هل نحن وحوش بالفطرة؟ قصة حياة الطاغية شاوشيسكو وأخرين مثالًا

أنتم ترون الديكتاتوريين في أوج عظمتهم، محاطين بحراب الحرس، وهراوات الشرطة، إلا أن قلوبهم تحمل خوفًا لا يعلنونه، هم يخافون الكلمات والأفكار.

ربما تمنحنا الكلمات السابقة، والتي جاءت على لسان ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، في كتابه «دماء وعرق ودموع»، لمحة من حياة الديكتاتور. إذ ربما يكمن فيها التفسير المنطقي للجوء معظم من وسمهم التاريخ بالديكتاتورية إلى العنف، وارتكاب جرائم حرب. إلا أن التساؤل الذي يشغل بال الكثيرين ممن بحثوا في علم النفس عن أصل العنف ومنشأه: هل العنف والديكتاتورية طابع بشري ينتظر اللحظة المناسبة للظهور؟ أم هو صفة مكتسبة تصنعها الظروف؟

قصة حياة نيكولا شاوشيسكو ربما تمنحنا بعضًا من الإجابة.

نيكولا شاوشيسكو.. ديكتاتور كما يقول الكتاب

إن لم تكن قد سمعت عنه ذات يوم، فربما ستلمح اسمه في قائمة الديكتاتوريين الذين حكموا شعوبهم بالحديد والنار، وكانت نهايتهم على أيدي الشعوب التي استعبدوها وأنهكوا قواها، إذ يمكن الاطلاع على سيرة شاوشيسكو بسهولة عبر الإنترنت، لكن الملمح الأكثر أهمية منها هو الإجابة عن السؤال الذي طُرح سابقًا: هل العنف مكتسب أم متأصل بداخل النفس البشرية؟ هناك مشاهد في حياة ديكتاتور رومانيا تصلح لأن تكون نقطة انطلاق لمحاولة الوصول إلى الحقيقة.

المشهد الأول: من رحم الفقر تولد الديكتاتورية

شاوشيسكو في صغره

في عام 1918، وبالتحديد في 26 يناير (كانون الثاني)، شهدت إحدى القرى الريفية في شمال رومانيا مولد نيكولا شاوشيسكو، لينضم الطفل لأسرة مكونة من تسعة أطفال مع والدَيهم، في منزل صغير من ثلاث حجرات بلا كهرباء، والذي لا يزال مفتوحًا للعامة حتى الآن، باعتباره شاهدًا على مدى تواضع نشأة الديكتاتور.

كان أبوه مزارعًا بسيطًا، يمتلك قطعة أرض زراعية صغيرة، وبعضًا من رؤوس الماشية، ويعمل خياطًا في أوقات فراغه، محاولة منه لسد احتياجات أسرته الكبيرة، فلم ينل شاوشيسكو الابن حظًّا من التعليم باستثناء التعليم الابتدائي في مدرسة القرية الوحيدة حتى سن الحادية عشرة، عندها هرب إلى العاصمة الرومانية بوخارست، فرارًا من سيطرة والده المتزمت ومدمن الكحول، ليعيش في منزل شقيقته هناك، وبالرغم من أن هروبه إلى العاصمة لم يقض على معاناة الصبي الصغير بشكل تام، لكنه شكل نقطة تحول في حياته وفي تاريخ رومانيا بأسرها.

لم تكن حياة العاصمة أخف وطأة على شاوشيسكو الصغير، فاضطر للعمل صبي صانع أحذية يدعى أليكساندرو ساندولسكي، والذي لم يكن سوى عضو نشط بالحزب الشيوعي غير الشرعي حينها. وسرعان ما تورط الفتى في أنشطة الحزب، وانضم إليه في أوائل عام 1932. و باعتباره مراهقًا، لم يكن دوره ذا أهمية، إلا أنه كان بداية لدخوله في عالم السياسة، وإيذانًا بمولد الديكتاتور.

المشهد الثاني: السجن للرجال.. والديكتاتوريين أيضًا

مع انضمام شاوشيسكو لحركة شباب رومانيا الشيوعيين، وتنفيذه عمليات في العديد من المدن الرومانية، ألقي القبض عليه عام 1936، وصدر بحقه حكمًا بالسجن مدة عامين، لنشاطاته بالحزب الشيوعي، وستة أشهر إضافية لإهانة القضاء، والإقامة الجبرية لسنتين. ووصفته أوراق القضية «بالمحرض الخطر للشيوعية»، و«موزع لمواد دعائية مروجة للشيوعية ومضادة للفاشية». ومع انتهاء مدة سجنه وإطلاق سراحه، سرعان ما اعتقل مجددًا بتهمة التآمر ضد النظام الاجتماعي. تنقل شاوشيسكو بين عدة سجون هذه المرة، ليستقر في النهاية بمعسكر «تارجو جو»، وهناك ابتسم له القدر، فتشارك زنزانته مع الناشط الشيوعي البارز حينها جورجي جورجيوديج، والذي أعلنه تحت حمايته.

