تُركز التغطية السائدة للخلافات داخل مجلس التعاون الخليجي على مسألتين رئيسيتين؛ أزمة قطر، والتقارب العماني-الإيراني. حتى يكاد المتابع يعتقد أنهما المصدر الوحيد لكافة النزاعات، بيد أن هناك إشكاليات أخرى ربما تكون أكثر جوهرية، أهمها الحدود.
في عالم المثاليات، يُفتَرض أن يقوي هذا الجوار الروابط الخليجية، بيدَ أنه في عالم الواقع كان سببًا في زرع العداوات ونسج المؤامرات ونشوب الصراعات، خاصة منذ ظهور الاكتشافات النفطية.
بعض هذه النزاعات أكثر صخبًا من الآخر، لكنها تتضافر جميعها لتكشف حقيقة هامة تضيع في خضم الصخب، هي أن الشروخ في جدار مجلس التعاون أخطر مما يدور حوله اللغط على السطح.
حدود برية وبحرية تُقحِم عمان في أتون الخلافات السياسية
تشترك عمان في حدود برية مع ثلاث دول، هي الإمارات من الشمال الغربي، واليمن من الجنوب الغربي، والمملكة العربية السعودية من الغرب. وتشترك السلطنة أيضًا في حدود بحرية مع دولتين، هما إيران وباكستان. فيما يشكل بحر العرب حدود عمان الساحلية إلى الجنوب الشرقي، وخليج عمان في الشمال الشرقي.
في بداية القرن الحادي والعشرين، كان انعدام الأمن يهيمن على الحدود العمانية، خاصة مع اليمن؛ ما تمخض عن أسوار وجدران على امتداد أجزاء كبيرة من الحدود، للحد من المشكلات وتطويق المخاطر.
لكن قبل اكتشاف احتياطيات النفط، لم تهتم عُمان ودول الخليج الأخرى بترسيم حدودها. ولأن شواغل السكان كانت بسيطة، وهم يجوبون الصحراء ويرعون قطعانهم؛ كانت الحدود الرسمية لا تعني الكثير، ولم يكن الولاء لبقعةٍ سياسية معينة أمرًا ضروريًا.
كانت الأماكن الوحيدة التي تهيمن عليها سلطة منظمة؛ هي تلك الواقعة بالقرب من الموانئ أو الواحات. لكن ذلك تغير بعد شروق شمس عصر النفط، فبرزت الحاجة إلى ترسيم الحدود بين الدول، لتوزيع ملكية المورد الثمين المكتشف حديثًا، ما أسهم في تشكيل مفهوم الدولة الحديثة.
حواجز نفسية وفجوات اجتماعية.. هذا ما أتت به الأسوار الحدودية
تقع دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الشمال الغربي من عمان، وتبدأ حدودهما الممتدة بطول 250 ميلًا عند النقطة الثلاثية بين عُمان والإمارات والسعودية، ثم تمتد شمالًا إلى خليج عمان.
على الرغم من أن كلا البلدين عضوان في «مجلس التعاون الخليجي»، إلا أن حكومة الإمارات العربية المتحدة شيدت جدارًا حدوديًا؛ في محاولة لوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين والمخدرات والإرهاب بين البلدين.
كان للسياج الأمني الذي يطوق كامل الحدود تأثير سلبي على قطاع السياحة وتداعيات أخرى اجتماعية بسبب تقييد الحركة عبر الحدود. صحيحٌ أن الأسوار الحدودية تطوق أكثر من 40 دولة حول العالم، منذ سقوط حائط برلين في عام 1989، إلا أن معظمها يقع في منطقة الشرق الأوسط.
وكما هو الحال مع ارتفاع الأسوار، ترتفع خنادق وأبراج مراقبة وكاميرات حديثة وأسلاك شائكة ومستشعرات حركة، وأيضًا العديد من الحواجز النفسية والاجتماعية بين الدول.
تطورات إيجابية لم تضع حدًا للنزاعات الحدودية
وضع إعلان مايو (أيار) 1999 غير المتوقع بشأن النزاع القائم بين الإمارات وسلطنة عمان؛ حدًا لخلاف دام ثلاثة عقود، مما فتح الباب أمام التعاون الاقتصادي والسياسي، وكان بمثابة تغيير جذري في ميزان القوى الإقليمي.
