الخرطوم : محمد عبد الله بشير خير السيد —-
إن هوى النفس الداخلي وحده لا يصنع ديكتاتور (طاغية) في أي نظام حكم (سياسي، عسكري، خدمي) كما ذكرنا في المقال السابق، بل إن هناك عاملًا رئيسًا اخر يساهم جوهريًا في صناعة الديكتاتورية وتحصين أنظمة حكمها مستقبلًا لسنين عددًا ألا وهو «حاشية السلطان وزبانيته».
فالطبيعة التي يتم من خلالها صناعة ديكتاتور في المجتمعات العربية هي طبيعة الحاشية التي تتكون من أول يوم في بيئة عمل الحاكم السلطان وتكون ملازمة له ومحيطة به من كل الاتجاهات.
وبما أننا نتكلم عن أنظمة الحكم السياسية ودوره في واقع المجتمعات، فالأصل عندنا أن حاشية وزبانية السلطان هم شبكة من أولئك الذين يبتغون تأمين مصالحهم وزيادة نفوذهم وهيمنتهم على حياة الناس العامة والخاصة إلا إذا أثبتوا العكس بأفعال وممارسات وسياسات في الواقع.
ونحن نؤمن بالحكمة التي تنص على أن «الأصل هو أن تسيء الظن بمن هم في كراسي السياسة إلا إذا أثبتوا العكس». فمن يعتقد أنه يجب علينا أن نحسن الظن بمن هم في كراسي الحكم والسلطة السياسية لأننا نحن مسلمون وديننا سمحٌ ويجب أن نكون مسامحين ورحيمين فهو ساذج التفكير وجاهل بدهاليز ومكر الساسة في التاريخ القديم والمعاصر. لأن سياسة الحكم وأنظمتها لا تبنى على القيم والمبادئ كما يعتقد المتفلسفون، بل تبنى على المصالح (الفردية الضيقة أوالجماعية الواسعة).
هذا يقود إلى نتيجة أساسية في معادلة الحكم والرياسة مفادها بروز جناحين في المجتمع: مصلحين يحاولون إصلاح واقع المجتمع لتحقيق مصالح المجتمع المشتركة المشروعة، ومفسدون يحاولون السيطرة والهيمنة بكل ما في المجتمع لتحقيق مصالحهم الفردية الضيقة واستدامة نفوذهم، وهذا مصداقًا لقوله تعالى مؤكدًا وجود جناحين في المجتمع، هم المفسدون والمصلحون، يدفع الله كلًا منهم بالآخر من أجل أن يتطور المجتمع ولا يثبت على الظلم والفساد الجماعي «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولٰكن الله ذو فضل على العالمين» البقرة (251).
ونقصد بالحاشية علي المستوي العام كل أولئك الذين يعملون تحت إمرة السلطان الحاكم الرئيس أو المدير أو القائد أو شيخ رأس القبيلة أو رؤساء الحركات التنظيمية السياسية، سواء كانوا مساعدين ومستشارين ونواب، أقرباء بالدم، تابعين ومريدين لك في الطائفة والمذهب الديني، أصدقاء مقربين، مدراء مكتبك، أبناءك، موظفين، أبناء قبيلتك أوعرقيتك، أبناء منطقتك والحي الذي تسكنه… إلخ.
أما الزبانية فهم الجهة التي تنفذ تعلميات حاشية السلطان حرفيًا دون أي تردد، وهذا واضح في أولئك التابعين لأجهزة السلطان الأمنية والميليشيات العسكرية الغاشمة التي تنفذ تعليمات حاشية السلطان بقتل واعتقال وتصفية نفر من الأبرياء دون وجه حق. أما الديكتاتورية (الطغيان) نعني بها إساءة استخدام السلطة وتنزيلها علي الواقع العام، سواء مع الطبيعة أو المواطنين أو الممتلكات العامة ما يؤدي إلى انتهاك حقوق وحريات الآخرين وتوظيف الممتلكات والموارد العامة لتحقيق مصالح وأهداف الطاغية وحاشيته وزبانتيه.
إذًا نتوصل إلى المعادلة التي توضح الممثلين الثلاثة لأي نظام ديكتاتوري وهم: الحاكم الشخص الذي يظن أنه إله، حاشية الحاكم اللصيقة به (مساعدون ومستشارون ونواب الذين يحكمون باسم الحاكم الإله… إلخ)، زبانية حاشية الحاكم (الأجهزة الأمنية والميليشيات العسكرية).
فمثلًا على المستوي السياسي في بيئة أنظمة الحكم الملكي والجمهوري، إذا وجد الحاكم أن شبكة الحاشية اللصيقة به يتطابقون معه ويدعمونه في كل اراءه وتصوراته وإقتراحاته ويقولون له: «سًمعًًا وطاعةً يًا وليً الأمر لًيسً لًنًا منً الأًمر شًيء» ولا يختلفون معه في أي مسألة، فسوف يشحن بالغرور والعظمة الذاتية بالذات فيوظف دعمهم في استخدام السلطة والصلاحيات القيادية بصورة غير أخلاقية من أجل إثبات جدارته وأحقيته بالمنصب القيادي فيظلم ويفسد ويهلك الحرث والنسل.
فإذا وجد أًيً معارضة أو مقاومة سلمية من أي طرف في المجتمع، سحقها بإعطاء تعليمات لزبانيته ليستعملوا أدوات الإكراه (أجهزة أمنية موالية للسلطة وميليشيات غير رسمية غاشمة. ثم يأتي دور حاشية السلطان (حاشية الملك أو الرئيس) الحاشية المنافقة المقربة وزبانتيها.
أولًا بالتطبيل المعنوي له، وذلك بتملقه وتزكيته على الله، والإطراء والثناء والمدح الكاذب آثمين وبإلصاق جميع القيم والمثل العليا به مثل القائد البطل الصادق المجاهد المعلم… إلخ.
ثانيًا يقومون بتضخيم القوة التي يملكها الحاكم في الواقع ما يجعله يغتر بها فيعتقد أنه يملك قوة عظمي لا تدحر من قبل معارضة أو من أي انتفاضة شعبية فيعتقد أنه فرعون عصره.
ثالثًا يقومون بتزييف الواقع الحقيقي أي نقل معلومات منقوصة أو مغلوطة عن واقع حياة المواطنين الحقيقية لكي يبعدوا الحاكم عن صناعة القرار عمليًا وينفردوا هم كحاشية بالسلطة فيكون هنا الحاكم كالأحمق في الزفة.
رابعًا يقومون بحجب أغلبية التقارير والمعلومات المهمة والشكاو الجماهيرية التي قد تعكس سوء الإدارة أو الفساد المؤسسي أو انتهاك لحقوق الإنسان والحريات وحقوق المواطنة أوغيرها، وبهذا تكون لهم السيادة والحكم الحقيقي في الواقع.
خامسًا يقومون بتقديم اراء واستشارات ومقترحات متطابقة مع هوى ورأي الحاكم (الطاغية) أو القيادي في أي منصب ما يجعل الحاكم يظن أنه يملك الحقيقة المطلقة والمعرفة الشاملة في أي شيء.
هكذا تتم صناعة نظام حكم ديكتاتوري (طاغية) في المجتمع. وهذا قابل أيضًا للحصول مع كل إنسان في أي مجال من مجالات الحياة الإنسانية، سواء كان يعمل في (مؤسسات الاقتصاد والمال، مؤسسات الثقافة والفن، مؤسسات المهن الحرفية، مجالس وطوائف وحركات الدين والعقيدة الضيقة التي تضيق بأهلها، شركات الخدمة والمنتجات، مؤسسات العسكر وغيرها).
ولقد صدق الله تعالي حينما سألت الملكة بلقيس مستشاريها ومساعديها (حاشيتها وملشياتها المقربة منها بالمصطلحات السياسية) رأيهم في كيفية الرد على رسالة سيدنا سليمان «قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمرًا حتىٰ تشهدون» النمل (32). فهي أرادت مشاركتهم الفكرية ووجهة نظرهم لصياغة ةستراتيجية توضح كيفية الرد علي سليمان الذي أرسل لهم رسالة وعيد شديدة بالعقاب الدنيوي إذا لم يلبوا ويخضعوا لتعليمات رسالته، فرد مستشارو ومساعدو الملكة بلقيس المنافقون (حاشية السلطان) بتضخيم مزيف لقوتها وصلاحيتها الحقيقية في الواقع وأحالوا لها سلطة صناعة القرار النهائي في الرد على سليمان وأنها هي صاحبة الكلمة المطلقة «قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» النمل (33). والظالمون بعضهم أولياء بعض.
ولقد حذرنا الله تعالي من نفاق ومكر وتملٌق شبكة (الحاشية اللصيقة القريبة) الذين يحيطون بأي إنسان في منصب قيادي في مؤسسة (مدنية، عسكرية، سياسية، فكرية، دينية، اجتماعية، ثقافية، إدارية… إلخ).
فهؤلاء الذين من حولك يريدون أن يستمر نفوذهم وهيبتهم ويأمنوا مصالحهم الشخصية التي يكتسبونها من تقديم إستشارات ومقترحات مغلوطة واراء كاذبة متطابقة مع هوى الحاكم ظاهرها خير وباطنها شر، أضف لهذا يقوموا بنقل معلومات منقوصة ومغلوطة عن واقع حياة المواطنين وواقع الدولة، أيضًا يقومون بحجب كل التقارير والشكاوي التي تعكس حالة المواطنين وحالة الدولة الحقيقية، ومن ناحية أخرى يقومون القوة الحقيقية التي يمكلها الحاكم في الواقع، بالإضافة إلي التطبيل المعنوي أي المديح والكلمات الرنانة المبجلة والثناء والتقديس الذي يأتي من حاشيته كمدح ديكوري تكتيكي لصاحب المنصب القيادي ويقولون ما ليس فيه ليغتر بنفسه، لأن صاحب المنصب القيادي عادةً ما يحب أن يعظمه ويقدسه ويبجًله الناس الذين من حوله ولا يخالفونه في رأي ويحب أن يكون محاط بحاشية مقربة منه تحيط منه ليستقوي بها ويستعين بها على إنجاز شهواته وأهواءه السلطانية. فما الذي يحدث هنا؟
الذي يحدث هنا أن الحاشية القريبة تعطي القائد معلومات واراء تتطابق مع هواه وطموحاته الحالية ويخدعونه بتزكيته على الله وإطرائه وشكره وتضخيم قوته ليستفيدوا هم من علاقتهم معه ليحققوا مصالح شخصية ومكتسبات مادية، ثم من الناحية الثانية يستفيد القائد منهم التحفيز المعنوي بالتطبيل وتوسيع دائرة نفوذه في المجتمع فيعتقد بعد ذلك أنه يملكهم ويملك المواطنين خلفهم وله حرية مطلقة أن يأمر وينهي حتى لو ألغيت هذا القوانين والقيم وفي بعض الدول العربية يأمر الملك أو الرئيس فيتم إعدام هذا ويتم تصفية ذاك دون محاكمات عادلة.
وهنا تسمى هذه الحاشية بالمترفين من المنظور القراني أي المستفيدين والمتربحين من النفوذ والعلاقة مع أهل السلطة والنفوذ والقوة فيفعلون ما يريدون، بالإضافة إلى أن القوانين لا تطبق عليهم لأنهم يخدمون هوى قائدهم السلطان الذي إذا رضي عنهم سيصبحون كائنات مقدسة فوق القانون والقيم.
وهذا موجود حاليًا في بيئة الحكم السياسي وفي مؤسسات الخدمة والمنتجات وفي باقي المؤسسات وليس حكرًا علي السياسيون. فمثلًا إذا سرق أحد حاشية وزبانية القائد (حاشية وزبانية السلطة) الاف الجنيهات من المال العام لا يعاقب بواسطة تطبيق قانون جرائم المال العام، بل تعقد معه صفقة مساومة ليعيد استرجاع المال لأنه من حاشية السلطة، ولكن إذا سرق شخص عامي مواطن بسيط جنيهًا واحدًا بسبب الجوع يعاقب عليه بواسطة القانون وتقطع يده في دول أخرى.
وتستمر هذه اللعبة العنصرية التمييزية في قراءة وتنفيذ القوانين على أساس الانتماءات والولاءات الأيديولوجية، فمن كان له علاقة أيديولوجية مع أهل السلطة والنفود فعل ما يحلو له ونجا من المحاسبة والمساءلة والعقاب فأصبح من المترفين. ولكن تخيلوا معي أن الأمر لم ينته هنا!
بل بمجرد أن تأتي ساعة الحساب والمسائلة لهذا الديكتاتور (طاغية) من قبل القضاء أو لجنة المحاسبة والمسائلة العدلية نتيجة قيام انتفاضة شعبية من المواطنين، يقوم هؤلاء (الحاشية اللصيقة والزبانية) بالتضحية بالقائد (صاحب المنصب القيادي) ككبش فداء لينجوا بأنفسهم من سطوة المحاسبة وسلطة القانون. ثم يقوم أولئك المتربحون ماديًا بمحاولة يائسة بالدفاع عن تلك الحاشية ونظامها إعلاميًا (بنشر الشائعات) وفكريًا بالجدال عن الحاشية وترميم سمعتها وإلصاق إنجازات مستعارة، ولكن كل هذا لن ينجح. فعندما تأتي الانتفاضة الشعبية تكنس معها الديكتاتور وحاشيته وزبانيته والمستفيدين ماديًا وسلطويًا من وجود نظام الديكتاتورية في المجتمع، فقط الكنس يحتاج وقت.
يقول حكيم العرب أكثـم بن صيفي التميمي «من مأمنه يؤتي الحذر». ولقد هدم بنيان كثير من الطغاة الحكام العرب بواسطة خيانة أكثر الناس قربًا لهم (الحاشية اللصيقة والزبانية التي كانت تحمي الطاغية) فأتتهم الخيانة من حيث لا يشعرون.
وهذا ما يؤكد أن أي حاكم ديكتاتوري (طاغية) في أي دولة سيخر بنيانه ويطاح به هو وحاشيته وزبانيته وكل من يتربح ويستفيد منهم ولو بعد حين، وهو ليس في مأمن أبدًا، وأول من يهدم بنيان هذا الطاغية هم حاشية السلطة وزبانيته القريبة التي كانت تنافقه الرأي والنصح. ولهذا السبب كل الحكام الطغاة في العالم الغربي والشرقي عامةً وفي العالم العربي وشمال أفريقيا خاصة لا ينامون الليل ويعانون من الأرق والقلق والتوتر بسبب الخشية من قيام انتفاضة شعبية تقتلعهم أو خشيتهم من حدوث انقلاب عسكري يقوده حاشيتهم القريبة.
وإذا كان هؤلاء الحكام الطغاة لا يأمنوا علي أنفسهم من حاشيتهم اللصيقة التي بنوا معها سلطتهم عبر التاريخ، فهل يأمنون على أنفسهم من شعوبهم التي تملك أدوات الإنتفاضة وسلطة الميدان، وهل يأمنون على أنفسهم من الموت الذي يمكن أن يأتيهم بغتةً وهم يقظةً. ولقد هدم بنيان الطغاة الذي عملوا على بنائه 30 سنة أمثال القذافي (ليبيا) وبن علي (تونس) وعمر البشير (السودان) البائدين وغيرهم وما زال الباقون في الطريق إلى مصيرهم. وما زال حراك الشعوب حاليًا لاستئصال الدولة العميقة في الدول التي شهدت انتفاضات شعبية أطاحت برأس النظام والحاشية اللصيقة به مثل السودان، تونس، الجزائر وغيرها. وأن ربك لبالمرصاد. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ۖ لو كانوا يعلمون. العنكبوت (14).
ونحن في العالم العربي والشرق الأوسط تحكمنا مجموعة من حاشية السلطة وزبانيتها (حاشية السلطان أوالملك أو الأمير أو الرئيس)، التي تنتهج النفاق وازدواجية المعايير وتغيير المواقف طريقًا لتوسيع نفوذها، وتتخذ التطبيل والتضخيم المزيف للقوة مبدءًا للتقرب من الحاكم، وتتبنى فلسفة الاغتيال والتصفية الجسدية للخصوم والمعارضين عقيدةً لترسيخ حكم الحاكم واستدامة حكمه مستقبلًا. ثم يقولون بعد ذلك أنهم يعبدون الله، بل هم يعبدون السلطة، وما هم إلا قطيع من السفهاء اجتماعيًا وأخلاقيًا والمغضوب عليهم ربانيًا.