بعيدًا عن التصريحات المعلنة.. ماذا تفعل أمريكا خلف الكواليس في السودان؟

20 عامًا فصلت بين: إعلان وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت فرض عقوبات على السودان، بتهمة رعاية الإرهاب الدولي في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1997، وقرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما، قبل فترة وجيزة من ترك منصبه في عام 2017، رفع جزء من العقوبات المفروضة على السودان، استجابة للخطوات الإيجابية التي اتخذتها الخرطوم.

وبعدما ظلت العلاقات العسكرية بين الجيش السوداني، والولايات المتحدة في حالة قطيعة رسمية، طيلة عقدين من الزمان، بدأت الروح تدب في أوصالها يوم السبت الموافق 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، بعد قرابة عامين من وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

وسرعان ما يمم رئيس الأركان السوداني، الفريق أول ركن كمال عبد المعروف الماحي، وجهه شطر الولايات المتحدة، وجلس بين يدي المسؤولين الأمريكيين لمناقشة عدة قضايا أبرزها: جهود السودان في التصدي للإرهاب، وتهريب البشر، والهجرة غير الشرعية، فضلًا عن دور الخرطوم في تعزيز التعاون الإقليمي وتسهيل اتفاقية سلام مع جنوب السودان.

لكن فرحة الرئيس السوداني عمر البشير لم تدم طويلًا، فسرعان ما أطاحه جيشه في يوم الخميس الموافق 11 أبريل (نيسان) 2019، بعد أشهر من المظاهرات الشعبية التي عصفت بالسودان احتجاجًا على مساعٍ حكومية لرفع أسعار الخبز، وأزمة اقتصادية أفضت إلى نقص في الوقود والسيولة، ما أعاد إلى الأذهان الانقلاب الذي جاء به إلى السلطة قبل 30 سنة في عام 1989.

ما الذي تحيكه أمريكا خلف الكواليس؟

كالعادة سقطت تفاحة السلطة في يد القوات المسلحة السودانية، التي تخطط للاحتفاظ بها لمدة عامين على الأقل، في ظل دستور معطّل وحالة طوارئ مفروضة. وفشلت المحادثات السياسية لإنهاء الأزمة بسبب «عناد الجيش»، الذي رفض مقترحًا بتقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين، على حد وصف ديكلان والش في صحيفة «نيويورك تايمز».

ورغم الصبغة العسكرية ثقيلة الوطأة، امتنعت وزارة الخارجية الأمريكية عن إعلان ما حدث انقلابًا، واكتفى متحدثها الرسمي روبرت بالادينو بالقول إن «الشعب السوداني كان واضحًا في أنه يطالب بعملية انتقالية بقيادة مدنية. ينبغي السماح له بذلك في فترة أقل من عامين من الآن».

صحيح أن الولايات المتحدة أعلنت انحيازها الصريح إلى حركة الاحتجاج الشعبية، لكن خلف الكواليس هناك غياب شبه كامل للدبلوماسية الأمريكية، حسبما يرصد كاميرون هدسون في دورية «فورين بوليسي»: «لم توظف واشنطن أيًّا من أدواتها التمويلية أو الدعم الفني للمساعدة في تنظيم المتظاهرين وتوحيدهم وتمكينهم من أن يكونوا أكثر فعالية في التفاوض مع خصمهم العسكري الأفضل تدريبًا والأوفر موردًا».

على الجبهة الدبلوماسية، دعمت الولايات المتحدة الشهر الماضي الاتحاد الأفريقي بوصفه بوابتها الدبلوماسية المفضلة إلى السودان، بيد أن الاتحاد الأفريقي التزم الصمت شبه المطبق طيلة الأشهر الأخيرة، بينما ما يزال أصحاب النفوذ الحقيقيين في السودان -دول الخليج العربي- يتمتعون بدعمٍ مفتوح من الولايات المتحدة. حتى «الاجتماع اليتيم» بين الحلفاء الأوروبيين، والأفارقة في واشنطن الشهر الماضي؛ لم يتمخض ولو عن بيان مشترك ناهيك عن خريطة طريق للمستقبل.