غطت الاتفاقية، المستندة إلى اتفاقات عامي 1959 و1960، جزءًا من الحدود الإماراتية العمانية، من أم الزمول إلى الشرق من عقيدات، إلى الحدود الثلاثية بين الإمارات وعمان والسعودية.
في خطوة أخرى لتعزيز العلاقات مع أبو ظبي؛ منحت الحكومة العمانية لمواطني دولة الإمارات حق امتلاك العقارات في السلطنة، دون أي قيود، كما أصدرت الدولتان تأشيرة مشتركة لتعزيز التجارة والسياحة البينية.
على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، لم تنته النزاعات الحدودية. ففي مايو 2000، على سبيل المثال، ظهرت تقارير عن مواجهات مسلحة بين القوات العمانية والإماراتية على طول حدود رأس الخيمة.
المصالح الاقتصادية تتجاوز النزاعات الحدودية
خلال العقود الماضية، لم تعرقل النزاعات الحدودية التي بقيت دون حل، سعي البلدين لتحقيق تعاون اقتصادي أكبر. أحد الأسباب وراء ذلك هو أن الاقتصاد العماني صغير مقارنة بمعظم الجيران الخليجيين.
بلغ إجمالي الناتج المحلي للسلطنة 70.7 مليار دولار في عام 2017، مقارنة بـ686.7 مليار دولار في المملكة العربية السعودية، و382.6 مليار دولار في الإمارات العربية المتحدة، و166.9 مليار دولار في قطر، و120.1 مليار دولار في الكويت.
أما احتياطيات النفط العمانية فأكثر محدودية، وسوف تنفد في وقت أقرب من احتياطيات جيرانها. بالإضافة إلى ذلك، أدى انخفاض أسعار النفط إلى عجز الميزانية خلال السنوات الأربع الماضية.
وبلغ العجز في عمان خلال عام 2015؛ حوالي 17% من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفع إلى 20% في عام 2016، وانخفض إلى 13% في عام 2017 وإلى 7% في 2018.
نتيجة لذلك، اضطرت الحكومة إلى خفض الدعم المقدم للإسكان والوقود والسلع العامة الأخرى. كما أُجبِرَت على اقتراض الأموال من الأسواق المحلية والدولية، وإصدار سندات بأكثر من 11 مليار دولار.
علاوة على ذلك، خفضت ثلاث وكالات ائتمان رئيسية تصنيف الدين العماني إلى «غير المرغوب فيه» على مدى السنوات الثلاث الأخيرة. ومثل العديد من دول الشرق الأوسط الأخرى، تعاني عُمان من بطالة مرتفعة، بلغت 17.5% في عام 2016، وأثارت احتجاجات شعبية في يناير (كانون الثاني) 2018 ما أجبر الحكومة العمانية على التعهد بخلق 25 ألف وظيفة وفرض حظر على توظيف المغتربين.
شكوك الماضي تعكر صفو التفاؤل بالمستقبل
بين عامي 1952 و1999، مرت العلاقات الإماراتية العمانية بأربع مراحل مختلفة:
المرحلة الأولى: 1952-1971، علاقات متوترة سيطرت عليها أزمة البريمي.
المرحلة الثانية: 1971-1979، ذوبان الجليد السياسي.
المرحلة الثالثة: 1979-1999، علاقات سياسية واقتصادية أكثر دفئًا.
المرحلة الرابعة: بعد مايو 1999، نظرة متفائلة حول شكوك الماضي.
قبل الثاني من ديسمبر (كانون الأول) عام 1971، كانت سلطنة عمان تعتبر الإمارات جزءًا من أراضيها. ونتيجة للنزاعات التاريخية، ورغم دعم السلطان قابوس بن سعيد لإقامة دولة الإمارات العربية المتحدة، خلَّف الصراع على السيادة الإقليمية ندوبًا في جسد العلاقات بين البلدين، على الأقل حتى عام 1979.
