سؤال – ماذا يفعل مرتزقة روسيا في أفريقيا الوسطى؟

هذا السؤال الذي يبدو عاديًا في ظاهره، دفع أربعة صحافيين روس حياتهم ثمنًا للتنقيب عن إجابته: ثلاثة منهم قُتِلوا في أفريقيا الوسطى يوم 30 يوليو  (تموز) 2018، وسقط رابعهم من شرفة في يكاترينبورغ في أبريل (نيسان) من العام ذاته- ليست مصادفة على الأرجح- فيما اضطر صحافي خامس، يدعى دنيس كوروتكوف من سانت بطرسبرج، إلى الاختباء بعدما تلقى تهديدات بالقتل.

في هذا التقرير نحاول الإجابة عن السؤال القاتل: ماذا يفعل المرتزقة في أفريقيا الوسطى؟

هل هذا التواجد حقيقة أم محض شائعات؟

مطلع أبريل 2019، أشار الجنرال ستيفن تاونسند، مرشح الرئيس دونالد ترامب لرئاسة القيادة الأمريكية في أفريقيا، إلى أن المجموعات شبه العسكرية الروسية المتواجدة في أفريقيا الوسطى؛ قد تكون مرتبطة بـ«مجموعة فاجنر»، وهي شركة عسكرية خاصة شارك أفرادها في صراعات مختلفة أشهرها سوريا، وقدمت الدعم العسكري للانفصاليين الذين تساندهم روسيا في شرق أوكرانيا.

ما ذكره تاونسند هو عَيْنُ ما ذهب إليه الجنرال مارين والدهاوسر، القائد الحالي لـ«أفريكوم»، في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، وتعضده المعلومات التي حصل عليها صحافي روسي في مارس (آذار) 2018، تظاهر بأنه أحد موظفي «فاجنر»، ليستطيع الوصول إلى قاعدة تدريبية في جنوب روسيا، وهناك قيل له: «نصف رجالنا يستعدون للتوجه إلى أفريقيا».

يشدد المسؤولون الروس على أن تواجد بلادهم في أفريقيا الوسطى يحظى بدعم «الأمم المتحدة»، ولا تجد المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا غضاضة في القول بأنه «لا يوجد شيء مثير للدهشة حول وجود مدربين روس في جمهورية أفريقيا الوسطى. لا أحد يُخفي أي شيء».

بَيْدَ أن المعلومات التي جمعها روسلان ليفييف من مجموعة «كونفليكت إنتليجنس تيم» الاستخباراتية، المعنية بالنزاعات تخلُص إلى أن ما يطلق عليهم «مدربون مدنيون» روس في جمهورية أفريقيا الوسطى هم في الواقع «مرتزقة» من «شركة فاجنر».

ماذا قد تستعين روسيا بالمرتزقة بدلا من الجيش؟

تستعين روسيا بالمرتزقة عوضًا عن الجيش، لسببين هما:

  1. ستار يتيح الإنكار

يشارك هؤلاء المرتزقة فيما يسمى «الحرب الهجينة» التي تخوضها موسكو، ويسمحون لبوتين بإنكار انخراط الجيش الروسي رسميًا في صراعات قد تسبب له صداعًا في الداخل والخارج. الدرب نفسه الذي سلكه بوتين في أوكرانيا، ويد العون التي لجأ إليها حين أراد أن يكون تدخل روسيا في سوريا مختلفًا عن تدخلها -الذي أثار استياءً واسع النطاق- في أفغانستان والشيشان.

لكن الإنكار الرسمي لا ينفي حقيقة أن مرتزقة «فاجنر» يسافرون على متن طائرات عسكرية روسية، ويتلقون العلاج في المستشفيات العسكرية الروسية، ويعملون جنبًا إلى جنب مع القوات الروسية النظامية في العمليات، ويُمنحون ميداليات عسكرية روسية بتوقيع فلاديمير بوتين شخصيًا.

   2. إخفاء الخسائر الحقيقية

السرية التي تحيط عمل المرتزقة عادة ما تساعد في إخفاء العدد الحقيقي للقتلى الروس في ساحات القتال؛ ما يجنب الكرملين تبعة تبرير فاتورة المغامرات الخارجية أمام الشعب، لا سيما إذا صادفت فترة الانتخابات.

فعندما ألقى «تنظيم الدولة» القبض على اثنين من مقاتلي «فاجنر» في شرق سوريا عام 2017، وبث صورهما للمشاهدين؛ رد الكرملين ببساطة بأنهم «ربما يكونون متطوعين». أما لو كانا جنديين روسيين نظاميين، لكان الصراخ في الداخل يصم الآذان.

ويمكن القول بأن استخدام مرتزقة بدلا من جنود نظاميين؛ يسمح لروسيا بدخول بيئة أجنبية، مثل أفريقيا الوسطى، حتى لو كانت معادية إلى حد كبير مع الحفاظ على الحد الأدنى من المخاطر، واستغلال كل الفرص السياسية والاقتصادية هناك.

لكن بينما تضطلع هذه الشركات الخاصة بدور متزايد الأهمية خارج روسيا وداخلها، وحتى إذا نجحت هذه الاستراتيجية في تحقيق نجاحات عسكرية دون المخاطرة بالقوات البرية الروسية، فإنها في الوقت ذاته تخلق موقفًا قابلا للانفجار؛ فالجنود المهرة الذين يأخذون أوامرهم من «الأوليجارشيين الروس» وليس من الكرملين قد يكون لهم دور غير متوقع في تشكيل سياسة روسيا الخارجية، وقد يوقع بوتين شخصيًا في مأزق.

لكن.. ما هي أهداف الكرملين في أفريقيا الوسطى؟

تتمحور أهداف الكرملين بأفريقيا الوسطى في ثلاثة محاور:

1. بسط النفوذ
«وجود مرتزقة روس في جمهورية أفريقيا الوسطى هو جزء من جهود الرئيس فلاديمير بوتين لاستعادة نفوذ روسيا في أفريقيا جنوب الصحراء»، وذلك حسب شهادة الجنرال تاونسند أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ. تضمنت شهادة تاونسند أيضًا إشارة إلى أن الروس يستخدمون مرتزقة «فاجنر» -الذين يطلق عليهم اسم الرجال الخُضْر الصغار- «لحراسة رئيس أفريقيا الوسطى، فوستن ارشانج تواديرا، وتدريب بعض القوات المسلحة المحلية».

تشير التقارير الإعلامية إلى أن مرتزقة «فاجنر» موجودون هناك كي يحلوا محل «المدربين» المدنيين والعسكريين الروس الذين يعملون ضمن مهمة أكبر للأمم المتحدة تهدف إلى دعم حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى في خضم الحرب الأهلية، أو يندمجوا معهم.

2. استخراج الماس
في يوليو 2018، بدأت حكومة أفريقيا الوسطى في استخراج الماس من موقع قريب من العاصمة بانجي، بمساعدة شركة «لوبايي إنفست»، التابعة لشركة «إم إنفست» التي أسسها يفغيني بريجوزين، وهو رجل أعمال من مدينة سانت بطرسبرج مقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومسؤول أيضًا عن شركة «فاجنر».

لكن إذا عُرِفَت هذه الخلفية؛ بطل العجب من مشهد مقاتلي «فاجنر» وهم يسلمون معدات التعدين إلى موقع العمل في شاحنات مدرعة، حسبما رصدته «أفريكا إنتليجنس»، بينما كان المستشارون الروس يساعدون الرئيس تواديرا في التفاوض من أجل التوصل إلى هدنة مع متمردي سيليكا.

في ستينيات القرن الماضي، كانت أفريقيا الوسطى تُصَدِّر نصف مليون قيراط من الماس سنويًا، ما يجعلها سابع أكبر دولة مصدرة في العالم، ولولا الحرب الأهلية والجشع الحكومي لكان واقعها مختلفًا.

لذا حين يقول السناتور جاك ريد أمام مجلس الشيوخ إن روسيا تسعى لـ«بناء شراكات جديدة في مناطق مثل جمهورية أفريقيا الوسطى من أجل استخراج الموارد واكتساب حلفاء جدد»، فإنه لا يفشي سرًا، بل يتحدث عن تعاون معلن بين الكرملين وأفريقيا الوسطى لتطوير صناعات الماس والمعادن.

3. قواعد عسكرية
لم تستبعد جمهورية أفريقيا الوسطى السماح لروسيا بإنشاء قاعدة عسكرية في البلاد. وصرَّح وزير دفاع أفريقيا الوسطى ماري نويل كويارا لوكالة أنباء «نوفوستي» الحكومية بـ«أننا لم نتحدث بعد عن تطوير القاعدة على وجه التحديد، لكن هذا الاحتمال لم يستبعد» في اتفاقية الإطار الموقعة مع موسكو في أغسطس (آب) الماضي.

على مستوى القارة، وقّعت روسيا 19 اتفاقية تعاون عسكري في أفريقيا جنوب الصحراء، منذ عام 2014 وحتى مارس 2019، شملت إثيوبيا ونيجيريا وزيمبابوي، وفقًا لوزارتي الخارجية والدفاع ووسائل الإعلام الحكومية.

خريطة الدماء ذات البصمة الروسية

في عام 2013، شارك أفراد من «الفيلق السلافي»، وهي شركة عسكرية خاصة مسجلة في هونج كونج، في الحرب السورية بناء على طلب من رجال أعمال دمشقين مجهولين.

 أوكرانيا
في عام 2014، بينما كانت موسكو تعمل على ضم منطقة القرم، وإذكاء حرب انفصالية في شرق أوكرانيا، عاد أحد قادة «الفيلق السلافي»، وهو عقيد سابق في المخابرات العسكرية الروسية يدعى ديمتري أوتكين، للظهور ليشكل مع آخرين وحدات شبه عسكرية للقتال في دونباس الأوكرانية.

عمل هؤلاء المرتزقة يدًا بيد مع الجيش الروسي، إذ تدربوا في منشأة عسكرية بالقرب من روستوف على نهر الدون، وكانوا تحت قيادة ضباط ذوي خبرة من الخدمات الخاصة ووزارة الدفاع. بحلول يونيو (حزيران) 2014، كانت أول مجموعة من حوالي 250 مرتزقا تعبر الحدود إلى أوكرانيا.

لاحقًا، اعتُبِرَت «فاجنر» مسؤولة أو متواطئة أو متورطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في أعمال أو سياسات تهدد السلام أو الأمن أو الاستقرار أو السيادة أو السلامة الإقليمية لأوكرانيا.

العودة إلى سوريا

سرعان ما ظهرت بصمة فاجنر في سوريا، بعدما شن الكرملين حملة عسكرية لدعم بشار الأسد في خريف عام 2015. بعد إثبات فعاليتها في دونيتسك، انضمت «فاجنر» إلى جوقة الحرب الروسية وقامت بدور بارز في السيطرة على تدمر ودير الزور، وعملت فرع غير معلن للجيش الروسي.

على الرغم من أن الرئيس فلاديمير بوتين أصر في البداية على أن دور روسيا العسكري سيكون محدودًا، «أصبحت فاجنر هي مجموعة الكرملين التكتيكية الرئيسية في سوريا؛ لأن الجيش السوري لا يستطيع القيام بهذه المهمة بمفرده»، وفق معلومات «كونفليكت انتليجنس تيم».

 أفريقيا

بعد المحادثات بين روسيا والسودان حول التعاون الأمني​​ أواخر عام 2017، ظهر شريط فيديو يظهر المتعاقدين الروس وهم يدربون الميليشيات المحلية الموالية للحكومة في البلاد. وفي مارس 2018، أصدر الكرملين بيانًا يفيد بأن 170 «مستشارًا مدنيًا» (هذا يعني عادة قوات فاجنر) وصلوا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى لتدريب القوات الحكومية.

في نهاية يوليو، ظهر 500 من مقاتلي «فاجنر» على الحدود بين السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. وصرَّح أحد قادة «فاجنر» في مارس بأن مقاتليه سيتوجهون إلى ليبيا قريبًا.

بحلول عام 2018، كان هناك العديد من الشركات العسكرية الروسية الخاصة، لكن يقال إن قوات «فاجنر» فقط هي التي تشارك في عمليات قتالية. في ذلك الوقت، تحولت مهمة «فاجنر» مرة أخرى، هذه المرة صوب أفريقيا الوسطى؛ لحماية المصالح الاقتصادية والسياسية الروسية.

ما الذي يجعل الجحيم مغريًا؟

ليست أفريقيا قارة الأحلام حتى بالنسبة لمقاتلي «فاجنر الأشداء»، وقطعا ليست أفريقيا الوسطى جنة الخلد بل أفقر دول العالم، لكن الحافز المالي الباهظ كفيل بفتح شهية كثيرين للعمل ولو في الجحيم ذاته إذا تطلب الأمر.

صحيحٌ أن متوسط رواتب «فاجنر» انخفض في عام 2017 بمقدار الثلث عن قيمته الأولية (240 ألف روبل شهريًا  أي قرابة 3550 دولارًا)، إلا أن المعدل الحالي لا يزال يفوق الأجور الروسية المعتادة بآلاف الروبلات.

رسميًّا، يوقع مرتزقة «فاجنر» عقودًا مدنية للعمل في حقول النفط والغاز. ويمكن للمتعاقد أن يجني 150 ألف روبل (2650 دولارًا) شهريًا، بالإضافة إلى مكافأة تصل إلى 100٪ من قيمة التعاقد إذا أكمل جولة عمل مدتها ثلاثة أشهر

خلال ثلاثة أشهر، يمكن للمرتزق جني ما يقرب من مليون روبل. ويمكن للقائد أن يكسب حوالي ثلاثة أضعاف هذا المبلغ. أما المقاتل الذي يغير رأيه يُعاد إلى ميناء الإمداد لتفريغ الصناديق بسعر ألف روبل فقط في اليوم.

التعبئة الوطنية.. «أنت تقاتل من أجل روسيا»

تلعب الدوافع العقائدية أيضًا دورًا كبيرًا في توظيف المرتزقة. إذ أصبح المجتمع الروسي أكثر عسكرة في السنوات الأخيرة، في ظل المبادرات الحكومية التي تشجع النزعة القومية المتشددة، تحت ستار «التعبئة الوطنية». يقول أحد المرتزقة: «إذا كنت تقاتل تحت علم روسي، بسلاح روسي، وحتى إذا كنت تتناول طعامًا متعفنًا على بعد 10 آلاف كيلومتر من الوطن؛ فأنت بذلك تقاتل من أجل روسيا». وأضاف: «لا توجد حرب سورية. لا توجد حرب أوكرانية. هناك فقط حرب بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة».

لماذا تجذب هذه «البقعة البائسة» موسكو؟

الفراغ الذي خلفه انسحاب المئات من الجنود الأمريكيين من أفريقيا، والكراهية واسعة النطاق في جميع أنحاء جمهورية أفريقيا الوسطى تجاه الفرنسيين، وسطاء القوة التقليديين في مستعمرتهم السابقة، تركت هذا البلد كما يسميه أحد مسؤولي «الأمم المتحدة»: «قصعة مستباحة».

وبعدما أنفقت روسيا معظم العقد الماضي في التطلع إلى إعادة تثبيت أقدامها على المستوى العالمي، بعد النجاحات الكبيرة في الشرق الأوسط، تمثل أفريقيا الخطوة الطبيعية التالية في سياسة الكرملين الخارجية. إذا أضفنا إلى ذلك موارد الذهب والماس المربحة، يتضح لماذا تُعتَبَر هذه البقعة البائسة هدفًا جذابًا لموكسو، ومغامرة مربحة لمرتزقة فاجنر.

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …