في كبد السماء الزرقاء الصافية كانت تحلق طيور النورس وبجانبها مروحيتان، واحدة للدرك وأخرى للشرطة، كان صوتهما يدوي فوق العاصمة الجزائرية، تتوقفان برهة فوق هدف معين في الأرض ثم تتحركان، إنهما ترقبان نقاط تحرك مظاهرات ضد ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة، في استحقاقات 18 أبريل/نيسان 2019.
دعوة مجهولة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، حثَّت الجزائريين على التظاهر ضد العهدة الخامسة يوم الجمعة 22 فبراير/شباط 2018، في كافة أرجاء البلاد، ولُبّي النداء بأغلب الولايات البالغ عددها 48 ولاية.
وسار الرافضون لاستمرار بوتفليقة في الحكم لخمس سنوات مقبلة، بمختلف الشوارع الرئيسية لمدنهم، عقب صلاة الجمعة، وسُجلت أكبر الأعداد بعنَّابة، وبجاية، وجيجل، وسوق أهراس (شرق)، ووهران، وتيارت غيليزان وتلمسان مسقط رأس بوتفليقة (غرب)، وغرداية، ورقلة وأدرار (جنوب).
هدوء حذر
استيقظت العاصمة الجزائرية صباح الجمعة 22 فبراير/شباط، على هدوء حذر، كل شيء في الضواحي يبدو عادياً، لا يختلف عن أية جمعة، قلة حركة، طرقات مفتوحة تماماً أمام السيارات، حواجز الشرطة مرنة، لا توحي بأي تأهب غير عادي.
مع الاقتراب من وسط المدينة يُسمع دوي مروحيات الدرك والشرطة التي صعدت للتحليق ساعة قبل صلاة الجمعة.
أمام المساجد كانت سيارات الشرطة شديدة الحركة تراقب خروج المصلين، مثلما كان الحال بمسجد الشيخ البشير الإبراهيمي بشارع الشهداء ببلدية المرادية، حيث تكفل أربعة أعوان داخل سيارتهم بمتابعة سلوك المواطنين عقب أدائهم لصلاة الجمعة.
واتخذت المديرية العامة للأمن الوطني إجراءات استباقية، إذ نشرت تعزيزات كثيفة بكل الساحات الكبرى، من سيارات مدرعة وقاذفات المياه وعناصر مكافحة الشغب، تحسباً للتعامل مع المسيرة.
ويمنع القانون الجزائري تنظيم مسيرات بالعاصمة، بينما رفع الحظر عنها في باقي ولايات الوطن، في إطار الإجراءات التي اتخذها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة سنة 2012، خلال أحداث الربيع العربي.
في حدود الثانية، بعد الزوال، انطلق صوت أشبه بصياح المناصرين داخل الملاعب، من ساحة أول مايو في قلب المدينة، لقد «خرجوا فعلاً»،يقول أحد المواطنين المقيمين في حي المدينة.
في الوقت ذاته انطلقت مسيرة من الحي الشعبي الشهير «باب الوادي»، باتجاه مقر ولاية الجزائر، أطّرها عناصر الشرطة.
وفور ظهور أولى صورها بوسائل التواصل الاجتماعي بصعوبة بالغة بسبب بطء تدفق الإنترنت، تأكد الجميع من أن البلاد مقبلة على «يوم تاريخي».
ولم تعرف الجزائر مسيرات مماثلة منذ سنوات التسعينات، حين كان التظاهر على أوجه بسبب الصراع الشرس يومها بين السلطة والمعارضة، بقيادة حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلي، قبل أن تهوي في أزمة أمنية لعشر سنوات.
الشعب يكسر حاجز الصمت
انتقل «عربي بوست» إلى ساحة أول مايو، هذه الساحة لها تاريخ طويل في التظاهرات السياسية، ليقف على «كرة ثلج»، وكيف بدأت تكبر تدريجياً، حيث اجتمع على طرفي نافورة المياه عشرات المواطنين، رافعين شعارات «لا للعهدة الخامسة»، «بوتفليقة مكاش (لا توجد) عهدة خامسة»، وطُوّق المتظاهرون بجدارين بشريين، شكَّلتهما عناصر الشرطة لمنعهم من السير باتجاه البريد المركزي، أو الصعود إلى بلدية المرادية، عن طريق قاعة حرشة الرياضية.
إصرار على السلمية
وتميزت الأجواء بين المتظاهرين الرافضين للعهدة الخامسة وأعوان الأمن بالودية إلى حد كبير، حيث لم تغلق الطرق أمام أصحاب السيارات، ولم يتعرض الراجلون لأية مضايقات، وكلما حدث تدافع بسبب رغبة المواطنين في السير ترتفع الأصوات «سلمية.. سلمية» و «لا للعنف».
كرة الثلج تواصلت في أخذ الحجم، لتنجح في كسر حاجز منع المسيرات بالعاصمة أخيراً، ونفذ المتظاهرون من أمام مقر الولاية إلى ساحة البريد المركزي، حينها اهتز المكان بشعاراتهم الرافضة للعهدة الخامسة والمنادية بالتزام السلمية والهدوء.
إسقاط صورة بوتفليقة
وقام محتجون باستهداف الصورة العملاقة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، المعلقة في واجهة المقر الولائي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي يتزعمه الوزير الأول أحمد أويحيى، وأسقطوها أرضاً..
في حدود الرابعة والنصف بعد الزوال بلغت المسيرة ذروتها، وانتشر المحتجون، في أبرز الساحات والشوارع، بالبريد المركزي، وساحة أودان، وشارع محمد الخامس، وساحة أول مايو. وأمام قوة الحشود حصل أعوان الشرطة المدججون بمتاريس الزجاج العازل والألبسة الواقية من الصدمات، على تعليمات تفيد بالتراجع نحو الأعلى، وبالضبط إلى أقرب النقاط المحيطة بقصر رئاسة الجمهورية بالمرادية.
ويبدو أن القرار اتخذ عقب معلومات تفيد بأن الغاضبين وضعوا نصب أعينهم مقر الرئاسة كهدف.
أول الصدامات
وتركزت جل التعزيزات الأمنية بساحة أديس أبابا أمام مقر المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وأغلقت الطريق المؤدي إلى بلدية المرادية حيث قصر الرئاسة، الذي يبعد بحوالي 2 كلم فقط.
هنا، فقط، انقطع حبل الود بين المتظاهرين والشرطة، ففور وصولهم إلى هذه النقطة، خرجت من فوهة البنادق أولى قنابل الغاز المسيل للدموع، كما أطلق العنان لخراطيم المياه الساخنة، في رسالة مفادها «لا يمكن التساهل أكثر.. هنا الحد المسموح».
وردَّ بعض المحتجين برمي عناصر الشرطة بالحجارة، ووقف «عربي بوست» على المناوشات التي لم تستمر طويلاً، حيث تراجع المتظاهرون إلى محيط الشعب، واستمرَّ الشدّ والجذب إلى ما بعد المغرب، وفوقهم مروحيات الأمن مستقرة في السماء تراقب الوضع بكاميراتها عالية الدقة.
جاؤوا من كل المناطق
مع نهاية اليوم، بدأت شاحنات القمامة التابعة للبلديات في جمع مخلفات الاحتجاجات، وتولّى أعوان النظافة كنس محيط ساحة أديس أبابا من الحجارة وأعيرة الغاز المسيل للدموع.
وشرع المتظاهرون في العودة إلى منازلهم، وأغلبهم فعلوا ذلك سيراً على الأقدام، بعدما توقفت مبكراً حافلات النقل الجماعي، وقال شاب لـ «عربي بوست»: «تعبت، تنقلت بين باب الواد، وساحة أول مايو، والبريد المركزي، مشياً على الأقدام، والآن أنا عائد إلى البيت كذلك.. لا توجد وسيلة نقل».
وأضاف الشاب عماد (في عمر الثلاثينيات) الذي كان يريد العودة إلى منزله بحي ببلدية حسين داي: «كانت مسيرة كبيرة، ولكنها أفسدت في النهاية بعد الاصطدام بالشرطة.. الغاز المسيل للدموع لم يكن سهلاً».
وتنقل مشاركون في المسيرات من مختلف البلديات، بابا حسن، والأبيار، وبوزريعة، وبن عكنون، والحراش، وباب الزوار وغيرها.
جلهم شباب
وأول ما يلفت الانتباه في مسيرات الجمعة هو سلميتها، حيث لم تسجل إصابات خطيرة، ما عدا بلدية أقبو بولاية بجاية، حيث سجلت مواجهات قوية بين بعض المتظاهرين وعناصر الشرطة، وذكرت تقارير إعلامية تسجيل إصابات من الجانبين.
كما اتسمت المسيرات بأن أغلب المتظاهرين هم شباب في مقتبل العمر (20-40 سنة)، وسجل أيضاً حضور كهول، وتواجد قليل جداً للنساء.
هذا ردّنا يا أويحيى
خروج الجزائريين بهذا العدد، وكسرهم لحظر المسيرات في العاصمة، رأى فيه عبدالقادر، أحد المتظاهرين، رداً على الوزير الأول أحمد أويحيى، وقال لـ «عربي بوست»: «لقد جاءه ردنا اليوم، قال إن السلطة سيطرت على الشارع، الشعب هو مَن يسيطر على الشارع، وقال إن الشعب الجزائري سعيد جداً بترشح بوتفليقة.. اليوم تأكد من مدى سعادتنا».
غضب من وسائل الإعلام
خروج عشرات الآلاف من المتظاهرين في جل الولايات الجزائرية رفضاً لرغبة بوتفليقة في الترشح لعهدة رئاسية خامسة قابَلَه تعتيم إعلامي كبير، حيث لم تول وسائل الإعلام الجزائرية والأجنبية أهمية لها.
وازداد التعتيم بعدما لجأت الحكومة إلى خفض تدفق الإنترنت إلى أقصى درجة منذ ليلة الخميس إلى الجمعة، قبل أن تقطع الشبكة كلياً لساعات طويلة خلال اليوم، مما صعب تناقل الصور والفيديوهات عبر موقعي التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر.
وفي حدود الساعة الخامسة بعد الزوال، تناولت قنوات خاصة الاحتجاجات على خجل، حيث كتبت أغلب القنوات أن «مئات المواطنين يطالبون بالتغيير والإصلاحات»، بينما «طالبنا نحن بعدم تمرير العهدة الخامسة»، يقول محمد (54 سنة).
وأضاف محمد لـ»عربي بوست»: «ما بهم الصحافة.. حتى قناة فرانس 24 تكتب في شريطها للأخبار مئات المتظاهرين، ما هذا؟ إنه تواطؤ مباشر مع بوتفليقة، لقد خرج الآلاف في كل الولايات».
وصحفيون خجلون
ووجد صحفيون يشتغلون بوسائل إعلامية خاصة، حرجاً كبيراً، بسبب تعامل مؤسساتهم مع المسيرات، وعبَّروا عن مواقفهم عبر صفحات الفيسبوك بعد عودة الإنترنت ليلاً.
وكتب الصحفي ومقدم البرامج قادة بن عمار، مقدم برامج على قناة الشروق الخاصة: «نحن لم ندرس الصحافة للتعتيم على الناس، أو للتعتيم على وطن برمته… ما حدث اليوم ليس مجرد جريمة ضد المهنية، وإنما جريمة ضد الحقيقة!!!».
وكتب الناشط يوسف بوشريم «التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي تقهر النظام وإعلامه المأجور. وتأكدنا اليوم أن هناك صحفيين أحراراً لا صحافة حرة»
الرسمية تُفاجئنا وتفتح باب التأويلات
وفي خطوة مفاجئة، نشرت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية برقية عن مسيرة العاصمة، حتى وإن حرصت على انتقاء كلماتها بدقة شديدة إلا أنها تطرَّقت إلى رغبة الشعب في عدم ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة.
وكتبت الوكالة «وسط حضور أمني مكثف تنقّل المتظاهرون مباشرة بعد صلاة الجمعة، حاملين أعلاماً وطنية، ولافتات كُتب عليها «نعم للعدالة» و»مسيرة سلمية» و»تغيير وإصلاحات»، مطالبين الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بالعدول عن الترشح لعهدة جديدة».
البرقية أثارت دهشة الجزائريين، وبالأخص المتابعين للشأن السياسي في البلاد، إذ إنها الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي أثارت «الرفض الشعبي للعهدة الخامسة»، خلافاً لأغلبية وسائل الإعلام الخاصة.
وفتحت الوكالة التي لن تكتب شيئاً مماثلاً دون موافقة رسمية من أعلى سلطات البلاد (رئاسة الجمهورية)، البابَ أمام تساؤلات عديدة، فقد توحي بانفتاح بوتفليقة على الرأي الآخر المعارِض لترشحه، كما توحي بخطوة أولى بالعدول عن الترشح بعد العودة من الزيارة الطبية المقررة إلى سويسرا، الأحد 24 فبراير/شباط الجاري.
غير أن الاحتمال الثاني يبقى صعب التجسيد، خاصة أن بديل بوتفليقة في حالة تراجعه عن الترشح يجب أن يكون توافقياً من داخل النظام، ولم يبق سوى أيام قليلة عن نهاية الآجال الدستورية لتقديم ملف الترشح، في 3 مارس/آذار المقبل.
ومهما تعددت القراءات فقد أكدت مسيرات الجمعة أن «التظاهر السلمي في الجزائر ممكن»، عكس ما تروّجه خطابات التخويف من الانزلاقات في كل مرة، وأثبتت أيضاً أن طريق العهدة الخامسة محفوف بالمصاعب، وقد يقطع نهائياً، وفتحت الباب أمام العديد من السيناريوهات، منها تأجيل الانتخابات لدواع أمنية