لقد أصبحت قصة اغتيال الصحفي السعودي المخضرم جمال خاشقجي، بمقر القنصلية السعودية في مدينة إسطنبول التركية، العام الماضي (2018)، إحدى القصص المؤثِّرة.
ووفقاً للأمم المتحدة، تشير الأدلة إلى أنَّه قُتل بطريقة وحشية متعمدة على يد مسؤولين سعوديين، لتحذير جميع المعارضين.
لقد اغتيل خاشقجي مثله مثل كثير من الأشخاص الآخرين على مرِّ التاريخ، مثل يوليوس قيصر وأبراهام لينكولن ومارتن لوثر كنغ وجون كينيدي وشقيقه روبرت.
وفي السنوات الأخيرة، اغتيل عدة أشخاص كذلك، من بينهم جاسوسٌ روسي مارق، وشقيق الزعيم الكوري الشمالي، وصحفيةٌ مالطية كانت تجري تحقيقات في فساد بعض المسؤولين.
وكما يقول المؤرخ والمؤلف مايكل نيوتن: «أحد الأشياء التي تؤلم مؤرخي الاغتيالات هو أنَّ التاريخ لا ينتهي أبداً»، بحسب تقرير لموقع هيئة الإذاعة الأسترالية ABC.
لكنَّ طبيعة الاغتيالات التي تبدو ثابتةً قد تغيَّرت على مرِّ الزمان.
الدوافع صارت شخصيةً بدرجةٍ أكبر
وبحسب الموقع الأسترالي، لا شكَّ في أنَّ الدافع عاملٌ مهم بأي جريمة، حتى تلك الجرائم المُدبَّرة التي تهدف إلى اغتيال شخصيةٍ عامة.
بيد أنَّ دوافع الاغتيال تتغير بمرور الزمان.
فوفقاً لما ذكره المؤرِّخ نيوتن، كانت الاغتيالات التي وقعت بالقرن التاسع عشر مدفوعةً بالمثالية في أغلب الأحيان، وعادةً ما كانت مرتبطة بأيديولوجية سياسية متماسكة.
إذ قال نيوتن: «فحتى لو نظرتم إلى اغتيال أبراهام لينكولن على يد جون ويلكس بوث، فسترون بوضوحٍ أنَّ (بوث) ارتكب فعلاً شريراً، لكنَّه كان يرى أنَّه على حق من وجهة نظره».
لكن بمرور الزمن، تغيرت سياسة الاغتيالات، وأصبح القتل المُدبَّر فعلاً بلا معنى ولا مبادئ، على نحوٍ متزايد.
إذ شهد القرن العشرون صعود القتلة المصابين بمرض النرجسية، مدفوعين في المقام الأول بالرغبة في كسب الشهرة والسمعة السيئة.
وقال نيوتن: «حين تنظر إلى محاولة اغتيال رونالد ريغان، تجد أنَّها بلا معنى في الحقيقة، بل كان الدافع وراءها الشهرة ليس إلا».
بيد أنَّ أحد الأبحاث يشير إلى أنَّه في السنوات العشرين الماضية، كان معظم القتلة الذين ينفذون عمليات الاغتيال مدفوعين بمظالم شخصية، حتى وإن كانت بلا معنى.
وكان ريد ميلوي، وهو طبيب نفسي شرعي عمل مستشاراً لمكتب التحقيقات الفيدرالي منذ نحو من عقدين، هو الذي اكتشف ذلك.
إذ قال ريد متحدثاً عن الاغتيال: «إنَّه عملٌ انتقامي عنيف مملوء بالشعور بالظلم، ويرى مرتكبه أنَّه مُبرَّرٌ تماماً».
الضحايا صاروا أقل شهرة عن ذي قبل
في أعقاب اغتيال بعض أبرز الشخصيات الأمريكية بستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حصَّن الرؤساء والشخصيات البارزة أنفسهم بدرجةٍ أكبر.
وقال نيوتن: «ليس من قبيل المصادفة أنَّ الاغتيالات السياسية التي وقعت في السنوات العشر الماضية كانت بحق أشخاصٍ أقل شهرة وذوي مناصب أقل من ضحايا الاغتيالات في الماضي».
ولعل واقعة اغتيال النائبة البريطانية جو كوكس، التي قُتِلت خارج إحدى المكتبات المحلية في دائرتها الانتخابية، أبرز مثالٍ على طبيعة عمليات الاغتيالات الآن.
وقال نيوتن: «أولئك الناس أقرب إلى الجمهور بكثير من رؤساء الوزراء والرؤساء»، مستدركاً: «لكنك إذا عدت إلى الوراء، فسوف تجد من السهل الاقتراب من الرئيس، وفق المعايير الأمريكية».
ولقد كان هذا الأمر صحيحاً بالتأكيد في ستينيات القرن الماضي، وهو عقدٌ شهد اغتيالات لناشط الحقوق المدنية مارتن لوثر كنغ، وجون إف كينيدي، وفي وقت لاحقٍ أخيه روبرت.