اتسمت الفترة من عام 1971 إلى عام 1979 بتقلبات كبيرة في السياسات التي انتهجتها الجارتان، مع بعضهما البعض وكذلك مع أطراف ثالثة. فعلى سبيل المثال رفضت مسقط باستمرار، الحفاظ على علاقات دبلوماسية كاملة مع الإمارات العربية المتحدة ولم يكن لها سفير في أبو ظبي.
ورغم أن هذه المسيرة الدبلوماسية أغضبت الشيخ زايد، فقد قدمت أبو ظبي دعمًا غير محدود للسلطان قابوس في الحرب ضد «الجبهة الشعبية لتحرير عمان (PFLOAG)».
تبرعت أبو ظبي بـ28 سيارة مدرعة – جزء كبير من ترسانة الإمارة المحدودة – لإخماد التمرد الشيوعي في محافظة ظفار العمانية. ولم يكتف الشيخ زايد بتزويد قابوس بالعتاد العسكري، بل وافق على نشر قواته في شمال عمان، مما سمح للقوات الموالية للسلطان بالانتشار جنوبًا في جميع أنحاء ظفار.
على الرغم من هذه الإشارة الواضحة على التعاون، تدهورت العلاقات بين الإمارات وعمان نتيجة اتفاقية الحدود الإماراتية السعودية عام 1974، التي احتجت عليها مسقط بقوة لأنها أعدت على أجزاء من الأراضي العمانية. حتى بعدما أقنع الإماراتيون العاهل السعودي بضرورة إعادة رسم الخريطة المتفق عليها في عام 1974، ما أنهى مؤقتًا النزاع الحدودي الطويل، إلا أن القلق ظل مستمرًا ودفع عمان إلى تقديم شكوى إلى «الأمم المتحدة» في عام 1999.
اندلع النزاع الحدودي بين عمان وإمارة رأس الخيمة مرة أخرى في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1977، ومن المفارقات أنه اليوم نفسه الذي اغتيل فيه سيف غباش، أول وزير دولة إماراتي للشؤون الخارجية.
خلايا تجسس وشراء ولاءات ومخاوف ما بعد قابوس
لم تستكمل الإمارات وعمان ترسيم حدودهما البرية المشتركة إلا في عام 2008، أي بعد قرابة عقدٍ من اتفاق الحدود المؤقتة عام 1999. لكن بعد عقدٍ آخر وتحديدًا في 2017؛ عرض «متحف اللوفر الإماراتي» خريطة تظهر محافظة مسندم العمانية باعتبارها أرضًا تابعة لدولة الإمارات، ما أثار استياء شعبيًا في السلطنة.
لم تنتهِ الأزمة بتوضيح الإمارات أن الخطأ غير مقصود، وامتد اللغط حول مسندم، إلى الجنسية التي منحتها الإمارات لعدد من عمانيي مسندم، الذين يقيمون في إمارة رأس الخيمة المجاورة. وفي المقابل، منحت السلطات العمانية الجنسية لعدد من مواطني اليمن في محافظتي حضرموت والمهرة.
في ذلك الحين، حذر عصام بن علي الرواس، مساعد «الهيئة العامة للصناعات اليدوية العمانية»، من «سرقة دولة الإمارات للثروات والأعمال والآثار العلمية والتاريخية والثقافية العائدة للسلطنة». بالتزامن مع ذلك، اتخذت عمان قرارًا بإلغاء تصريح نشاط فرع «مصرف أبوظبي» في مجال السندات المالية.
بعدها بأشهر قلائل، أعلنت الحكومة العمانية في نهاية يناير 2018 أنها ألقت القبض على أعضاء في خلية تجسس إماراتية كانت تراقب المواقع الحكومية والعسكرية. يعيد ذلك للأذهان القصص التي نشرتها السلطات العمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 حول اعتقال أكثر من 20 مسؤولًا عمانيًا بتهمة التجسس لصالح الإمارات.
حكمت السلطات العمانية على أربعة إماراتيين وعماني واحد بالسجن لمدة 10 سنوات بتهمة التجسس في 10 أبريل (نيسان) الماضي. لتعيد للأذهان المحاولة الإماراتية للإطاحة بالسلطان قابوس في عام 2011 عبر شبكة تجسس تستهدف الحكومة العمانية وجيشها.
بعد شهر من اكتشاف السلطات العمانية عصابة التجسس، تحرك السلطان قابوس رسميًا لمواجهة الجهود الإماراتية لشراء الأراضي والممتلكات في مواقع استراتيجية في مختلف أنحاء السلطنة، خاصة في المنطقة الحدودية الشمالية مع الإمارات العربية المتحدة.
وكشفت وسائل إعلام عُمانية في 2015 عن قيام الإمارات بعمليات شراء غير مسبوقة لأراضٍ وولاءات قبلية شمالي السلطنة على الحدود مع الإمارات، وقدمت أموالًا طائلة لشخصيات قبلية غير معروفة في ولاية مدحاء ومحافظة مسندم العُمانيتين.
أدت مخاوف عمان من الطموحات الإقليمية لدولة الإمارات في المنطقة إلى منع مواطني دول «مجلس التعاون الخليجي» من امتلاك الأراضي القريبة من المناطق الحدودية.
في نوفمبر الماضي، أصدر قابوس مرسومًا ملكيًا يمنع غير المواطنين العمانيين من امتلاك الأراضي الزراعية والعقارات في كلٍ من: البريمي، ومسندم، وظفار، والظاهرة، والوسطى، وشناص، ولوي، والجبل الأخضر، وكذلك المواقع التراثية والأراضي الزراعية الواقعة بالقرب من المناطق الاستراتيجية.
ويحكم السلطان قابوس سلطنة عمان منذ عام 1970، لكنه يبلغ من العمر 78 عامًا، ويعاني من السرطان منذ عام 2014 على الأقل، ولم يعين خليفة له حتى الآن. ويرجح جوناثان شانزير وفارشا كودوفور عبر مجلة «فورين بوليسي» أن تتدخل السعودية أو الإمارات في خلافة عمان، مستشهدين بما حدث خلال أزمة الخليج عام 2014، عندما تحرك السعوديون والإماراتيون بسرعة لإضعاف الأمير تميم.
الاستراتيجية الإماراتية لتطويق سلطنة عمان
في أبريل 2018، سيطرت القوات الخاصة الإماراتية على البحر والمطارات في جزيرة سقطرى اليمنية النائية؛ ليس فقط لتسهيل وصولها إلى شرق أفريقيا -تقع الجزيرة قبالة ساحل صوماليلاند حيث استثمرت الإمارات بكثافة في ميناء بربرة التجاري- ولكن أيضًا لزعزعة الاستقرار في سلطنة عمان من خلال استراتيجيتها لتطويق السلطنة، على حد قول سيجورد نويباور في مجلة «ناشيونال إنترست».
ولما كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تعتزم إقامة وجود طويل الأجل في اليمن؛ يبدو أن محمد بن زايد يرى اليمن جزءًا أساسيًّا من استراتيجيته الرامية لإقامة نفوذ إماراتي أكبر في منطقة البحر الأحمر تمتد إلى القرن الأفريقي.
من شأن الهيمنة الإماراتية على شرق وجنوب اليمن، إلى جانب الموانئ اليمنية في المكلا وعدن والمخاوي، وربما الحديدة؛ ضمان أن تتمكن الإمارات من تأسيس والحفاظ على وجود قيادي في ممرات الشحن الحيوية عبر الخليج العربي والبحر الأحمر.
تدل لعبة القوة الحالية ضد عُمان -محاولات التجسس الإماراتية والوجود العسكري السعودي على الحدود اليمنية العمانية- أن الهدف الاستراتيجي لدولة الإمارات هو السيطرة على شبه الجزيرة العربية الأوسع ومنطقة شرق أفريقيا.
حدوث ذلك، مع استعداد السلطنة لحقبة ما بعد قابوس، لن يؤدي إلا إلى زيادة المخاطر والتوترات بين الأطراف العربية المعنية. ويحذر نويباور من أن هذا بدوره قد يؤدي إلى تفاقم النزاع بين الكتلة الإماراتية السعودية وعمان.