القاهرة – سيد عبدالجميد —
كل عام وأنتم بخير، نحن الآن في أكثر شهور العام أهمية بالنسبة للمسلمين والعالم العربي، نحن في شهر رمضان. لهذا الشهر طابع غريب على الجميع، الجميع يؤكد أن الأمور قد تغيرت كثيرًا عن الماضي وأن رمضان الآن لم يعد مثل رمضان في السابق.
دعك من الخلاف الزمني الذي يؤخر الشهر 11 يومًا كل سنة عن السنة التي سبقته، فنشهد نحن في عامنا هذا رمضان في الربيع! بينما عدد ساعات الصيام تختلف وتتفاوت من بلد إلى آخر إلى الحد الذي يجعل بعض الناس تصوم لـ20 ساعة!
دعك من الأطفال الذين لا يكفون عن اللعب والمشاجرات في الشوارع في نهار رمضان وفي خضم ساعات الصيام، مما يجعل الشباب والكهول في حالة من العصبية بسبب الصداع الذي يسببه الأطفال والحسرة علی أيام الصبا والطفولة التي مضت.
المشاحنات والمشاجرات التي تحدث يوميًا في كل مكان والتي يتم تعليلها بأن الدنيا صيام والناس لم تعد تتحمل الساعات القليلة المتبقية من الصيام. أتساءل لو أن الشيطان تُكبل بالأصفاد في رمضان فمن يوسوس للناس ليلعنوا الدنيا ويسبوا بعضهم البعض في نهار الصيام!
المشتريات
الجميع صار يتحدث عن الشراء والتخزين لهذا الشهر وتعبئة كل شيء وقولبته ليناسب الأجواء الرمضانية، وعلی سبيل المثال:
البرامج التليفزيونية مثلًا جميعها تكون مصممة لبرامج إعداد الطعام بأشهی الوصفات والأنواع والأشكال، وكأن ربات المنازل لم يعد بوسعهم تمضية الوقت دون تلك البرامج المبالغ فيها والمتكلفة في كل شيء، التي لا تحاكي الواقع ولا تعبر عن شيء، ورغم ذلك تحصل علی عدد مناسب من المشاهدات يجعلها تستمر، بل تزيد في كل عام عن الذي يسبقه دون أي خسارة أو ضرر.
لله يا محسنين
في هذا الشهر بالأخص تجد التلفاز قد تحول وقت مشاهدتك لبرنامج أو مسلسل من وسيلة ترفيهية إلی وسيلة من وسائل الغم، في كل الفقرات الإعلانية في رمضان تجد من يطلب منك أن تمد يدك بجيبك وتعطيه، الكل يطلب منك أن تدفع لأنه لا يملك وأن مصر بها فقراء أكثر من النصف، وأن بها مرضی أكثر من الأصحاء، وأن كل المستشفيات ممتلئة عن آخرها وهناك كثيرين علی أبوابها منتظرين منك أنت ما تستطيع دفعه فقط لبناء مبنی آخر أو شراء أجهزة علاج لعلاج أمراضهم.
بطريقة مرعبة ومنذ أكثر من 20 عام بدأت تلك الجمعيات الخيرية فرض سطوتها علی كل طرق دفع الزكاة أو الصدقة، وتنشط أكثر في رمضان عن طريق حملات إعلانية اشك في أنها مدفوعة الأجر بملايين الجنيهات، ثم تطور الأمر وأصبحت تنافسها في تلك الأمور المستشفيات القائمة علی التبرعات فقط!