شاوشيسكو في السجن

في حياة كل ديكتاتور يبدو أن هناك سُلمًا يتسلقه كي يصل به إلى المجد، هذا السلم قد يكون شخصًا أو حزبًا أو ظرفًا اسثنائيًّا تمر به البلاد، وبالنسبة لشاوشيسكو الفتى المراهق المتشرب بأحلام الزعامة كان جورجي جورجيوديج هو السُّلّم الذي ارتقاه كي يصل به إلى أعلى درجات السيادة.

لم يتوان جورجيوديج عن دفع الرشى لإدارة المعسكر، مقابل منح السجناء الشيوعيين الحرية الكاملة في إدارة الجزء المخصص لهم من السجن، طالما لم يحاولوا الهرب. استغل الناشط الشيوعي هذه الحرية لعقد اجتماعات «جلد الذات» لزملائه من أعضاء الحزب، إذ كان عليهم الاعتراف بعدم فهمهم قواعد الماركسية أمام الباقين.

لم يكن دور شاوشيسكو معروفًا في هذه الاجتماعات، إلا أن الكاتب الصحافي إيدوارد بيير في كتابه «قبّل اليد التي لا تستطيع عضها، نيكولا شاوشيسكو من الصعود إلى السقوط»، ادّعى أن مهمته كانت التعدي بالضرب على من يرفض هذه الجلسات، أو من لا يبدون حماسًا كافيًا حيالها؛ مما عزز من سيطرة جورجيوديج على الحزب، وجعل من شاوشيسكو رجله الأول، ليبدأ في سنوات سجنه أولى خطواته نحو السلطة، ومن سُلطة شاوشيسكو إلى سلطة من نوع آخر كان البشر فيها هم القائمون بالتحدي، الفائزون بالسيادة والخاسرون بالمبادئ أيضًا.

لإيقاع صفر.. فن من نوع آخر

من بوخارست إلى نابلس في إيطاليا عام 1974، وبالتحديد في معرض «مورا» للأعمال الفنية، حيث وقعت الأحداث الصادمة لتجربة الإيقاع صفر. لم يجل بخاطر الفنانة الصربية مارينا إبراموفيتش المتخصصة في أعمال الفن بالجسد، أن تثير تجربتها الفنية عاصفة من الجدل حولها حتى يومنا هذا.

كانت تفاصيل العمل الفني بسيطة للغاية، أن تقف مارينا في منتصف حجرة خالية سوى من منضدة تحمل 72 أداة، ولوحة صغيرة سجلت عليها تعليماتها للجمهور: «هناك 72 أداة على المنضدة، يمكن استخدامها عليّ حسب الرغبة. مدة العمل ست ساعات، من الثامنة مساء وحتى الثانية صباحًا أتحمل خلالها المسؤولية كاملة»، تراوحت الأدوات على المنضدة من الزهور والريش، إلى شفرات الحلاقة والسكاكين، ومسدس به طلقة واحدة والنتيجة كانت مفاجئة، مفاجئة للغاية.

المشهد الثالث: جورجيو ديج.. السُّلم الذي أخذه شاوشيسكو معه

في عام 1944، كانت رحى الحرب العالمية الثانية دائرة، وفي أغسطس (آب) من العام نفسه، هرب جورجيوديج من السجن، ونصب نفسه رئيسًا للحزب الشيوعي، وعين شاوشيسكو سكرتيرًا للاتحاد الشيوعي للشباب. ومع احتلال الاتحاد السوفيتي، ونجاح الحركة المضادة للفاشية بها، تبدل موقف رومانيا لتشارك دول الحلفاء ضد ألمانيا النازية، وتتشكل حكومة جديدة، يتولى جورجيوديج فيها حقيبة وزارة الاتصالات.

