيا سيارة الإسعاف وقتلوا هادي العلياوي وشقيقه وسام».
وفي أول رد فعل على مقتل هادي العلياوي قال المتحدث باسم المليشيا نعيم العبودي، عبر حسابه الشخصي على «تويتر»: «طوال معارك التحرير مع «داعش» كان في المقدمة لم يستطع الارهابيون أن يفتوا من عزيمته، اليوم يستهدف من قبل المندسين والملثمين في مدينة العمارة فيجرح ثم يتبعوه فيقتلوه في المستشفى».
لكن فيديو يظهر أن هادي العلياوي أُخذ من سيارة الإسعاف مع شقيقه قبل وصولهما إلى المستشفى، وفي الفيديو يظهر مجموعة من الشباب الغاضبين وهم يحاولون إخراج عناصر المليشيا من الإسعاف وهم يصرخون: «ذيول» والتي تعني في العراق التبعية لإيران.
وفي بيان لها أكدت مليشيا «عصائب أهل الحق» مقتل مدير مكتبها في محافظة ميسان العراقية، وسام العلياوي وشقيقه، جراء ما قالت إنه هجوم مسلح على مقرها، دون ذكر مزيدٍ من التفاصيل.
في محافظة العمارة أيضًا وخلال محاولات لاقتحام مقر مليشيا «عصائب أهل الحق» سقط عدد من القتلى والجرحى، كما حدث ذلك في محافظة ذي قار والمثنى، وأظهرت مقاطع مصورة بثها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعية عناصر ملثمون من المليشيا يعتلون أسطح المباني ويطلقون النار على المتظاهرين.
هل أعطت المرجعية الدينية الشيعية العراقية الضوء الأخضر لقمع المتظاهرين؟
في خطبتها الأسبوعية التي تزامنت مع انطلاق المظاهرات، حذرت المرجعية على لسان خطيبها في مدينة كربلاء عبد المهدي الكربلائي من الفوضى والعنف خلال الاحتجاجات، ودعت المتظاهرين إلى الابتعاد عن التخريب وارتكاب الأعمال المسيئة، وطالبتهم بالتزام السلمية، وطالبت الدولة بـ«الوقوف بحزم أمام التدخلات الخارجية».
تلك الخطبة التي عدها المتظاهرون بمثابة الضوء الأخضر للسلطات العراقية والمليشيات من أجل قمعهم وقتلهم. وعن هذا يقول محمد بلال وهو أحد نشطاء المظاهرات في بغداد: «أكثر من هذا التواطؤ؟ إنهم يبيحون قتلنا، المرجعية تشترك مع الحكومة والمليشيات لإسكاتنا، وبدل أن تطالب السلطة الفاسدة بكف رصاصها عن صدورنا، تطالبنا بالسلمية، ونحن منذ البداية خرجنا بصدورنا العارية ولم نحمل غير العلم العراقي، هل ترى المرجعية والسيستاني كيف يقنصوننا في الشوارع؟ لن نسكت عن حقنا والمرجعية يجب ان تسقط أيضًا».
«موقعة جسر الجمهورية»
في بغداد ومع انطلاق الاحتجاجات توجه المتظاهرون من ساحة التحرير لاقتحام المنطقة الخضراء، وعند جسر الجمهورية أزال المتظاهرون الكتل الكونكريتية التي وضعتها قوات الأمن، ووصلوا إلى بوابات المنطقة الخضراء شديدة التحصين، ولكن حدث بعد ذلك أن استخدمت تلك القوات الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع من أجل منع المتظاهرين من دخول الخضراء.
وليد عامر أحد المتظاهرين الذين حاولوا اقتحام المنطقة الخضراء يسرد موقعة جسر الجمهورية ويقول: «منذ الفجر بدأنا بالتجمع في ساحة التحرير ومع طلوع الشمس توجهنا إلى جسر الجمهورية للعبور إلى المنطقة الخضراء، كان عددنا يتجاوز 3 آلاف متظاهر، غالبيتنا العظمى من الشباب. استطعنا إسقاط الكتل الكونكريتية من على الجسر وتخطينا كذلك قوات مكافحة الشغب والأسلاك الشائكة، ولم نتعرض لأي إطلاق نار، وعند الظهر وخلال التحضيرات لاقتحام بوابة المنطقة الخضراء تغير كل شيء».
يواصل وليد «ظهرت لنا قوات ملثمة وترتدي الزي الأسود وبدأت بإطلاق الرصاص الحي علينا بشكل مباشر، وقنابل الغاز المسيل للدموع، كانوا يطلقون الرصاص على رؤوسنا، رأيت بعيني العشرات يسقطون قتلى وجرحى، وبدأنا بالهرب من أمام البوابة باتجاه جسر الجمهورية، هنالك شباب سقطوا عند البوابة ومن ثم اعتقلتهم تلك القوات».
ويضيف وليد: «تلك القوات أعادت الكتل الكونكريتية إلى جسر الجمهورية وأغلقته في وجه المتظاهرين»، مؤكدًا أنَّ تلك القوات تختلف عن القوات الحكومية الموجودة على جسر الجمهورية ومداخل المنطقة الخضراء.
حظر التجوال لم يمنع الاعتصام في ساحة التحرير
بعد يوم طويل، أعلنت الحكومة العراقية فرض حظر للتجوال في المحافظات التي شهدت تظاهرات وأحداث عنف، وخول رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي المحافظين، بفرض الحظر الجزئي أو الكلي بحسب ما يتطلبه الوضع الأمني.
كذلك أعاد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي منصب الناطق العسكري باسمه بعد إلغائه بداية توليه الوزارة، وقد اعلن وزير الداخلية العراقي ياسين الياسري، أنَّ عبد المهدي كلَّف اللواء الركن عبد الكريم خلف ليكون ناطقًا رسميًّا باسم القائد العام للقوات المسلحة.
ومع بدء ساعات صباح اليوم، اليوم الثاني للمظاهرات وفي بغداد تحديدًا، نصب المتظاهرون الخيام في ساحة التحرير، وأعلنوا عن بداية اعتصام مفتوح حتى تستجيب الحكومة لمطالبهم المتمثلة باستقالة البرلمان والرئاسات الثلاث (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وئيس البرلمان) وإجراء انتخابات مبكرة وتعديل الدستور وكذلك تعديل قانون الانتخابات الذي يعزز المحاصصة الطائفية والحزبية. فهل ينجح العراقيون وتُستجاب مطالبهم؟