وقال نيوتن: «ثمة الكثير من اللقطات لبوبي كينيدي في حملة عام 1986 الانتخابية، في وسط معترك الناس الذين يحاولون مصافحة يده أو لمسه».
وأضاف نيوتن: «ليس من الغريب على الإطلاق أن يستطيع سرحان سرحان الاقتراب من بوبي كينيدي، لأنَّ مئات الآلاف من الأشخاص كان باستطاعتهم الاقتراب منه في ذلك الوقت. أما الآن، فمثل هذه الأمور لا تحدث».
أمر أشبه بالعصابات
من الناحية التاريخية، كان القادة السياسيون أهدافاً شائعة للاغتيالات، لكن في القرن الـ21، أصبح المنشقون والصحفيون ضحايا متكررين.
ويوضح نيوتن أن «النمطين الأساسيين من الاغتيالات هما الاغتيالات التي يقوم بها الضعفاء، وتلك التي يقوم بها الأقوياء. عندما يهاجم الضعفاء رئيساً أو ملكاً، فإنهم يحاولون تأكيد قدر ضئيل من القوة في موقف يشعرون فيه، بأنفسهم، بأنهم لا يملكون شيئاً منها».
واستدرك: «لكنَّ الاغتيالات من أعلى، عندما تنفذها الدول، كما هو الحال مع روسيا ومع السعودية، عكس ذلك تماماً، إذ تكون تأكيداً لسلطة الدولة ونفوذها».
ومن بين الاغتيالات البارزة الأخرى في القرن الـ21 اغتيال الصحفية الاستقصائية المالطية دافني كاروانا غاليزيا، والمنشق الروسي ألكساندر ليتفينينكو.
في كلتا الحالتين، الدولة مشتبهاً فيها على نطاق واسع، بأنها أمرت بالقتل.
وقال نيوتن: «ثمة عنصر شبيه بالعصابات في مثل حالات القتل هذه، متمثل بأنك تُظهر أنه لا أحد مستثنى، ولا أحد في مأمن منك. الأمر مزعج… وحالات القتل الأخيرة هذه جعلت الناس يشعرون بتعطل القوانين، لا سيما في المناخ السياسي الموجود حالياً. هذه التصرفات، أفعال العنف هذه، لها تأثير دعائي، وهو تأثير الترويع والتخويف».
لكنها لم تعد فعالة
يأمل كثير من القتلة في تغيير مسار التاريخ بطريقة ما، ومن السهل التفكير في أنَّ أفعالهم يمكن أن تشكل حقبة بعينها.
ومع ذلك، ووفقاً للخبير الاقتصادي بن أولكن، الذي حقق في تأثير قرابة 300 محاولة اغتيال لقادة سياسيين بالعالم، فالأمر ليس بهذه البساطة.
وقال البروفيسور أولكن: «حاولنا معرفة تأثير جميع محاولات الاغتيال على القادة، سواء كانوا قادة أو رؤساء أو وزراء، مغطين الفترة من عام 1875 حتى عام 2004».
اكتشف أولكن أنَّ 24% من هذه المحاولات كانت ناجحة.
وقال أولكن: «في حالات أخرى تنفجر القنبلة، أو تنطلق الرصاصة، لكنَّ الهدف ينجو».
وفي المتوسط، اكتشف البروفيسور أولكن أنَّ الدول الاستبدادية كانت أكثر احتمالاً بـ13% في أن تصبح ديمقراطية بعد اغتيال حاكمها المستبد.
وقال إنَّ الاغتيالات التي تحدث في دول ديمقراطية نادراً ما يكون لها أثر مزعزع للاستقرار.
وقال أولكن: «في المتوسط، فإنَّ محاولة اغتيال ناجحة لزعيم ديمقراطي لا تؤدي إلى تراجع هذا البلد إلى ديكتاتورية بالنسبة إلى محاولة فاشلة».
وقال نيوتن إنَّ القتلة يخلطون، على سبيل الخطأ، بين المؤسسات والشخصيات العامة على رأس هذه المؤسسات.
وأضاف: «عندما تقتل رئيساً، فثمة شعور بأنَّك قتلت الرئاسة. لكن من الطبيعي والصحيح أنَّ ما يحدث ليس من هذا القبيل؛ فأنت تقتل الرئيس، ثم هناك نائب الرئيس».
وعلى الرغم من عمليات القتل الصادمة التي تعرض لها جون وروبرت كينيدي، ومارتن لوثر كنغ وشخصيات سياسية أخرى في الستينيات، فقد استمرت الحياة بالولايات المتحدة.
وقال نيوتن: «لم تتضرر الرئاسة، وحسمت المؤسسات الديمقراطية أمرها، متجاوزةً هذه الأحداث. أما الحياة الاجتماعية الأمريكية على مستوى واحد، فلم تتأثر قط بهذه الأحداث».
لكن مرة أخرى، ربما تكون صورة كينيدي وهو يقود سيارته عبر دالاس في سيارة مكشوفة مفتوحة، أو دخول خاشقجي الأبواب الذهبية للسفارة السعودية، إرثاً في حد ذاته.