ورغم عدم تأثير منصبه في صناعة الأحداث، إلا أنه لعب دورًا أساسيًّا في إطاحة رئيس الوزراء من منصبه، وشكل حكومة ذات أغلبية شيوعية، صار فيها شاوشيسكو وزيرًا للزراعة، ثم نائبًا لوزير الدفاع برتبة فريق. ولثقة أستاذه به، تدرج في المناصب داخل الحزب، حتى أصبح الرجل الثاني به، ووريث جرورجيوديج، في حين لم يتجاوز عمره السادسة والثلاثين بعد.

ومع وفاة أستاذه وأبيه الروحي عام 1955، تولى شاوشيسكو قيادة الحزب الروماني الشيوعي، وتسلم رئاسة مجلس الدولة عام 1967، ليصبح رسميًّا الرئيس الشرعي للجمهورية الشعبية الرومانية، وليتحقق حلم الفتى المراهق الصغير الذي هرب من أبيه إلى العاصمة ليصبح بعد ذلك رئيس رومانيا بأسرها.

المشهد الرابع: كيف تصبح ديكتاتورًا مثاليًّا؟ اقرأ سيرة شاوشيسكو

من بين كل المشاهد في حياة شاوشيسكو، تقص تفاصيل مشهد سنوات الحكم حكاية نموذجية للديكتاتورية، وتبين الملامح الحقيقية لشخصيته التي صنعها الفقر وسنوات السجن، وصقلتها السلطة. فعلى مدى 22 عامًا ترأس فيها رومانيا، مرت البلاد خلالها بتغيرات عدة، تحمل فيها العامة الكثير من أشكال القهر وغياب العدالة.

لم تظهر بوادر الديكتاتورية على شاوشيسكو فور توليه الرئاسة، فقد كانت سنوات حكمه الأولى جيدة نوعًا ما. تبنى خلالها سياسة الانفتاح تجاه أوروبا الشرقية والولايات المتحدة، وصار التوجه المعلن للحزب الشيوعي هو توفير سبل الراحة للشعب الروماني. على سبيل المثال، أمر بتوجيه ميزانية ضخمة لبناء مدن جديدة، بحيث يتوفر مسكن مستقل للجميع. وتدريجيًّا تم الاستغناء عن المناهج السوفيتية في المدارس.

وبالتالي اتسمت هذه الفترة بتحرر نسبي لرومانيا، إلا أنها لم تستمر طويلًا؛ تغير كل شيء عام 1971 وبالتحديد في شهر يوليو (تموز)، عندما بدأ شاوشيسكو زياراته لبعض الجمهوريات الشيوعية مثل الصين وكوريا الشمالية وفيتنام. وانبهر بشخصيتي رئيسي الصين وكوريا بالتحديد، وفتنته فكرة التحول الشعبي الكامل، وبالتالي ألقى خطابًا فور عودته إلى بلاده، أعلن فيه بداية ثورة هوية في البلاد.

شاوشيسكو مع كيم سونج رئيس كوريا الشمالية (1971) (ويكبيديا)

شاوشيسكو مع كيم سونج رئيس كوريا الشمالية (1971) (ويكبيديا)

شن الرئيس الروماني حملة شرسة ضد الحكم الذاتي وحكومة التكنوقراط، وشهدت هذه الفترة تدهور العلاقات الخارجية مع أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، وأصبحت كل نشاطات الدولة تقع تحت الإشراف المباشر لنشطاء الحزب الحاكم، وانطلقت حملات ضخمة لتغيير ما أسماه «العقيدة الشعبية».

لم يكن التوجه السياسي للدولة هو الضحية الوحيدة للتغيرات الفوضوية التي استحدثها شاوشسكو، فلحق به الاقتصاد. أعلنت رومانيا دولة صناعية، وخصصت استثمارات كبيرة لإنشاء كيانات صناعية ضخمة بما لا يتناسب مع طبيعة الاقتصاد في رومانيا، إذ كانت تستهلك الكثير من الطاقة والمواد الخام. وأنفقت مبالغ كبيرة لإنشاء مبان ضخمة بدون داع مثل قصر الشعب. إلا أن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت بإعلانه التوجه لسداد كافة ديون رومانيا الخارجية، غير آبه بالتأثيرات الاجتماعية للقرار. وكانت النتيجة انحدارًا حادًا في مستوى المعيشة، وإيذانًا ببدء النهاية.

كيف استباحوا جسدك يا ماريا؟

انت الأحداث رتيبة في البداية، أحدهم أدارها حول نفسها، وآخر رفع ذراعيها في الهواء، في حين اكتفى آخرون بلمسات حميمة نوعًا ما.

بهذه الكلمات علّق الناقد توماس ماكيفلي الذي كان شاهد عيان على التجربة، وتابع: «في الساعة الثالثة كانت ملابسها قد تمزقت بشفرات الحلاقة، وفي الساعة الرابعة كانت الشفرات ذاتها قد أحدثت جراحًا بجسدها، ولحقتها بعض الاعتداءات الجنسية الطفيفة. كانت مارينا ملتزمة بالعمل لأقصى حد، لدرجة أنها لم تكن لتقاوم القتل أو الاغتصاب».

ماذا عن مارينا نفسها؟ كانت كل خلية من جسدها تنطق رغم صمتها، حين مُنحت السلطة لشاوشيسكو ظلم وقتل، وحين منحت للبشر لم يتوانوا عن فعل ما فعله أيضًا.

«شعرت وكأنه يجري اغتصابي، مزقوا ملابسي وغرسوا لأشواك في معدتي، أحدهم صوب المسدس إلى رأسي. وفي تمام الثانية صباحًا، توقفت، فقد كان هذا قراري من البداية، ست ساعات بالضبط، وما أن تحركت تجاه الجمهور حتى هرب الجميع». هكذا كان تعليقها.

مارينا أبراموفيتش- مصدر الصورة: YourTango

لاحظت مارينا أن أحدًا لم يجرؤ على مواجهتها، لم يرغب أحد في تحمل مسؤولية ما فعل، وكأنهم أرادوا أن ينسوا استمتاعهم بإيذائها. وتختم ملاحظتها مردفة: «يكشف هذا العمل شيئًا مريعًا بشأن الإنسانية، السرعة التي قد يؤذيك بها أحدهم في الظروف المواتية، وكم من السهل التعامل مع شخص ما وكأنه ليس إنسانًا لمجرد أنه لا يدافع عن نفسه. بمجرد أن تتاح الفرصة للآخرين، فإن غالبية البشر (العاديين) يمكن أن يصبحوا عنيفين للغاية». انتهت ملاحظات مارينا، إلا أن تساؤلًا آخر أثارته تجربتها: ما الذي يدفع مجموعة عادية من الناس على قدر من الثقافة التي تجعلهم يتدافعون على شراء تذاكر معرض فني، إلى إبداء هذه الدرجة من العنف؟ وما مصير البشرية إن كان هذا دأبهم وطبعهم؟

المشهد الخامس: بين مطرقة التقشف وسندان البوليس السري.. صة معاناة شعب

كانت نتائج القرارات السياسية والاقتصادية كارثية على الشعب الروماني، عانى الجميع نقصًا في المواد الغذائية، أصبح الخبز والسكر والزيت يوزعون بكميات محدودة، وتحت إشراف صارم من الحزب الحاكم. وبحلول أكتوبر (تشرين الأول) عام 1971، صدر قانون يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات كل من يبتاع سلعًا أساسية بما يفوق استهلاك شهر واحد.

وفي العام التالي، صدقت الحكومة على خطة وضعها مختصون لتخفيض استهلاك الفرد من 3300 سعر حراري إلى 2700 سعر بدعوى محاربة السمنة. أما الشوكولاتة والتبغ والقهوة فصارت حكرًا على الأثرياء. ولم يسلم الوقود من سياسة التقشف هذه، فاقتصر إمداد البترول على 20 لترًا فقط بالشهر. وفي عام 1988، ساءت الأمور أكثر وأكثر، إذ تبنى الحزب سياسات تقشفية جديدة، فأصبح ممنوعًا تدفئة الأماكن العامة بما يفوق 16 درجة مئوية في الشتاء، باستثناء المدارس والمستشفيات، وصار انقطاع التيار الكهربي روتينًا يوميًّا متكررًا.

القصر الذي بناه شاوشيسكو في ظل تقشف الشعب

أما أكثر أحلام شاوشيسكو جموحًا فكانت زيادة تعداد السكان إلى 20 مليونًا، وبالتالي أعلن الإجهاض جريمة يعاقب عليها القانون عام 1966، فكانت النتيجة وفاة 10 آلاف امرأة حاولن الإجهاض في الخفاء بأماكن غير مجهزة. وهو ما لم يعره الرجل أو حزبه أدنى اهتمام.

وإضافة إلى الظروف القاسية التي عاناها الشعب، بلغ قمع الحريات حدًّا غير مسبوق، فصار مجرد انتقاد الحزب تهمة يعاقب عليها الأمن الوطني أو البوليس السري، والذي كانت كل مهمته مراقبة المواطنين عن كثب، وبخاصة أصحاب العلاقات الخارجية منهم، مغادرة البلاد صارت حلمًا بعيد المنال لأغلب المواطنين، يعاقب كل من يحاول تحقيقه بالسجن والتعذيب. أما أسوأ سلبيات البوليس السري فكانت زرع الشك بين الأهل والأصدقاء، فلا يمكنك أن تثق بأحد، الجميع جواسيس وأعضاء بالبوليس السري، يترقبون زلاتك للإيقاع بك، حتى يثبت العكس.

المشهد الأخير: لكل ظالم نهاية.. ولكل شعب ثورة

دفع القمع وتدهور المعيشة الشعب دفعًا إلى الانفجار. بدأت الاحتجاجات عام 1987، وبلغت أوجها بنهاية عام 1989، لتتحول إلى ثورة شعبية. وبالطبع حاول البوليس السري تفريق المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع ومدافع المياه، إلا أن المحاولات كلها باءت بالفشل، ليلقي شاوشيسكو خطابًا إلى الجماهير الثائرة، بدا فيه منفصلًا عن الواقع، متهمًا إياهم بالتآمر، وأنه تم التلاعب بهم من قوى خارجية، ولما لم يفلح خطابه في تهدئة الثورة، أصدر أوامره لوزير الدفاع فاسيل ميليا، بإطلاق النار على المتظاهرين، وهو ما قابله الأخير بالرفض، ودفع حياته نفسها ثمنًا لعصيان الأمر. فأصدر شاوشيسكو الأمر للقوات بإطلاق النار بنفسه. فسقط ما يقارب 100 قتيل، ما أشعل الأمور أكثر وأكثر.

فيديو أعدام الطاغية نيكولاي شاوشيسكو

اضطر شاوشيسكو للهرب مع زوجته بطائرة هليكوبتر، بمساعدة وزير الدفاع الجديد فيكتور ستانكولسكو. إلا أن الطيار هبط بها قبل الوصول إلى وجهتها النهائية، خوفًا من رصدها وإسقاطها. حاول شاوشيسكو الهرب بسيارة مسروقة، إلا أنه أُوقف واعتقل مع زوجته، وخضعا معًا لمحاكمة عسكرية بتهمة القتل وإصدار الأوامر بقتل المتظاهرين، وصدر في حقهما حكمًا بالإعدام رميًا بالرصاص على الهواء مباشرة. وفي لقاء لصحيفة «التايمز» مع ستانكوليسكي أجاب عن سؤال: «هل ترى محاكمة شاوشيسكو عادلة»، قائلًا: «كلا لم تكن عادلة ولكنها كانت ضرورية».

أعطهم السلطة المطلقة وسيصبحوا ديكتاتوريين على الفور

ربما يبدو الرابط بين مشاهد حياة ديكتاتور مثل شاوشيسكو وتجربة «الإيقاع صفر» مبهمًا لأول وهلة، إلا أن ما يجمع بينهما، والمحرك الرئيس لأفعال الديكتاتور الراحل والمشاركين في التجربة الفنية على السواء، هو السلطة المطلقة، سواء استمرت سنوات طويلة أو ساعات معدودة. فكيف تؤثر السلطة في الأشخاص؟ وهل يمكن أن تدفع شخصًا عاديًا -حسن النوايا- إلى العنف والديكتاتورية بالفعل؟

التساؤلات نفسها دارت بخلد أستاذ علم النفس بجامعة «ستانفورد»، فيليب زيمباردو ليجري تجربة سجن ستانفورد الشهيرة عام 1971، والتي هزت أرجاء عالم علم النفس. حوّل زيمباردو قبو قسم الطب النفسي بالجامعة إلى مجموعة من الزنازين، واختار عددًا من أكثر طلابه سلامة نفسية وجسدية، ليقسمهم إلى مجموعتين، الأولى تلعب دور الحراس، والثانية تمثل المساجين، في حين يقوم هو بدور مأمور السجن، وأعطى تعليماته للمجموعة الأولى باتخاذ الإجراءات اللازمة لتطبيق القانون والنظام بالسجن.

وكانت المفاجأة المدوية عندما ارتكبت مجموعة الحراس انتهاكات جسدية ونفسية بالغة بحق مجموعة المساجين، لدرجة دفعت زيمباردو لإلغاء التجربة -التي وصفها بأنها بدأت تصبح سادية- في يومها السادس فقط، بعد أن كان من المقرر لها أن تستمر أسبوعين.

