فلسطين – نورا أبوسلمه /
كُنّا نخرج صباحًا، مع أصابع الشمس محاطين بالكثير من الأدعية والوصايا، التي تبدأ بـ«لا ترد على شخص نادى عليك لتركب في السيارة، لا تحكي مع غريب، ما تدخل لوحدك على السوبر ماركت، لا تروح عبيت صاحبك بدون علمنا، لا تلعب بالحارة لحالك، ممنوع تطلع المسا دون أخوك الكبير» وغيرها من الجمل الحذرة والتنبيهات، كانت الأمهات تحصننا بالأذكار الصباحية، وكلمات مكدسة من خوف الاختطاف.
ورغم قائمة التحذيرات الطويلة، بقيت معضلة الأهل الأولى؛ أن تواجدهم مع أطفالهم محدود بحكم الوقت والعمل والانشغال، ودخولنا في عصر الانفتاح للمواقع الإلكترونية، والفجوة بين الأجيال والتطور في مسالك الطفولة، فقديمًا كنا نخرج للمدرسة، ثم للبيت، وبعدها للعب في الحارات، وكلمة واحدة من الأب في ساعات الغروب كافية لأن تجمعنا حوله، والآن من المدرسة إلى نادي اللغة، وربما الجيم، وبعده إلى السباحة، وربما كافيه الإنترنت، والشارع، والدروس الخصوصية، والكثير من الأشخاص، والكثير من المواقف التي قللت فرصة تواجدنا في محيط البيت، وأضعفت حبل الوصال مع الأهل، بعد أن كنا تحت أجنحتهم لقرون، والآن ما عاد الجناح قادرًا على أن يظللنا في كل مكان.
قد يكون ابنك في حجرك، وبيده هاتف يطير به إلى عوالم بعيدة لم يسعفك الوقت والزمان لمعرفتها، وقد تكون ابنتك جالسة في جنابك وتشغلها قضايا لم تكن مطروحة في الزمن الذي كانت تُختزل فيه الفتيات في المطبخ والدراسة للصف السابع فقط.
هل تكفي الوصايا المغلقة والمغلفة والأذكار والجمل غير المعولة بالنتائج بأن تكف الشرور عن أطفالنا؟!
إن المشكلة الكبرى في مجتماعتنا هي خلط المفاهيم بطريقة غريبة تحجب معانيها الحقيقية، ومن ثم تحجب طريقة التعامل مع المفهوم.
في صغرنا كنا نصب تحذيرات الأهل في قالب الخوف من الاختطاف، وربما تجارة الأعضاء كما كانت تقول نساء الحي، وفي المقابل كانت تختفي من قائمة المفاهيم في عقولنا مفهوم التحرش، ومفهوم الاغتصاب، وبُدلت وخلطت بمفاهيم سوقية مثل «لو البنت ما كانت مربية كان الشاب ما تعرضلها، ولو البنت ما أعطت مجال كان ما لمسها، ولو ساترة جسمها كان ما مد إيدو» والكثير من الجمل جعلتنا نتعامل مع الاغتصاب والتحرش مثل الزنا بأن الطرفين عليهما الحق، ووقع عليهما الحساب، والضحية هي السبب الأول في وقوع الحادثة.
فبدل أن نرسخ الوعي والدين والحق رسخنا ترسبات بالية من أحاديث الجارات في عقول الفتية، وكانت النتائج أن تتعرض طفلة للتحرش، ويمنعها الخوف من القول وفضح المتحرش بعد أن يغسل عقلها بذات الكلمات التي كانت تسمعها في المجالس الجاهلة «سوف أفضحك عند أهلك، رح تصيري بنت مفضوحة، وفيها عيب، ما حدا بتجوزك، أخوك بقتلك عشان يغسل شرفه» والكثير من الجمل والإهانة والابتزاز لتمر سنوات كثيرة، والمجرم يستمتع بضحيته دون صد منها، حتى يجد الطفل نفسه في مستنقعين؛ الأول هو الإدمان فكل الأبواب متشابهة بعد الخروج عن الصواب، فتفتح له طرق المخدارت والدعارة والشذوذ، والثاني هو مستنقع الخوف، والانطوائية، وتحقير الذات، وكُره الحياة؛ ليستيقظ الأهل على خبر انتحار ابنهم المراهق.
نحن لا نستطيع أن نكون خلف أطفالنا دائمًا؛ لذا وجب أن نضع أمامهم الوعي، وأن نشعل في عقولهم مفاهيم كثيرة، وأن نمد حبال الوصل والحديث، ونكون أمانهم في هذا العالم الواسع، نحن لا نستطيع دفع الخطر عنهم دائمًا، لكن نستطيع أن نعلمهم كيف يتجنبونه؟ وكيف يدافعون عن أنفسهم؟
سأضع هنا عدة خطوات لحماية الأطفال من التحرش مستوحاة من مقالات لأطباء الأطفال، وعلم النفس المختص، في العلاج النفسي للأطفال.
أولًا: إعطاء مساحة للأولاد للتعبير عن أنفسهم، وتعويدهم على وقت تجتمع فيه الأسرة للعب والسهر والسمر، وللحديث عن مجريات اليوم، وكيف قضوا وقتهم، وجعل هذه الفترة من أساسيات العلاقة الأسرية مهما كان الأب والأم منشغلين، والاستماع الجيد وإظهار الاهتمام، وترديد جمل مثل «إحنا صحاب، وشو عملت اليوم في النادي؟ كيف أستاذ الموسيقى؟ انبسطت بالدرس؟» دون أن يكون الحديث جامدًا، ويأخذ شكل التحقيق، إنما يكون حديثًا بسيطًا ومرنًا محاطًا بالمزاح ومن ورائه اطمئنان على الأولاد.
ثانيًا: إياكم أن تقدموا المواقف العامة والأشخاص على حساب أبنائكم، مثلًا أن يمازح شخص طفلك بكلام يستفزه أو أن يذكره بموقف يخجل منه، وتصمت دون أن تمنع عنه هذا التنمر، حتى وإن كان بصيغة المزاح، عليك إيجاد رد مناسب ومؤدب، تُسكت الطرف الآخر، وتشعر ابنك أنك دائمًا معه، ومشاعره أهم لديك من أي شيء آخر، حينها سيشعر دائمًا أنك ملجؤه الأول.
ثالثًا: زرع فكرة أن أجسادهم ملك لهم، ويمنع الاقتراب منها ما لم يسمحوا بذلك، وأن السلام له طرق معينة، والأحضان والمداعبة والتقبيل ليست للجميع، وأن هناك مناطق حساسة يمنع لمسها، وفي حال تم لمسهم بطريقة تزعجهم عليهم الابتعاد والقول للأب والأم، وإحياء مفهوم الخصوصية فعند دخول الحمام وتبديل الملابس في غرفة النوم يجب إغلاق الباب.
رابعًا: قول «ابتعد، لا أريد، لا تلمسني، لا تقترب، وأهمها قول لا»، على الأهل أن يربوا أطفالهم على التمرد الجيد وهو قول لا، حين لا ترتاح لأمر، وحتى وإن تعرضت للضغط من الغرباء.
خامسًا: تعليم الأطفال المسميات الحقيقية للأعضاء وليس بمفردات غير مفهومة، فحين يتعرض الطفل للتحرش من شخص مقرب، ويفزع منه إليك، سيسهل عليه التعبير، ولن يستطيع المتحرش تغير كلامه؛ لأن الطفل قد قال بصريح العبارة على عكس المسميات التي يعلمونها لهم من كلمات وأحرف غير مفهومة، وحين يشعر المتحرش أن طفلك واعٍ بأعضائه، سوف يضع احتمالًا بأن يقول لك.
سادسًا: لا تجبر طفلك على التعامل مع أشخاص لا يحبهم وينفر منهم، علمه الاحترام للجميع لكن التعامل والمحبة كما يريد هو وكما يرتاح.
سابعًا: استمع لطفلك حتى النهاية، وإياك أن تظهر الغضب عليه، إنما الغضب له، وأنك ستأخذ حقه، وأن تثني عليه لعدم صمته، وإياك أن تشعره بالذنب أو الندم لاعترافه.
ثامنًا: العمل على تنمية مهارات الطفل من رسم وغناء وكتابة وإشراكه في المسابقات، وتعليمه الرياضة مثل الكاراتيه والسباحة؛ فالطفل الذي لديه مهارات اجتماعية يكون صاحب شخصية قوية، ونادرًا ما يتعرض للتحرش، على عكس صاحب الشخصية الضعيفة الذي لا يرفض، ولا يعبر، ويخجل كثيرًا.
تاسعًا: اذكر بعض الأمثلة ولو كذبًا عن أطفال يلجئون لأهلهم لحل مشاكلهم حين يصعب عليهم إيجاد الحل، وتكلم عن الأطفال الذين يعتبرون آباءهم مثل أصدقائهم، وعليك توطيد علاقة الصداقة من خلال الخروج معهم لأماكن يحبونها مثل النادي الرياضي، أو مطعم يحبه، أو زيارة بيت صديقه.
عاشرًا: أتمنى من كل أب وأم القراءة أكثر عن موضوع «التحرش بالأطفال» وكيفية التعامل مع الحدث، وأن يضعوا الاحتمال أن التحرش لا يكون من الغرباء فقط، إنما الأقرباء الذين يدخلون بيوتنا، ويأكلونا من طعامنا.
وأخيرًا: كل النصائح توضع في كف، وفي الكف الآخر تبقى النصيحة الأولى والأخيرة كونوا أمانهم، وبئر أسرارهم، ومنبع الحنان لهم؛ حتى لا يبحثوا عنه خارج جدران البيت عند أشخاص قد يستغلون شوقهم للاهتمام، والشعور بالقبول والحب، لإشباع رغباتهم الجنسية.