لا يخفى على أحد الدور الإيراني في سوريا خلال السنوات الماضية منذ بداية الحرب وحتى الآن، هذا الدور الذي لعبته طهران من أجل بقاء الأسد كانت كلفته باهظة وربما على حساب المواطن الإيراني نفسه، لكن بعد أن هدأت الأوضاع وبات هناك شبه استقرار في سوريا، يسعى الإيرانيون لتحصيل فاتورة هذه الحرب على عدة اتجاهات، تضمن من خلالها تحقيق فوائد اقتصادية ليس الآن فقط، ولكن على المدى الطويل.
ونحاول خلال هذا التقرير الوصول إلى أرقام تقريبه للفاتورة التي يدفعها الأسد الآن لمصلحة إيران، وذلك عن طريق مناقشة أبرز ما حصلت عليه إيران من مكاسب اقتصادية وعقود مستقبلية تستحوذ بها على كثير من ثروات السوريين، بعيدًا عن أنها الشريك التجاري الأول لسوريا، وتعد دمشق سوقًا كبيرة للمنتجات الإيرانية منذ وقت مبكر في الحرب عندما تم العمل باتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، وذلك في أبريل (نيسان) 2012.
كم أنفقت إيران على الحرب في سوريا؟
يمكن مناقشة الإنفاق الإيراني في سوريا خلال سنوات الحرب على جانبين، الجانب الأول هو القروض والمساعدات المالية التي حصل عليها الأسد، والجانب الثاني هو الإنفاق العسكري الإيراني من خلال التدخل المباشر أو الدعم لقوات الأسد، وأما الأول فهو معلوم إلى حدٍ كبير، بينما الثاني تتباين التقديرات حوله، وهو بالفعل أمر يصعب تقديره في ظل طول مدة الحرب والتوغل الإيراني الكبير في الداخل السوري.
بنسبة كبيرة يعود صمود النظام المالي في سوريا و عدم الانهيار التام، إلى ما قدمته إيران من قروض منذ اندلاع الحرب، وحتى الآن، إذ تشير التقديرات إلى أن طهران قدمت أكثر من 7 مليارات دولار إلى سوريا، بينما تشير تقديرات للأمم المتحدة، إلى أن متوسط إنفاق إيران في سوريا يعادل 6 مليارات دولار سنويًا، أي أنه في حال انتظام هذا الإنفاق قد تتجاوز التكلفة مستوى الـ40 مليار دولار منذ بداية الحرب وحتى الآن.
إلا أن الباحث في الشأن السوري، نديم شحادة، قدر ما تحملته إيران خلال 2012 و 2013 بما بين 14 إلى 15 مليار دولار، بعد أن فقدت حكومة بشار الأسد جميع إيراداتها، هذا التقدير الذي قاله شحادة لموقع «بي بي سي» الفارسي، ذكر أنه مبني على الأدلة التي تؤكد دخول العديد من المجموعات الممولة من قبل الحرس الثوري الإيراني من بينها مجموعات من العراق وأفغانستان، لكنه يؤكد أن معرفة إنفاق إيران في سنوات ما بعد 2013 صعب جدًا.
ويرى مناف قومان، الكاتب والباحث السوري، الحاصل على ماجستير الاقتصاد السياسي، أن فاتورة إيران في تدخلها العسكري في سوريا، غير معروفة، لكن بغض النظر عن الكلفة، فالموارد التي حصلت عليها في قطاعات الطاقة والاتصالات والزراعة والتجارة والصناعة والخدمات كفيلة بالحصول على إيرادات كبيرة، فلا توجد دولة تعطي عقودًا واتفاقات لدولة أخرى بالطريقة والسخاء الذي يقدمه الأسد لإيران.
ويؤكد قومان خلال حديثه لـ«ساسة بوست»، «إن كل ما حصلت (إيران) عليه مهم، وإن كان ولا بد من المفاضلة فأعتقد أن شراء الأصول المالية من عقارات وأراضٍ بأذرع محلية تتبع لها، يحمل بعدًا خطيرًا على المدى البعيد، فالعقود بصيغها يمكن العمل على تفنيدها ومواجهة إيران بها في المستقبل، ربما يتم إبطال العقد أو تعديل بنوده أو وضع عراقيل تحول دون استفادة إيران من المورد».
وتابع: «أما بالنسبة لتلك الأصول فقد عمدت إيران إلى امتلاك آلاف الهكتارات والعقارات وغيرها عن طريق إيرانيين تم تجنيسهم بالجنسية السورية أو سوريين تابعين لإيران، أعتقد أن هذا الأمر له بعد خطير في التغيير الديمغرافي ومحاولة لتثبيت نفوذها في سورية مهما حدث».
المواني والفوسفات والكهرباء.. إلى أين وصلت سيطرة إيران على دمشق؟
وبعيدًا عن الإنفاق الإيراني، فالسؤال الأهم الآن هو عما حصلت عليه إيران فعلا حتى الآن، ووفق ما هو معلن فإن العقود التي وقعتها إيران مع نظام الأسد حتى الآن، وصلت إلى معظم قطاعات الاقتصاد، بداية من قطاع الطاقة، مرورًا بالقطاع المالي، بالإضافة إلى القطاعات الصناعية والتجارية والعقارية والنقل، وصولاً إلى قطاع الاتصالات، ناهيك عن الاتفاق على إنشاء بنك مشترك بين البلدين مقرة دمشق، وهو ما يشير إلى علاقات مصرفية قوية.
ذكرنا أن إيران هي الشريك التجاري لسوريا، لكن هذا ليس جديدًا، الجديد هو العقد الذي أقره مجلس الشعب السوري، في يونيو (حزيران) 2018، والموقع بين الحكومة السورية وإيران بشأن الاستفادة والاستثمار في مناجم الفوسفات في تدمر، وقد أصبح قانونا بمدة عقد تبلغ 50 عامًا، بينما تسعى إيران لإتمام خطتها بشأن خط سكك حديد يمتد من طهران حتى دمشق، وقد أعلنت خلال الأشهر القليلة الماضية أنها استأنفت خطتها لإنشاء خط سككٍ حديدية يمتد من طهران إلى دمشق، مرورًا بالعراق.
على الجانب الآخر، قررت الحكومة السورية تأجير ميناء ساحلها الغربي في اللاذقية، بدايةً من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2019، استجابةً لطلب إيراني رسمي، بينما تشير توقعات إلى أن إيران تقترب من الحصول على حق إدارة ميناء بانياس السوري، وهو ما يعني سيطرة كبيرة لإيران وستتمكن من خلالها من إدارة اثنين من المواني على المتوسط من أصل ثلاثة مواني فقط في سوريا هي: اللاذقية، بانياس، طرطوس.
أيضًا فقد وقعت إيران عدة اتفاقيات تعاون خلال الأشهر القليلة الماضية، ومُنِح الإيرانيون بموجبها حق استخدام 50 كيلومترًا مربعًا من الأراضي الزراعية، وحق الانتفاع بمناجم الفوسفات في جنوب تدمر، وحق التحكم في تراخيص مشغلي الهواتف المحمولة، بالإضافة إلى أن إيران خلال السنوات الماضية هي التي توفر أغلب احتياجات سوريا من الغاز والنفط، كل ما ذكرناه من هذه الاتفاقات تدر مليارات على إيران، ولكن هل يتوقف الأمر عند هذا الحد؟
إعمار سوريا.. باب طهران الخلفي لتحصيل فاتورة الحرب
بالطبع لن تقف العلاقة الاقتصادية الإيرانية في سوريا عن هذا الحد، فبالرغم من الحجم الضخم للصفقات الموقعة بين إيران والأسد، يظل ملف الإعمار بمثابة الباب الخلفي لتحصيل الفاتورة الحقيقية للحرب، ففي خطوة وصفتها دمشق بالتاريخية، وقعت سوريا وإيران، اتفاقًا حول التعاون الاقتصادي الاستراتيجي بعيد الأمد بين البلدين، وذلك في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي.
الاتفاق يجعل الأولوية في إعمار سوريا للشركات الإيرانية، وتم من خلاله إبرام تسعة مذكرات تفاهم في مجالات عدة بينها سكك الحديد وبناء المنازل والاستثمار ومكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، بالإضافة إلى التعليم والثقافة، وكذلك توقيع عقود لإصلاح عدة محطات كهربائية في البلاد، بينما تؤكد طهران على أن «الشركات الإيرانية مستعدة للتعاون اقتصاديًا مع سوريا خلال مرحلة إعادة الإعمار».
لكن يعتقد قومان أن عقود إعادة الإعمار الإيرانية الموقعة مع الأسد مؤجلة بظرف سياسي يحتم على أطراف الصراع حل عقده، ولن يكون لإيران قسمة في هذا الجانب في ظل العقوبات واسعة الطيف المفروضة على النظام لمنعه ومنع من يساعده في إعادة الإعمار.
وأضاف: «أما على الصعيد الصناعي فإيران تعاني من أزمات وعقوبات وهو بلد نامٍ غير قادر على النهوض بصناعة خارج حدوده، أما عقود الطاقة فهناك تنافس محتدم مع روسيا في هذا القطاع، وفي التجارة فالتبادل التجاري بين البلدين قبل الثورة حمل أرقامًا خجولة على الرغم من التقارب السياسي والعسكري الكبير، واستمر كذلك الأمر بعد الثورة».
العقوبات الأمريكية والسيطرة الروسية.. عوامل قد تقوض مكاسب إيران
ربما هدأت الصراعات العسكرية لكن هذا الهدوء أشعل صراع المصالح الاقتصادية، فروسيا لا تريد التفريط في أي سنت قد تحصل عليه من سوريا وهو ما يضر بالمصالح الإيرانية، التي تجد شريكًا أكثر جاهزيه منها في العمل في سوريا، وذلك في ظل الضغط الكبير التي تعيشه البلاد بسبب العقوبات الأمريكية.
ختامًا يؤكد قومان أن مشروع الهيمنة الإيراني على الاقتصاد السوري سيكون في مأمن فقط إذا قادت الهندسة الروسية لسوريا عسكريًا وسياسيًا، إلى حل يضمن بقاء الأسد، ومع ذلك فإن إيران ستواجه منافسة كبيرة من روسيا، كما أن أي حل سياسي لا يوافق المجتمع الدولي عليه سيبقي سوريا معزولة دوليًا ومحرومة من الأموال والعائدات، وهذا ما يفرغ حصص إيران الاقتصادية من مضمونها.
أما لو تمخضت الأحداث عن الذهاب إلى حلول سياسية تبعد الأسد عن السلطة فستكون إيران بمواجهة المعارضة الرافضة لها جملة وتفصيلًا إذ سيتم وضع عراقيل تشريعية وتنفيذية لإلغاء عقودها أو للتخفيف من أضرارها على الاقتصاد السوري بالحد الأدنى.