الحلم السوداني.. بين مطرقة المجلس العسكري وسندان المصالح الأمريكية

علامات استفهام كثيرة تحلق فوق رأس «الحل السهل» الذي اقترحه كاميرون هدسون في تقريره، والذي يقول بـ«تعيين مبعوث أمريكي خاص إلى السودان؛ شخص يُذَكِّر الدول العربية بأن القادة المدنيين في السودان يستطيعون حماية مصالحهم الأمنية طويلة الأجل في البلاد، وفي الوقت ذاته توسيع نطاق الحقوق المدنية والإنسانية التي يستحقها المواطنون»، مضيفًا أنه من الممكن لهذا المبعوث أن «يبني ائتلافًا نشطًا من الحلفاء الأفارقة والأوروبيين للمساعدة في تهيئة أرضية مشتركة بين المدافعين عن حقوقهم الديمقراطية، والساعين لتكبيلهم».

والمتأمِّل يكتشف أن مقترح كاميرون هدسون يخرج وما كتبه ديكلان والش في صحيفة «نيويورك تايمز» من مشكاة واحدة، وما مطالبتهما بتدخل الولايات المتحدة في الواقع سوى ذريعة لكي تكون واشنطن هي المسيطر على المشهد في السودان، والمتحكم في أحداث المستقبل؛ لضمان تحرك الخرطوم في الاتجاه الذي تفضله الشركات الغنية والحكومة الأمريكية، كما يقول عمران جان في صحيفة «ديلي صباح» التركية.

ما يزيد الطين بلة، ويضع الحالمين بالحرية في السودان بين المطرقة والسندان، أن «المجلس العسكري تعلّم خلال فترة حكم البشير كيفية إطالة أمد النقاش والغرق في تفاصيل دقيقة بإبقاء الناس يدورون في حلقة مفرغة، وترك المعارضة تُضعف نفسها»، كما يقول هدسون، زميل «أتلانتك كاونسل». هل يُذكِّر هذا الأسلوب دول الثورات العربية التي استحال ربيعها خريفًا بشيء؟!

بيدَ أن هذه الاستراتيجية سلاح ذو حدين، فهناك أيضًا دليل على وجود انقسام داخل المجلس العسكري، وانشقاق أوسع داخل الجيش، ويخشى المسؤولون الغربيون من أن يتفاقم الصدع أكثر، فتخرج الأمور عن السيطرة، وهو ما يهدد المصالح الغربية.

حلم استحال كابوسًا.. من الذي يملأ الفراغ في السودان بعد إطاحة البشير؟

بعد أسابيع من التفاؤل الجامح عقب إطاحة البشير، «أصبح السودان الآن على وشك الانهيار التام»، على حد قولجاستين لينش وروبي جرامر، وأصابع الإمارات والسعودية ومصر في ما يحدث، لا تخطئها عين.

رصد مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» مركبات عسكرية مُصَنَّعة إماراتيًّا في شوارع الخرطوم. وسبق أن تعهدت السعودية والإمارات بتقديم 3 مليارات دولار لدعم شعبية الجيش، وتعزيز الجنرالات في مفاوضات تقاسم السلطة مع القادة المدنيين.

ولا غروَ؛ فالسعودية والإمارات مهتمتان بالحفاظ على شراكتهما العسكرية والمالية مع السودان، ولا أدل على عمق المصالح الخليجية في السودان من اتخاذ المملكة طه عثمان الحسين، مدير مكتب البشير سابقًا، مستشارًا للشؤون الأفريقية.

ويقول مسؤولون وخبراء غربيون إن مصر لا تخشى فقط من ظهور الإسلام السياسي، بل من صعود الديمقراطية في السودان؛ وتنظر إليهما باعتبارهما تهديدًا. ناهيك عن الزيارات العسكرية والاستخباراتية رفيعة المستوى مؤخرًا إلى الدول الثلاث.

ليس سرًّا أن المملكة توظف نفوذها في السودان عقب إطاحة البشير لتهميش خصميها إيران وقطر، وتثبيت نظام استبدادي قمعي، على حد قول المحرر الدبلوماسي في صحيفة «الجارديان»، باتريك وينتور. لكن من النادر أن ينشر الأمريكيون مطالبتهم العلنية من الرياض لدعم الحكم المدني والديمقراطية.

في بيان غير تقليدي كشفت وزارة الخارجية الأمريكية أن وكيلها للشؤون السياسية، الدبلوماسي ديفيد هيل، اتصل هاتفيًّا بنائب وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، ليطلب منه استخدام نفوذ المملكة لإنهاء القمع الوحشي الذي يمارسه المجلس العسكري الانتقالي ضد المتظاهرين السلميين في السودان.

كما طالب توم روجان الرئيس ترامب عبر «واشنطن إكزامينر» بالضغط على محمد بن زايد آل نهيان كي يؤثر في الجيش السوداني؛ من أجل تقديم تنازلات للمعارضة، وأن يرسل الرئيس الأمريكي لابن زايد رسالة واضحة مفادها: «إذا فشلت الإمارات في التصرف، فسوف تعتبرها واشنطن خيانة».

هل يمتلك ترامب استراتيجية واضحة بشأن السودان؟

يقول النقاد إن النشاط الخليجي في السودان يتناقض بشدة مع موقف الولايات المتحدة. ويشكو العديد من المسؤولين الأمريكيين، الذين تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم، من أن إدارة ترامب لا يبدو أن لديها استراتيجية صلبة بشأن السودان، تتجاوز التصريحات شديدة اللهجة التي تدين العنف، وحتى لم تعقد اجتماعات منتظمة للتنسيق بين وكالات مثل وزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، ووكالة التنمية الدولية.

وفي ظل تواضع المعلومات الاستخباراتية حول الوضع السياسي في السودان، يقول بعض المراقبين إن الولايات المتحدة ليس لديها خطة دبلوماسية لما سيحدث في نهاية يونيو (حزيران) الحالي، وهو الموعد النهائي الذي حدده الاتحاد الأفريقي لتخلي الجيش عن السلطة.

يؤيد ذلك ما نقلته مجلة «فورين بوليسي» عن مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابق جوني كارسون: «في غياب الولايات المتحدة، تملأ دول الخليج الفراغ. إنهم يديرون المشهد برمته. إن قادة وحكومات السعودية والإمارات ومصر لا يشاركوننا قيمنا الديمقراطية الأساسية، وتختلف وجهات نظرهم بشأن ما ينبغي أن يحدث في السودان اختلافًا كبيرًا عن السياسات التي ينبغي أن تتبعها الولايات المتحدة».

تجلى هذا التباين حين انحاز الرعاة العرب إلى القادة العسكريين السودانيين في أعقاب الفض الدموي للاعتصام، وألقت سفارة الولايات المتحدة في الخرطوم باللوم على القادة العسكريين، ودعت إلى الوقف الفوري لأعمال العنف.

لكن هذا الموقف ليس مدفوعًا فقط بدوافع أخلاقية -وهي الصورة التي تحرص واشنطن على تصديرها للعالم- بل لأن الصين، عدوة الولايات المتحدة الجيوسياسية الأولى، تتحرك للسيطرة على أفريقيا، وستكون الديكتاتورية العسكرية السودانية أكثر قبولًا لمنح الصين النفوذ الذي تسعى إليه.

أمريكا: الاستقرار غايتنا.. ولو تحت حكم الشيطان

حتى وقت قريب، لم يكن هناك ما يشير إلى أن الولايات المتحدة تعارض اكتساب حليفها السعودي نفوذًا في السودان. لكن حجم الهجوم الدموي على متظاهري الخرطوم أدى إلى تغيير لهجة واشنطن، وأثار السخط الأمريكي من السياسة الخارجية السعودية، على حد وصف وينتور.

لكن مرة أخرى، وبعيدًا عن الجعجعة التي لا طحين وراءها، يبقى السؤال الأهم -بحسب مقال «الجارديان»– هو ما إذا كانت الحكومة الأمريكية مستعدة للقيام بأكثر من مجرد حث الرياض على دعم الديمقراطية في السودان، أم أنها ستكرر سياستها في ليبيا واليمن؟

ما نقله جاستين لينش عبر موقع «ديلي بيست» يُخرِج الإجابة عن نطاق التكهنات؛ إذ لم يكتف القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الخرطوم، ستيفن كوتسيس، بالإعراب عن تعاطفه مع «مأزق الجيش»، لكنه صرَّح بأن على الولايات المتحدة الاصطفاف مع مصالح السعودية ومصر والإمارات.

رسميًّا، تقول الولايات المتحدة ودول غربية أخرى إنها تريد الديمقراطية في السودان، لكن العديد من المدنيين والمسؤولين في الخرطوم يشككون في جدية الأمريكيين. ولذلك لا يستطيع لينش تلخيص شعور المسؤولين السودانيين تجاه السياسة الأمريكية من رئيس المخابرات السوداني السابق، صلاح غوش، لباعه الطويل في العمل مع مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

ويضيف: «مصلحة الولايات المتحدة هي استقرار البلاد. فإذا جاء (الاستقرار) من المجلس العسكري فهو موضع ترحيب. وإذا جاء (الاستقرار) من الحكومة المدنية فهو موضع ترحيب. ذلك أن الأمريكيين مهتمون بالحكم الرشيد، مفهومًا وليس آلية».

يطرح المشككون في دعم الولايات المتحدة للديمقراطية في السودان مجموعة من الأدلة الحديثة التي تعزز استنتاجهم؛ يستشهدون باعتراف واشنطن فعليًّا بالانقلاب العسكري الذي أطاح الحكومة المدنية في عام 2013، وصمت الغرب حيال الجولة التي قام بها المسؤولون العسكريون السودانيون في السعودية ومصر والإمارات لحشد الدعم.

أيضًا هناك رفض الولايات المتحدة الالتزام صراحة بعدم الاعتراف بالحكومة العسكرية السودانية إذا قررت البقاء في السلطة. لكن لا شيء من هذا يمنع مسؤولي وزارة الخارجية وإدارة ترامب من محاولة إقناع العالم بأنهم جادون بشأن الديمقراطية في السودان.

من عجائب البشر أنهم ينافسون الأسماك أحيانًا في ضعف الذاكرة، فتصيبهم الحيرة أمام أسئلة سهلة. ولو عادوا بالذاكرة الواهنة بضع سنوات فقط إلى الوراء، لأدركوا أن الولايات المتحدة اصطفت إلى جانب نظام حسني مبارك في أعقاب اندلاع الثورة المصرية، ثم حين أصبح من المستحيل حمايته؛ انضمت الولايات المتحدة إلى المتظاهرين في ميدان التحرير، وبدأت تتصرف كما لو كانت دائمًا إلى جانبهم.

ولأن الأسطول الخامس، الذي يتمركز في البحرين منذ منتصف التسعينيات، هو مفتاح نشر القوة الأمريكية في المنطقة، وضمان المرور الآمن للنفط إلى الأسواق العالمية؛ فإن تغيير النظام من خلال الديمقراطية في البحرين كان من الممكن أن يجلب حكومة ديمقراطية، ربما لا تسمح بالتمركز المستمر للأسطول الخامس، ومن هذا المنطلق سادت عقلية «الشيطان الذي نعرفه أفضل من الشيطان الذي لا نعرفه». ويمكن القول بأن الوجوه تتغيَّر، والأسماء تختلف، لكن تبقى الاستراتيجية واحدة.

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …