في كتاب أحمد نوري النعيمي «عملية صنع القرار في السياسة الخارجية»، أشار إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد مارست عبر تاريخها نوعًا فريدًا من الهيمنة في تاريخ القوى العظمى؛ إذ عرفت أمريكا بكونها القوة العظمى الأولى «غير الاستعمارية»، كلمات قليلة لكنها صورت أغلب رؤيتنا العربية، بل والرؤية العالمية للولايات المتحدة باعتبارها قوة عظمى مسالمة، طوال تاريخها لم تستعمر يومًا بلدًا أو تحتلها، بل مارست هيمنتها من أجل الارتقاء بالإنسانية.
عن هذا يقول المؤرخ الأمريكي دانيال إميرفاهر، في كتابه الجديد «كيف تخفي إمبراطورية: تاريخ الولايات المتحدة العظمى»، إن هناك جزءًا من التاريخ الأمريكي يعود لما قبل الحرب العالمية الثانية قد تم إخفاؤه، بل إن ذكر كلمة «مستعمرة» كان من المحرمات؛ إذ ورد في خطابات أحد المسؤولين الأمريكيين عام 1914، ما يلي: «لا يجب استخدام كلمة مستعمرة للتعبير عن العلاقة القائمة بين حكومتنا والشعوب التابعة لها، ومن الأفضل استخدام مصطلح ألطف، مثل أراضٍ أو مناطق تابعة».
كان الفرق بين الكلمتين عظيم؛ إذ كان للولايات المتحدة أراضٍ تابعة من قبل، مثل أركنساس ومونتانا، يحكي عنهما إميرفاهر، قبل أن تصبحا ولايتين تابعتين للولايات المتحدة الأمريكية، قائلًا أنهما كانتا أراضي تابعة للولايات المتحدة، وعلى الرغم من أنهما قد حرمتا من الحقوق التي تتمتع بها الولايات حينذاك، إلا أنه وبمجرد إجراء «تسوية»، جرى الترحيب بهما في حظيرة الولايات، وكانت التسوية هي «سكان العرق الأبيض»؛ إذ وبمجرد أن تصبح تلك الأراضي والمناطق التابعة مأهولة بسكانٍ من ذوي البشرة البيضاء، أو بمعنى أدق العرق الذي فرض سيطرته على الولايات المتحدة، يتم إعلان تلك المستعمرات ولايات جديدة، تنضم إلى داخل الولايات المتحدة. فما هي الأراضي أو «المستعمرات» التي كانت ولا زال بعضها تابعة للولايات المتحدة الأمريكية ولم نعرف عنها شيئًا؟
بداية الإمبراطورية الأمريكية
يسرد إميرفاهر في كتابه تاريخ أسود للولايات المتحدة الأمريكية، يبدأ بجملة خالدة، وهي: «تأثير قوة البحر على التاريخ»؛ إذ كانت الأراضي قد أغلقت في وجه الولايات المتحدة، في عصر صعود الإمبراطوريات، فإن البحار ما زالت مفتوحة. كان الفكر القائم في تلك الفترة من القرن التاسع عشر يتمحور حول قوة التجارة، وأن ثروة الأمم تأتي من التجارة البحرية؛ إلا أن السفن كانت بحاجة للوصول إلى الأراضي البعيدة، وبالتالي فإنها بحاجة إلى مواني ومحطات فحم ومستودعات على طول الطريق، كما كانوا بحاجة إلى حماية بحرية، وهو ما يترتب عليه المزيد من القواعد العسكرية الخارجية، وفي عصر الحرب، قد تغلق البحار أمام الولايات المتحدة، وتصبح سفنها شريدة كالطيور البرية، غير قادرة على الطيران بعيدًا عن شواطئها.
كانت الدول في ذلك الوقت تعيش عصر الثورة الصناعية، وتطارد المنتجات الغامضة حول العالم، والتي تمكنهم من اللحاق بركبِ الصناعة، مثل المطاط من جنوب شرق آسيا، وزيوت التشحيم الصناعية من غرب أفريقيا، والنحاس من أمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى منتجات الهند.