من تجربة سجن ستانفورد CBS news)

فالحديث هنا عن تجربة أفرادها من دارسي علم النفس بإحدى الجامعات الكبرى، وأكثرهم ثباتًا نفسيًّا، وارتكابهم لانتهاكات جسيمة في حق زملائهم. وحتى زيمباردو نفسه قال بأنه نسي دوره الممثل في كونه أستاذ علم النفس ومدير التجربة، وبدأ يتقمص دور مأمور السجن. بالتالي يصبح مجرد تخيل ما يمكن أن تفعله السلطة بشخص عادي على أرض الواقع مثيرًا للرعب لأقصى حد. فما الدافع وراء هذه التصرفات العنيفة للطلبة؟ الإجابة تتمثل في عبارة قالها واحد ممن أدوا دور الحراس –وأكثرهم شراسة- «ما إن ترتدي الزي الرسمي وتصبح مهمتك هي فرض النظام بين السجناء، حتى تتملكك هذه الشخصية».

في دراسة أخرى أكثر اعتدالًا نشرت عام 2010، حول تأثير السلطة في السلوك، وجدت أن من يعتقدون بأنهم يمتلكون زمام الأمور، تقل لديهم مهارة قراءة مشاعر الآخرين، مقارنة بغيرهم ممن يعتقدون العكس، والسبب كما سجل أحد القائمين على الدراسة بجامعة «كاليفورنيا» داتشر كلتنر، هو ربما أن الأشخاص ممن لديهم سلطة أقل يحتاجون لعقد تحالفات مع بعضهم البعض للنجاح والاستمرار، أما من لديهم السلطة، فبإمكانهم اتباع أهوائهم كما يرغبون.

ويتابع كلتنر قائلًا: «عندما تحوز السلطة، تتوقف عن متابعة البيئة الاجتماعية من حولك باهتمام، فلا تستطيع أن تقرأ مشاعر الآخرين قراءة جيدة، ولا يصبح لديك وعي واضح بالحالات الاجتماعية المهمة كالفقر مثلًا. وفوق كل هذا، السلطة تجعلك مندفعًا وأنانيًا وغير متزن السلوك».

وربما تجعلك السلطة منعزلًا عن الآخرين أيضًا، ففي دراسة ثالثة نشرت عام 2006، استخدم الباحثون طريقة غير تقليدية لإثبات هذه النظرية. قسموا المتطوعين إلى مجموعات، وبثت أفكار إلى كل مجموعة بحيث تجعلهم يعتقدون بأنهم على درجات متفاوتة من السلطة، وفي النهاية طلب منهم رسم حرف E على جباههم، وعرضه على الآخرين. وكانت النتيجة أن المجموعة التي اعتقدت حيازتها للسلطة الأكبر، زادت فرصة رسمها للحرف E ثلاثة مرات أكثر من المجموعات الأخرى. والمحصلة كما سجل القائمون على التجربة أن أصحاب السلطة والنفوذ يصبح اهتمامهم منصبًا على أنفسهم، ويهتمون بصورة أقل بوجهة نظر الآخرين فيهم.

هنا تتضح ملامح الصورة، وتكتمل أركان المعادلة، هات شخصًا عاديًا وامنحه سلطة ما، وتلقائيًّا سيقل لديه الإحساس بمشاعر الآخرين، ولا يهتم بأحد سوى ذاته، ليصبح لديك ديكتاتور كامن. حينها يصبح اتجاه مثل هذا الشخص للعنف مفهومًا، ونحصل على الإجابة المنشودة من البداية.

إلا أن السلطة ليست أمرًا جيدًا أو سيئًا في المطلق، من وجهة نظر أستاذ علم النفس بجامعة أوهايو ريتشارد بيتي، الذي استخلص من دراسة نشرت له عام 2007 أن السلطة تزيد من ثقة الأشخاص باعتقاداتهم المسبقة. فقد طلب بيتي من المتطوعين في البداية تسجيل الأفكار الإيجابية أو السلبية التي تدور بأذهانهم، ومن ثم حثهم على الشعور بمزيد من السلطة والنفوذ، وكانت النتيجة أن من دونوا أفكارًا إيجابية صاروا أكثر إيجابية، أما أصحاب الأفكار السلبية فقد زادت سلبيتهم. «السلطة تضخم أيًّا كان ما يدور برأسك»، هكذا علق بيتي، وتابع: «أعتقد أن هذا يفسر لماذا يميل من هم في مواقع النفوذ إما للسير في طريق الخير، وإما الشر بلا حياد».

 

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …