بعد نحو 45 يومًا من سقوط النظام، بدأت «قوى الحرية والتغيير» تصعيدها الأكبر ضد المجلس العسكري بالدعوة للإضراب العام، الذي من المقرر أن يكون اختبارًا علنيًّا لقياس الثقل السياسي للطرفين؛ وبينما هدد قائد قوات الدعم السريع، الفريق حميدتي الثوار في حال مضوا في تهديدهم؛ أعلن رئيس تحالف نداء السودان – المنضوى تحت «قوى الحرية والتغيير»- الصادق المهدي رفضه للإضراب، وهي الخُطوة التي تُوجت بمزيدٍ من الانقسامات داخل صفوف الحراك.
هذا التقرير يشرح لك كيف دخلت الثورة السودانية محطتها الأخطر بين انقسام المعارضة، وتشبث الجيش المدعوم خارجيًّا بالسلطة.
كيف يتلاعب المجلس العسكري بالثوار؟
في الوقت الذي قاربت فيه مهلة الشهرين التي منحها الاتحاد الأفريقي للمجلس العسكري بتسليم السُّلطة للمدنيين -تنتهي في أواخر يونيو (حزيران) القادم- التقى رئيس المجلس العسكري الفريق عبد الفتاح البرهان بالرئيس المصري في أول جولة خارجية له امتدت لاحقًا لتشمل الإمارات وجنوب السودان، بينما سافر حميدتي إلى السعودية برفقة مدير مكتب البشير، الفريق طه عثمان، ثم أعلن بعدها المجلس العسكري استمرار مشاركة الجيش السوداني في حرب اليمن.
هذه الزيارات جاءت بعد تعثر المفاوضات مع المعارضة، التي رأت أن دخول المجلس صراعات المحاور في المنطقة يتنافى مع طبيعة وظيفته في تأمين الانتقال السلمي للسلطة، بالإضافة إلى أنّ الزيارات الخارجية أعطت مؤشرًا بأن الجيش يمارس أساليب النظام السابق نفسها بالاستقواء بالخارج ضد معارضي الداخل، خاصًة بعدما حصل على مساعدة اقتصادية من الرياض وأبوظبي بقيمة 3 مليارات دولار.
والمثير أنّ البرهان نفسه روّج لتلك الفرضية عبر التحية العسكرية التي أداها للسيسي، والتي لا تقل أهمية عن الرسائل التي حملها ظهور طه عثمان إلى جانب حميدتي، في الوقت الذي رفضت فيه حراسة مدير المخابرات السابق، صلاح قوش، تنفيذ قرار النيابة العامة بالقبض عليه، قبل أن يفر بعدها إلى القاهرة، بحسب تسريبات.
وكانت «قوى الحرية والتغيير» والمجلس العسكري، قد توصلا منتصف الشهر الحالي لاتفاق أولي على هياكل الحكم؛ يتمثل في تشكيل مجلس سيادي يضم مدنيين وعسكريين، ومجلس وزراء بصلاحيات تنفيذية، ومجلس تشريعي تكون فيه أغلبية الثلثين لقوى الحرية والتغيير، لكنّ الاختلاف الحالي يكمن في تشبث العسكريين برئاسة المجلس السيادي، وأن يكون بأغلبية عسكرية.
وبينما اقترحت «قوى الحرية والتغيير» أن يضم المجلس ثمانية أعضاء من المدنيين وسبعة من العسكريين، أصرّ المجلس العسكري على أن يكون سبعة من العسكريين وثلاثة من المدنيين، واللافت أنّ الجيش اقترح مرارًا إجراء انتخابات مبكرة في حال وصلت المفاوضات إلى طريقٍ مسدود.
ولطالما انتهج المجلس العسكري في السودان سياسة تضييع الوقت والتلاعب بالثوار؛ فمنذ اندلعت الاحتجاجات السودانية في 19 ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي، والمؤسسة العسكرية تتبنى في أحيان كثيرة خطاب العداء الكامل للثورة منذ الأيام الأولى لها. فرئيس الأركان السابق الفريق كمال معروف– قريب البشير- وصف قادة الاحتجاجات في بيانٍ رسمي بأنهم «مشردون وعملاء الدول المشبوهة»، ورغم هذا العداء العلني، فإنّ الجيش وظّف نفسه مرارًا في الأحداث بأنه شعرة معاوية التي تجمع المعارضين بالنظام.
وفي الوقت الذي تصاعد فيه عنف الشرطة وجهاز المخابرات ضد المتظاهرين، تدخل الجيش لحماية المنشآت الاستراتيجية والمتظاهرين معًا، في رسالة أراد القادة العسكريون إيصالها إلى الثوار، بأن انتفاضتهم محمية. خاصة بعدما صدرت الأوامر العليا للضباط في الشوارع بعدم التعرض للمتظاهرين، وهو ما ساهم في تقليل عدد القتلى – حاليًا نحو 55 قتيلًا – مقارنة بأحداث عام 2013 التي أودت بحياة 200 من المعارضين.