عندي سؤال واحد لا أعرف إجابته، لو أن كل أموال التبرعات التي تُدفع والتي يقال إنها مبالغ ضخمة جدًا، لو أن كل تلك المبالغ تصل لمن يحتاجها، وأن كل تلك المشاريع الصغيرة أو متناهية الصغر والجاموسة العُشر والاكشاك قد نجحت أو تم تنفيذها من الأساس، وأن كل الأموال التي يتم التبرع بها تصل إلی المستشفيات التي تحتاج أجهزة ومباني، لو كل تلك الأموال تصل لمن يحتاجون لها منذ 20 عامًا، لماذا لا نری ولو ثمرة واحدة من ثمار هذا العطاء والتبرع، ألا يسهم كل هذا في تقليص عدد المحتاجين أو حتی ثباته، لا زيادته! لا أعرف كيف نعطي وندفع ومع ذلك يثبت نفس العدد لا يقل!
في الحقيقة أن التلفاز في رمضان يبدو لي كامرأة تجلس علی باب السيدة تحمل ابن أعور برأس مجروح والدم متجلط مكان الجرح وهي تهدهد الطفل وتقول «لله يا محسنين».
المسلسلات
ما أعلمه عن هذا الشهر جيدًا أنه شهر انقطاع وصيام عن الملذات لتهذيب النفس وسموها، ولكن الآن أصبح موسم لبيع المنتجات غير الرائجة طوال العام مثل السلع في المحال التجارية مثلًا والمسلسلات التي لا يشاهدها أحد إلا في رمضان، ولكن من الغريب هو كم إنتاج المسلسلات التي تُعرف بالمسلسلات الرمضانية التي تفزعنا أرقام إنتاجها في كل عام، والذي قد يصل إلی الضعف أو الضعفين عن العام الذي يسبقه، دون أي سؤال عن السبب في غزارة عدد المسلسلات او حتی ارتفاع أجر الممثلين رغم أن الجميع يشهد أن الأمور ليست علی ما يرام في النواحي الإبداعية في مصر.
العزائم
المائدة المصرية دومًا لا تعرف صنفً ناقصًا، يجب أن تكون طاولة الطعام ولمدة 30 يومًا ممتلئة بأشهی الأصناف والأنواع، ولكن للأسف تجد الجميع يفيض من مائدته من ثلث إلی نصف كميات الطعام نظرًا للافراط الدائم في تقدير الأمور، وتجد نفس أولئك الناس – أصحاب «العزومات» والموائد – تجدهم يشكون ضيق حالهم دائمًا، وتجد البعض منهم قد يضطر لاقتراض مال يكفي لإعداد 10 موائد لإعداد طاولة واحدة ليُلقي بنصفها في ثلاجة الطعام حتی تعطب ثم يرميها، ليتحول الشهر – وعلی مدار سنين عدة وببطء شديد- من شهر روحانيات إلی شهر إلقاء النعم وعدم العرفان بها وضيق المال وضيق النفس بسبب الإفراط في الأكل حد التخمة.
برامج اللهو الرخيص
بمجرد بداية كتاباتي لتلك الفكرة أصيبت بالغثيان، تلك البرامج من أكثر الأشياء التي تسبب لي تقلصات المعدة وآلام قولوني العصبي، هذا هراء،لك أن تتخيل أنه من المفترض أن تضحك علی تلك الإفيهات السخيفة وتلك الأمور المبالغ فيها من التكلف والأكلشيهات المحفوظة والمقولبة والمعدّة لتقديمها بشكل سمج لا يسعني إلا الهرب منه في كل مرة أجده امامي أمام التلفاز.
تلك البرامج التي أصبحت كأكل البلح وشرب التمر علی مائدة الإفطار، كقربان يجب أن يقدمه الناس علی الموائد وهو أن يشاهدوا هذا النجم المزعوم يستضيف تلك النجمة المعروفة وهو متنكر بالطبع في غطاء وجه كلّفه رقمًا قد يكون أمامه خمسة أو ستة أصفار، وبالطبع تبدأ الحلقات برتابة، ثم تتصاعد الأحداث وتصل للذروة، ثم يخرج الفنان من قناعه ويحاول أن يربت علی أكتاف النجم الثائر أو النجمة المنهارة، وتبدأ وصلة متقطعة – يتخللها ضحك متكلف – من سرد أحداث الحلقة، وفي النهاية يتعانق النجوم معًا ثم طاقم العمل وكل المشاهدين أمام التلفاز منهارين من الضحك، تلك فقرة هزلية تمت كتابتها بنفس طريقة تلك البرامج.
والحقيقة أن كل تلك المشاهد والومضات قد تكون في رأيي أنا فقط مبالغ فيها او نتفق عليها جميعًا، ولكن إذا كان رمضان لم يعد كما كان فنحن من تخلينا عن المظاهر القديمة مثل تعليق الزينة أمام المنازل والفانوس الخشبي الكبير في منتصف الشارع، دعك من أنه يتفسخ بسبب الهواء في الليل وأنه لا يصمد حتی منتصف رمضان ولكنه يبقی أثر يجب الحفاظ عليه، لقد تخلينا عن الروحانيات الرمضانية فيما يخص الصلاة جماعة او قراءة القرآن في أغلب أوقات اليوم، دعك من صرع الناس وجنونهم علی كل المحلات التجارية لجلب أي شيء وتخزينه للاستفادة منه طوال الشهر مما يؤدي لارتفاع قيمة أغلب الأشياء نظرًا لارتفاع الطلب عليها وهذا ما يؤدي لضيق يد الكثيرين ويجعلهم يقترضون المال لكي يقيموا ولائم الطعام لأقاربهم، ثم يلقون بنصف الطعام في سلة القمامة كما ذكرت سابقًا.
من يشكون من غياب أجواء رمضان هم من يرفضون دفع رقم رمزي مقابل تزيين الشوارع، هم من يشاهدون المسلسلات كلها دون أن يفوتهم شيء مما يؤدي لارتفاع قيمة الممثلين وقيمة إنتاج المسلسل بنفس نظرية العرض والطلب، وهم أيضًا من يشاهدون تلك البرامج السخيفة التي تسمی ترفيهية ويجعلوها الأكثر مشاهدة، ثم يسبّون القائمين عليها ويسبون ضيوفها، بل يصل بهم الانفصام العجيب في الشخصية لسب من يشاهدون البرامج نفسها!
وأنا في الحقيقة لا أخفي عليكم شيئًا كما اعتدت، أتوقع بعد 20 عامًا – إذا بقيت حيًا وأنا أشك في هذا لأني أظن بأنه سيكون في مقدرتي تحمل الحياة مع تلك البرامج والأكلشيهات لـ20 عامًا أخری – أتوقع أن بعد 20 عامً ستختفي تلك الأجواء نهائيًا، لا أعلم هل ستعود الروحانيات بطريقة عامة أم ستندثر حد الاختفاء وتستمر تلك السخافات علی السطح ويظل ذلك النجم الساطع – حسب قولهم – يستضيف نجوم – حسب قولهم – ليعذبهم ويسلخهم ويجلدهم وهم يصرخون في توسل ثم يظهر هو ويعلن عن شخصيته، لا أعلم هل سيستمر الناس يشتكون من ضيق حالهم، ورغم ذلك يدفعون المبالغ الهائلة في الموائد العائلية ورمي نصفها، أم أن الوعي، أو علی أقل تقدير مجرد التدبر والاهتمام بنعمة الله عليهم، سيدفعهم باحترام النعمة وتدبر مقاديرها دون سفه، هل بعد 20 عامًا سنجد أحد الإعلانات تزعم أن مصر تريد التبرع لأنها تحت خط الفقر وأنها تريد جاموسة عُشر أو كشك لبيع السلع أو مشروع صغير لتستمر حياتها أم وقتها ستكون كل المبالغ قد وصلت لمن يستحقوها ولن نجد نصف المصريين تحت خط الفقر كما يزعم نجوم المسلسلات الرمضانية المتكلفة في إعلانات التبرع بما تستطيع دفعه.