لم يكن ضم الأراضي للإمبراطورية الأمريكية الناشئة حينذاك، فقط من أجل تأمين الزراعة، ولكن من أجل تأمين الحدود والطرق البحرية والموارد الحيوية، وبالتالي كان على الولايات المتحدة السيطرة على المناطق المحيطة بها، وتكوين مستعمرات كاملة. *إميرفاهر
آمن ثيودور روزفلت، الرئيس السادس والعشرين للولايات المتحدة الأمريكية بتلك النظرية الاستعمارية، منذ أن كان شابًا ذا مستقبل واعد، وبدأ في توجيه دفة الولايات المتحدة، من دولة محدودة إلى إمبراطورية، حتى وإن كان عليها أن تقتنص أجزاء من الإمبراطوريات القائمة أو كان عليها إعلان الحرب. يقول إميرفاهر: «لم يكن من الصعب تخمين من أين ستبدأ الولايات المتحدة في عالم الإمبراطوريات الصاعدة، في وقتٍ عانت فيه الإمبراطورية الإسبانية الشاسعة والتي امتدت حدودها من كاليفورنيا وحتى بوينس آيرس»، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية الاتجاه ناحية نصف الكرة الغربي، كوبا وبورتوريكو والفلبين؛ إذ انزلقت قبضة إسبانيا عنها بشكلٍ واضح، وقد شهدت تلك الولايات الإسبانية مجموعة من التمردات، انتهت بحربٍ غير إنسانية في كوبا، مجاعة ومرض، ومن ثم إبادة جماعية
صورت الصحف الأمريكية كوبا وكأنها فتاة في محنة، على حدِ وصف الكاتب، وعلى الولايات المتحدة التدخل لإنقاذها، كان روزفلت حينذاك يشغل منصبًا رفيعًا في البحرية الأمريكية، وقد تطوع شخصيًا لغزو كوبا، إلا أنه قد رسم مخططًا شاملًا للهجوم على الإمبراطورية الإسبانية كلها؛ إذ عمل على تكديس سفنه في مواني هونج كونج، وفي حالة بدء الحرب، أمر بالتوجه نحو الفلبين، والاستيلاء عليها. استسلم الرئيس الأمريكي حينذاك ويليام ماكينلي، لرغبة روزفلت والشعب الأمريكي الذي تم شحنه بمآسي شعوب الإمبراطورية الإسبانية، وأعلن الحرب، إلا أن مُعادي الإمبريالية في الكونجرس الأمريكي، قد صوتوا بالحرب ضد الإمبراطورية الإسبانية، مع عدم السماح بضم كوبا للولايات المتحدة الأمريكية. يقول إميرفاهر أن هذا التصويت قد غلَّ يد روزفلت عن كوبا، إلا أنه لم يذكر شيئًا عن الفلبين.
استمرت الحملة الأرضية 17 يومًا، هزمت خلالها السفن الأمريكية الأسطول الإسباني، واستسلم الإسبان في مدينتي سانتياغو دي كوبا وبورتوريكو، وفي أقل من أربعة أشهر هُزمت إسبانيا بالكامل. معارك كتبت تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية من جديد، كما كتبت بداية الانهيار للإمبراطورية الإسبانية. الأمر المثير للجدل أن الحرب الأمريكية الإسبانية، كانت مجرد النزاع الأخير لإسبانيا التي عانت من حروب وتمردات ولاياتها في كوبا والفلبين وبورتوريكو حتى أهلكتها، إلا أن إسبانيا عندما استسلمت، لم تستسلم لقوات المتمردين في كوبا والفلبين وبورتوريكو لإعلان استقلالهم، بل استسلمت للقوات الأمريكية، وهو الأمر الذي استبدل احتلالًا باحتلالٍ آخر، وبعد دقيقة واحدة من سقوط العلم الإسباني، صعد العلم الأمريكي بساريةٍ ضخمة.
وفي باريس، بدأت المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا، وتم توقيع معاهدة سلام، كان من بين أجزائها بيع الفلبين للولايات المتحدة مقابل 20 مليون دولار، أما بورتوريكو وجزيرة غوام، فقد تم تسليمهما مجانًا. وبسبب التصويت ضد الإمبريالية داخل مجلس الشيوخ الأمريكي، لم تستطع الولايات المتحدة ضم كوبا، إلا أنها قد قامت بوضع البلاد تحت السيطرة العسكرية الأمريكية، حتى تنصيب حكومة مناسبة.
أمريكا العظمى .. مستعمرات أمريكية نالت استقلالها
في السطور التالية بعض هذه الأقاليم التي خضعت للسيادة الأمريكية وتمكنت فيما بعد من نيل استقلالها، بعد عقودٍ من الاستعمار.
الفلبين.. 1899 وحتى 1946
كانت رسائل المجلس العسكري الأمريكي تتجه ناحية مساندة الفلبين من أجل الإنسانية ورثاء المضطهدين، وبمجرد انتهاء الحرب، تنال الفلبين استقلالها. وفي إطار ذلك أعاد القادة والدبلوماسيون الأمريكيون الزعيم الثوري الفلبيني إميليو أغينالدو إلى البلاد، لكنهم سعوا لاستخدامه حتى انتهاء الحرب، ومن ثم رفضوا الإعتراف بالجمهورية الفلبينية المستقلة التي أعلنها أغينالدو عامي 1898، 1899.
اندلعت الحرب الفلبينية الأمريكية، وفرض الجيش الأمريكي على مدى ثلاث سنوات حربًا عدوانية ودموية. يقول إميرفاهر عن الحرب إنها كانت أشبه بحربِ العصابات، عرف خلالها الفلبينيون الأرض، إلا أن القوات الأمريكية كان لديها أسلحة أفضل، ويضيف: «كانت قوات أغينالدو تفتقر إلى الذخيرة والأسلحة الجيدة، حتى أن فريقًا منهم كانوا مسلحين بالرماح، كما كان هناك كتائب من أطفالٍ لإلقاء الحجارة على العدو»، وقد سقط خلال الحرب آلاف الفلبينيين من الضحايا، في مقابل سقوط 238 ضحية أمريكية.
صبحت الفلبين هي أول مستعمرة للولايات المتحدة الأمريكية العظمى، وبحلول عام 1901، وضعت الفلبين داخل الخرائط أرضًا أمريكية، وتم إنشاء حكومة مدعومة من الولايات المتحدة في مانيلا العاصمة، وقد جرى تنفيذ الحكم الاستعماري في الفلبين بواسطة بيروقراطية استبدادية، وبناء الدولة ذات الحزب الواحد، كما كان يتم الترويج للحكم الذاتي من حينٍ لآخر، وذلك وفقًا لجدول زمني غير محدد، وإبان ذلك تبنت الدولة الاستعمارية قانونًا يحظر العبارات المؤيدة للاستقلال، وآخر يجرم المقاومة المستمرة من المتمردين. وقد استخدمت الولايات المتحدة نهجًا جديدًا في الفلبين للسيطرة عليها، وهو «إعادة التوطين»، والذي يسمح بالنقل الجماعي لسكان الريف إلى العاصمة.
كان هناك تاريخ آخر قد حدد العلاقة النهائية بين الفلبين والولايات المتحدة الأمريكية، وهو 7 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1941، وهي معركة «بيرل هاربر»، تلك التي نفذتها البحرية الخاصة بالإمبراطورية اليابانية على الأسطول الأمريكي وقواعده في المحيط الهادئ. غالبًا ما يتم إسقاط جزء من تاريخ هذه المعركة، بحسب إميرفاهر؛ إذ جرى تلخيص الهجوم على قاعدة «بيرل هاربر» وحدها المتمركزة في هاواي؛ إلا أن الهجوم الياباني قد شمل أراضي أمريكية أخرى وهي الفلبين. يقول إميرفاهر: «الهجوم على بيرل هاربر كان مجرد هجمة واحدة من القاذفات اليابانية، ضربت وتراجعت ولم تعد أبدًا إلى هاواي، أما الفلبين، فقد أعقب الغارات الجوية مزيد من الغارات، ومن ثم حرب كاملة، غزو وفتح واستيلاء على البلاد».
ويضيف إميرفاهر أن روزفلت حينها أراد في خطابه للشعب الأمريكي أن يشعرهم بأن الهجوم قريب من الولايات المتحدة وحدودها، وبالتالي يشكل تهديدًا مباشرًا لهم، ولهذا أزاح روزفلت الفلبين من خطابه على الرغم من أن الحرب الحقيقية الدائرة كانت هناك، وذلك لأن الشعب الأمريكي لن يهمه هجوم اليابان على الفلبين، البعيدة عن الحدود الأمريكية، حتى وإن كانت أرضًا مملوكة للولايات المتحدة.
منطقة قناة بنما.. 1904 وحتى 1979
كان موقع «بنما» الاستراتيجي يعد كنزًا للإمبراطورية الإسبانية، وظل حُلم بناء قناة تصل بين المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي والبحر الكاريبي عبر برزخ بنما يراود ملوك البلاط الملكي في إسبانيا، إلا أنه كان أمرًا مستحيلًا، نظرًا لتكنولوجيا هذا الوقت. ومع الأحلام التوسعية للرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت، نجحت الحكومة الأمريكية في دعم متمردي بنما، حتى نالوا استقلالهم عن الإمبراطورية الإسبانية، وفي المقابل أصبح من حق الولايات المتحدة الأمريكية بناء القناة، ليتحقق الحلم الذي راود الإسبان لقرون، وقد دفعت بنما ثمنًا باهظًا لذلك؛ إذ تخلت عن خمسة أميال من الأراضي على طول القناة البالغ 48 ميلًا، وقد مارست الولايات المتحدة سيادتها على تلك المنطقة التي عرفت باسم «قناة بنما».
افتتحت منطقة القناة رسميًا في 4 مايو (أيار) 1904، وهنا بدأت أعمال البناء، ليس للقناة ذاتها، ولكن أيضًا منازل ومستشفيات ومكاتب ومناطق ترفيهية لآلاف السكان الأمريكيين الجدد، الذين جاءوا لإدارة شؤون القناة بأنفسهم، وقد جرى فصل هذا الجزء من البرزخ فصلًا تامًا عن البلد المضيف، وقد تمت معاملة السكان الأمريكيين بمستوى فاق معاملة مواطني البلد ذاتها، وقد كانت اللوائح التي يتم بها تنظيم العمل في القناة تكرس الفصل العنصري؛ إذ تم تقسيم السكان إلى فئتين، فئة «العرق الأبيض»، ولها كل الامتيازات، وفئة العمال الذين كانوا مهاجرين سود من جزر الهند الغربية، وتحملوا كل مخاطر بناء القناة الجديدة، وقد قُسمت الرواتب ومستوى المعيشة والعلاج نتيجة لهذا الفصل العنصري، وتوفى آلاف العمال الفقراء، نتيجة الحوادث والأمراض وظروف العمل السيئة، حتى وصل عدد ضحايا القناة في فترة البناء حوالي 5609 عامل.
لن أنسى يومًا القطارات التي كانت تنقل القتلى يوميًا، كما لو كانوا مجرد مجموعة من الأخشاب، كان الأمر أشبه بجحيم على الأرض. *عامل هندي شارك في بناء القناة
أنتهى العمل في منطقة القناة، وافتتحت رسميًا في أغسطس (آب) من عام 1914، واستمر العمل بها حتى إغلاقها رسميًا في نهاية القرن العشرين، تحديدًا عام 1979؛ إذ كانت نافذة لمرور السفن الحربية وسفن البضائع، لكن في الوقت ذاته لم تسمح الإدارة الأمريكية لأي من مواطني بنما بالعملِ في القناة، كما لم يستطع أيّ منهم أن يعبر إلى منطقة القناة دون المرور بشرطة أجنبية، وهو الأمر الذي قاد المواطنين إلى مجموعة من التمردات أرادوا خلالها رفع علم بنما على المنطقة، وكانت نتيجته بناء جدار عازل، شبهه أحد السياسيين الكولومبيين، بجدار برلين آخر، يعزز الفصل العنصري. وبعد فترة من التمردات خاضها سكان بنما ضد الاستعمار الأمريكي، قبل السياسيون الأمريكيون التخلي عن السيطرة على منطقة القناة.
أقاليم خاضعة للاستعمار الأمريكي حتى يومنا هذا
يقول إميرفاهر إن سيطرة الولايات المتحدة على العديد من المستعمرات الإسبانية المأهولة بالسكان، ومنها الفلبين وبورتوريكو وغوام وهاواي، قد وضع القانون الأمريكي في مأزق؛ إذ كان لزامًا على المحكمة العليا أن تجد مكانًا لهذه المناطق داخل نسيج الأمة، لكن هل يعني ذلك أن يشملهم الدستور الأمريكي، وهل يحق للفلبينيين مثلًا التصويت لصالح الرئيس الأمريكي؟
توصلت المحكمة العليا إلى أن هذه المناطق مملوكة للولايات المتحدة، وتشملها الخرائط داخل حدودها، إلا أن الدستور الأمريكي لا يمتد بالكامل لها. واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية، من تنظيم عدة قوانين، تكفل لها الاحتفاظ ببعض المستعمرات حتى يومنا هذا، دون أن تظهر بمظهرِ المستعمر، وذلك عن طريق منح بعض الأقاليم حكمًا ذاتيًا، إلا أنها في الوقتِ ذاته تخضع للسيادة الأمريكية، ومواردها تظل تحت التصرف الأمريكي.
بورتوريكو.. 1899 وحتى الوقت الحاضر
يصف إميرفاهر في كتابه أن الوضع في بورتوريكو كان مختلفًا تمامًا عما حدث في الفلبين؛ ويقول عن ذلك: «عندما هبطت القوات الأمريكية في بورتوريكو، تجمعت الحشود في فرح، وقدموا للجنود الأمريكيين السيجار والفواكه والزهور، وكان السكان المحليون يشيرون إلى أنفسهم على أنهم بورتوريكو-أمريكان، وأعاد المسؤولون المحليون تسمية الشوارع تيمنًا بواشنطن ولينكولن».
اعتقد الكثير من البورتوريكيين أنهم يحققون مكاسب هائلة عن طريق استبدال الولايات المتحدة الأمريكية بإسبانيا، بحسب إميرفاهر؛ إذ كانت جزيرتهم أكثر اعتمادًا على التجارة، واعتقدوا أن القاعدة الأمريكية تمكنهم من الوصول إلى أسواق أفضل، كما توقعوا أن تمنحهم الولايات المتحدة «حكمًا ذاتيًا».
«فهم البورتوريكيون الولايات المتحدة على أنها اتحاد كبير، مجموعة من الجمهوريات، وكانوا يأملون في الانضمام إليها على قدم المساواة، كما فعلت المناطق الغربية التي أصبحت فيما بعد ولايات»
ظلت بورتوريكو تحت السيطرة المباشرة للقوات العسكرية الأمريكية، وذلك حتى عام 1900، عندما صادق الكونجرس الأمريكي على إقامة حكومة مدنية في بورتوريكو، وقانون آخر يسمح بالتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وقد ظل الوضع هكذا حتى عام 1917؛ عندما أقر مجلس الشيوخ الأمريكي قانون «جونز شافروث»، والذي منح الجنسية الأمريكية لجميع المواطنين البورتوريكيين، مما جعل الرجال البورتوريكيين مؤهلين لأداء الخدمة العسكرية، وقد استخدم هذا القانون في تجنيد حوالي 18 ألف من سكان الإقليم للمشاركة في الحرب العالمية الأولى.
بحلول الحرب العالمية الثانية، اجتاحت التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بورتوريكو؛ إذ استفادت الولايات المتحدة الأمريكية من ثلثي مساحة إقليم الجزر في عمل قاعدة عسكرية للقوات البحرية الأمريكية، وقد استمر عمل القاعدة العسكرية حتى عام 2003، وذلك بعدما تم استغلالها ما يزيد عن 60 عامًا في التدريبات العسكرية.
بنهاية الحرب العالمية الثانية، تحديدًا عام 1948، مرر الكونجرس الأمريكي قانونًا يتيح للبورتوريكيين اختيار حاكمهم، وممارسة الحكم الذاتي، ووضع دستور خاص بهم، وذلك لإزاحة الحكم المحلي للإقليم عن كاهل الحكومة الأمريكية، إلا أنه في الوقت ذاته أصبح «كومنولث» أمريكيًا، أو ثروة مشتركة تعني أنه إقليم مملوك للحكومة الأمريكية يمارس الحكم الذاتي، وهو الوضع الذي استمر حتى يومنا هذا؛ إذ وفي يونيو (حزيران) من عام 2017، صوت حوالي 97% من الناخبين في بورتوريكو من أجل أن تصبح جزيرتهم ولاية أمريكية.
جزر فيرجين الأمريكية.. 1917 وحتى الوقت الحاضر
تعتبر جزر فيرجين الأمريكية من المستعمرات الباقية حتى يومنا هذا؛ إذ قامت الولايات المتحدة الأمريكية بشراء الجزر رسميًا من الدانمارك عام 1917، عندما كانت تعرف باسم «جزر الهند الغربية الدانماركية»، وقد كان ذلك لموقعها الاستراتيجي المثالي لتكوين قاعدة عسكرية بحرية تساعد في تأمين منطقة قناة بنما، وسيادة الولايات المتحدة عليها.
كان شراء الجزر مجرد عمل صغير في طريق الإمبريالية الأمريكية الأوسع نطاقًا، وطريقة للهيمنة على نصف الكرة الأرضية الغربي؛ إذ اتخذت الولايات المتحدة من شراء الجزر ضمانًا و«مسمار جحا» للإعلان التاريخي عام 1823، بأن أي استعمار أو تدخل في شؤون نصف الكرة الغربي من قبل القوى الدولية الأوروبية، يتم اعتباره تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة الوطنية، وذلك لتبرير تدخلها السياسي والاقتصادي والعسكري المتكرر في بلدان نصف الكرة الغربي.
اتبعت واشنطن خلال ذلك الوقت سياسة إمبريالية غير رسمية في منطقة البحر الكاريبي وما حولها، وعلى الرغم من أن النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد تخلي الولايات المتحدة عن بعض مستعمراتها؛ إذ استقلت عنها الفلبين عام 1946، وجرى إعلان كل من ألاسكا وهاواي ولايات أمريكية، إلا أن الوضع في إقليم جزر فيرجين الأمريكية كان أشبه بالوضع في إقليم بورتوريكو؛ إذ بقيت هذه الجزر حتى يومنا هذا تحت السيادة الأمريكية، ويحمل سكان جزر فيرجين الجنسية الأمريكية، إلا أنهم لا يستطيعون التصويت في الانتخابات الرئاسية، ومواطنوها هم سكان من الدرجة الثانية لا يملكون نفس الحقوق لسكان الولايات المتحدة.
وفي عام 2016، وصفت الأمم المتحدة وضع إقليم جزر فيرجين بـ«المهين»، وقد صنفت الإقليم ضمن الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي في العالم، كما أوصت لجنتها بضرورة إنهاء الاستعمار، ومساعدة شعب فيرجين لاختيار حق تقرير مصيره بحرية.
جزيرة غوام.. 1899 وحتى الوقت الحاضر
تعد جزيرة غوام، والتي تقع في غرب المحيط الهادئ، مُستعمرة أمريكية، تنازلت عنها الإمبراطورية الإسبانية خلال الحرب الإسبانية الأمريكية، إلا أنها مازالت مملوكة للولايات المتحدة حتى الوقت الحاضر. عن ذلك يقول الكثير من مواطني غوام، أن الحكومة الأمريكية تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، فلا يمكنهم التصويت في الانتخابات الرئاسية، كما أن الممثل الوحيد لكل إقليم في الكونجرس الأمريكي لا يحق له التصويت، ويشير تقرير «الجزيرة» عن غوام إلى أن شعب الشامورو، وهم المواطنون الأصليون لجزيرة غوام، قد تم تجريدهم من تقاليدهم وعاداتهم على مدار مئات السنوات التي احتلت فيها الجزيرة، سواء عندما كانت ولاية تابعة للإمبراطورية الإسبانية، أو أثناء الاحتلال الياباني، أو خلال خضوعها لسيطرة الولايات المتحدة منذ عام 1899 وحتى الآن.
يقول عن ذلك هاتوري، وهو أحد سكان الجزيرة، أنه نظرًا لقرار المحكمة العليا الأمريكية عام 1901، فإن الأشخاص الذين يعيشون في المستعمرات الأمريكية، لا يتمتعون بأيٍ من الحقوق الدستورية الكاملة، حتى لو كانوا مواطنين أمريكيين. يشير التقرير إلى معاناة شعب الشامورو إبان السيطرة اليابانية على الجزيرة في الحرب العالمية الثانية، وكيف اغتصبت النساء من قبل الجنود اليابانيين على مدار الثلاثة سنوات التي سيطروا خلالها على الجزيرة، وبعودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الجزيرة في نهاية الحرب العالمية الثانية، شعر السكان بالارتياح، مما نتج عنه جيل كامل يشعرون بالوطنية تجاه الولايات المتحدة. لكن وفقًا لشعب الشامورو، فقد عانوا أيضًا تحت السيطرة الأمريكية على البلاد؛ إذ قررت الولايات المتحدة بناء قاعدة عسكرية جوية «قاعدة أندرسون» على الجزيرة، واستولى الجيش الأمريكي على أراضي السكان الأصليين لبناء القاعدة، وكان يتم تهديدهم من قبل الجيش الأمريكي إن أرادوا الدخول لأراضيهم.
أما عن أبناء الجزيرة فقد تم تجنيدهم في الجيش الأمريكي، حتى أن بعضهم قد خدموا في حرب العراق، وفي برنامج «Untold America»، أُجريت لقاءات مع مواطني غوام، يقول بعضهم إن المواطنين الأمريكيين لا يعرفون حتى ما هي غوام، ويشيرون إلى أنهم لا يعرّفون أنفسهم على أنهم مواطنين أمريكيين، بل هم أهل غوام، المنطقة المملوكة للولايات المتحدة حتى اليوم، حتى وإن كانوا يتحدثون اللغة الإنجليزية وتعد لغتهم الأولى، ويعيشون نمط حياة يعتمد على الثقافة الأمريكية. يقول البعض إن الخطاب الإعلامي الذي تتبعه الإدارة الأمريكية في الجزيرة يعتمد على الخوف، «إن تركت الولايات المتحدة الجزيرة، سيجوع أهل غوام».
ساموا الأمريكية.. 1900 وحتى الوقت الحاضر
ساموا، هي مجموعة من الجزر، تقع جنوب المحيط الهادئ، وفي عام 1899، ووفقًا لمعاهدة برلين بين الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والمملكة المتحدة، جرى تقسيم ساموا، وقد اتخذت الولايات المتحدة لنفسها مجموعة الجزر الشرقية، وأطلقت عليها ساموا الأمريكية؛ إلا أن الجزر قد أصبحت أرضًا أمريكية بموجب عقد تنازل؛ إذ ابتداءً من عام 1900، بدأ تنازل الزعماء المحليين عن الجزر لصالح الولايات المتحدة، وذلك لإضفاء مزيد من الشرعية لامتلاكها الإقليم، ولذلك جرى التنازل عن جزيرة توتويلا، وهي أكبر جزيرة في إقليم ساموا أولًا، ومن ثم تبعتها جزيرة مانوا عام 1904، وقد انضمت جزيرة سوين إلى الإقليم عام 1925، بقرارٍ من الكونجرس الأمريكي، وكانت السلطة في إقليم ساموا الأمريكي خاضعة للقوات البحرية الأمريكية حتى عام 1951، وقد نقلت السلطة إلى وزارة الداخلية عام 1956.
يعتبر إقليم ساموا من الأقاليم غير المدمجة للولايات المتحدة، أي إقليم لا يتمتع بالحكم الذاتي، ولا يحق منح مواطنيه الجنسية الأمريكية بالولادة، إلا إذا كان أحد الوالدين حاملًا الجنسية الأمريكية، وما زال خاضعًا للسيادة الأمريكية حتى الآن.