وطيلة أربعة أشهرٍ من الاحتجاجات كان الجيشُ يُتهم بتجاهل آلام الشارع، ليقرر المتظاهرون أخيرًا الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش، الذي أعلن حينها أنه لن يسمح بسقوط النظام، لكنّ أحداث خمس ليالٍ ضبابية قضاها الثوار في اعتصام القيادة العامة كانت فاصلة، ليضطر القادة العسكريون لإطاحة البشير في مقابل أن يظلوا هم في المشهد.
يقول الصحافي السوداني أسامة عبد الحليم لـ«ساسة بوست»: «تحاول قوى الحرية والتغيير إبعاد الجيش تمامًا عن المعادلة، وكأنه لم يشارك في الثورة بالانحياز والحماية، وهو ما جعل القادة العسكريين يعيدون التفكير في مسألة تسليم السلطة».
بينما يُوضح مصدر مُطلع قريب من المؤسسة العسكرية لـ«ساسة بوست» أن: «المجلس العسكري يدرس الآن، خياراته بالتشاور مع شركائه في مصر والخليج، بتسليم الحكومة لقوى أخرى وطنية لا علاقة لها بالإسلاميين أو بقوى الحرية».
صراع الهوية.. لماذا يتقاتل الأشقاء الثوريون؟
الورقة الأخيرة التي أعلنتها «قوى الحرية والتغيير»- تجمع المهنيين، ونداء السودان، وقوى الإجماع، والتجمع الاتحادي- بإعلان إضراب عام لمدة يومين؛ أثارت غضب المجلس العسكري الذي هدد باتخاذ إجراءات عقابية بحق المشاركين، لكنه في الوقت نفسه أثار انقسامًا داخل القوى السياسية التي يمثلها.
زعيم «حزب الأمة» السوداني الصادق المهدي، الذي يرأس «تحالف نداء السودان» أعلن رفضه للإضراب، ورأى أنّ الحل في مجلس سيادي مدني برئاسة عسكرية، وهي الخُطوة التي تُوّجت بمزيدٍ من الانقسام الداخلي حين أعلن «حزب المؤتمر السوداني» المنضوي تحت «نداء السودان»، بتأييد الإضراب، لكنه وافق على رؤية المهدي بشأن الخلاف حول المجلس السيادي، وهو ما يضع الجميع في خلافات مركبة.
ورغم أنّ العصيان المدني هو الورقة الأخيرة في التصعيد ضد المجلس العسكري، والتي طالما كانت السلاح المُفضل للمعارضة ضد البشير، فإنّ رافضي التصعيد يتخوفون من آثاره السلبية المدمرة؛ ففي حال فشله قد يدفع العسكريين لإعادة النظر في الاتفاقات الأخيرة بشأن تقسيم السُلطة بينهم وبين تحالف قوى الحرية والتغيير، وحميدتي نفسه استبق الأحداث واتهم التحالف بعدم مشروعيته للتفاوض حول تسليم السُلطة.
والسيناريو الآخر الذي يعوّل عليه «تجمع المهنيين السودانيين» صاحب فكرة الإضراب؛ هو إجبار المجلس العسكري على تقديم مزيدٍ من التنازلات والقبول برئاسة المجلس السيادي والمشاركة به بأغلبية مدنية، وهو ما يتنافى مع سياسة الجيش الذي أعلن غير مرةٍ بأنه شريك في التغيير باعتباره حامي الثورة وصانعها.
على جانب آخر، فـ«قوى الحرية والتغيير» الذي يتصدر المشهد منقسم على نفسه بسبب صراع الهوية على مستقبل السودان. يقول المحلل السياسي السوداني مصطفى أبو العزايم لـ«ساسة بوست»: «قوى الحرية والتغيير كانت تتفاوض مع المجلس العسكري ثم تُصدر بعدها بيانات متناقضة حول نتائج المقابلة، تزامنًا مع الهجوم الإعلامي الذي شنه قادة الأحزاب والتيارات ضد بعضهم رغم أنّ الثورة لم تنجح بتسليم السُلطة».
وتتبادل الاتهامات داخل الحراك السوداني؛ فبينما يتهم الإسلاميون اليساريين بأنهم تواصلوا مع الجيش للانقلاب على البشير – وهي الرواية التي روجها العسكريون في البداية- أيضًا يُتهم اليساريون بمحاولة الانقضاض على الحراك واستبعاد الشريعة وإقصاء الإسلاميين من الحياة السياسية، أمّا اليساريون فيتهمون الإسلاميين بعدم المشاركة في الثورة الأخيرة، وأنههم يريدون فرض الشريعة لأنها أحد أسلحتهم الأساسية للبقاء في الحُكم.
ومنذ اللحظات الأولى لسقوط النظام، وجّه «الحزب الشيوعي» الاتهامات للتيار الإسلامي وعلى رأسه «حزب المؤتمر» الذي أسسه حسن الترابي بمحاولة الانقلاب الأخيرة، كما هاجم «حزب الأمة» وعلى رأسه مريم الصادق المهدي، التي اتهمها الحزب في بيان رسمي بمحاولة اختطاف الثورة.
وفي أثناء انقسام الشارع في السودان، لوّح المجلس العسكري بعدم سماحه إقصاء معسكر السُلطة القديم المتمثل في «الحركة الإسلامية»، وهو ما يعني استمرار مرجعية الحركة بين قادة الجيش والمؤسسات التي تقود الثورة المضادة.
وحتى الآن يتوقف نجاح الثورة على تنفيذ ستة مطالب تتمثل في تصفية النظام السابق، وتشكيل حكومة مدنية وهيئة تشريعية، ومجلس رئاسي بأغلبية مدنية وتمثيل عسكري محدود، ومحاربة الفساد، وإصلاح الاقتصاد، وإعادة هيكلة جهاز الأمن القومي.
على خُطى المعارضة.. هل يواجه جيش السودان انقسامًا من الداخل؟
نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريرًا حول الانقسامات الداخلية التي يشهدها المجلس العسكري في ظل صراعه مع «قوى الحرية والتغيير» المنقسمة هي الأخرى على نفسها، وهو ما اعتبرته الصحيفة الأمريكية مؤشرًا على انتهاء شهر العسل الذي عاشته الثورة السودانية بعد إطاحة الرئيس المخلوع عمر البشير.
والخلاف الرئيس داخل الجيش فجّره قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول حميدتي، الذي قاد قواته لمحاولة فض الاعتصام، والتعدي بالرصاص الحي على المعتصمين، قبل يومين من إعلان الصفقة النهائية بين المجلس والمعارضة، في خُطوة اعتبرت أنّ حميدتي الذي يطمح في خلافة البشير يرى في الانتقال السلمي للسُّلطة خطرًا على طموحه السياسي المتزايد، خاصة أنه من أنصار إجراء انتخاباتٍ عاجلة.
وفي السياق ذاته كشفت صحيفة «الأخبار» اللبنانية نقلًا عن مصادر، أنّ حميدتي جنّد مؤخرًا مزيدًا من قبائل شرق السودان للانضمام إلى قواته برعاية سعودية إماراتية، بهدف المساهمة في إضعاف دور الجيش السوداني باعتباره مركزًا للإسلاميين، بحسب وجهة النظر الخليجية. وتجدر الإشارة إلى أنّ الجيش ساهم في تأجيج غضب المعارضة في عهد البشير حين أعلن خسائره في اليمن، عكس حميدتي الذي أكد بقاء قواته حتى نهاية الحرب.
وترجع بدايات صراع حميدتي مع الجيش وجهاز المخابرات إلى 15 عامًا مضت؛ عقب تشكيله ميليشيات الدعم السريع التي شاركت في قمع انتفاضة دارفور، وأصبحت بعدها قوة نظامية معترفًا بها. وعقب سقوط نظام البشير طالب الجيش من حميدتي المشاركة في المجلس العسكري لإضفاء الشرعية على مثلث الحرس القديم المتمثل في (وزير الدفاع ابن عوف، ورئيس الأركان كمال معروف، ومدير المخابرات صلاح قوش).
لكنّ حميدتي الذي انحاز للمتظاهرين في وقتٍ مُبكرٍ من ثورتهم أعلن رفضه الانضمام إلى المجلس؛ ليتسبب في ما عُرف بالسقوط الثاني للنظام، قبل أن يوافق ويصبح نائب رئيس المجلس الانتقالي، ليروّج لاحقًا بأنه هو صاحب فكرة إطاحة البشير.
وسبق لحميدتي -الذي أعلن رفض تسليم البشير- أن نشر عبر صفحته استفتاءً حول بقاء قواته في اليمن، ثم أعلن بعدها بقاء القوات لحين تحقيق التحالف أهدافه. ليصبح بلا مُنازع «عرّاب» المصالح السعودية في السودان؛ والرجل نفسه الذي يُعلن تأييده لمطالب المعارضة، شوهدت قواته تنتشر في الخرطوم وتطوّق العاصمة قبل أن تنفذ قواته محاولتين لفض الاعتصام، وحاليًا يتولى مهمة الهجوم على «قوى الحرية والتغيير» لإفقاد شرعيته الثورية بالتفاوض، في خُطوةٍ قد تُمثل الكثير في حال فشل الإضراب العام.