ليلة باردة من ليالي ديسمبر/كانون الأول، لم تفوّت خلالها الممثلة الأميركية بلانكا بلانكو في مراكش فرصة التجول بدروب المدينة والاستمتاع بأقداح الشاي المنعنع، إلى جانب حلوى مغربية تقليدية، رفقة أصدقائها الفرنسيين، بمطعم «سلام» وسط المدينة العتيقة.
انطلقت سهرة بلانكا بجولة مسائية ممتعة على متن عربة «كوتْشي»، وهي وسيلة نقل مشهورة بالمدينة الحمراء، تجرها الخيول ويعود تاريخها بالمغرب للقرن الـ19.
إلا أن رحلة العودة إلى الفندق الفخم الذي تقيم فيه أصابتها بالذهول.
نجمة هوليوودية معجبة بسائق مغربي
القدر وحده هو ما جعل نجمة هوليوود -التي يسعى معجبوها إلى التقاط صور سيلفي معهاـ تطلب من سائق سيارة أجرة مغربي تسجيل مقطع فيديو برفقته.
موجهة إليه كلمات شكر عميقة، مشيدةً بمبادرته الرامية إلى نقل ذوي الاحتياجات الخاصة بالمجان.
أما السائق عبد الجليل مجاهد، ورغم حديثه مع الشابة الأميركية والتقاط صور معها، فإنه لم يدرك حجم انتشار قصته إلا بعد ساعات.
ظانّاً أن صاحبة الفيديو ليست سوى سائحة بالمدينة أحبَّت المبادرة وسعت للتنويه بها.«كنت أعمل كما هو الحال كل ليلة، أجوب شوارع المدينة وأزقَّتها بحثاً عن زبناء، اتصل صديق يعمل بمطعم (سلام)، طالباً أن أُقِلَّ سيدة أميركية إلى الفندق وفق طلبها، وهو ما كان بعد دقائق قليلة»، قال يحكي عبد الجليل
سارت الأمور بشكل عادي طيلة مسافة الرحلة، كانت الشابة الجميلة تحادث مرافقيها.وما إن توقفت السيارة أمام بوابة الفندق ونزلت منه بلانكا حتى لمحت جملة عربية على الزجاج الخلفي تقول: «توصيل بالمجان لذوي الاحتياجات الخاصة».
بلانكا بلانكو لا تقرأ العربية ولا تفقه فيها إلا بعض الكلمات المعدودة على رؤوس الأصابع، إلا أن الرمز المرفق إلى جانب الكتابة أثار انتباهها، ما جعلها تبادر عبد الجليل بالسؤال عن فحواها.
الفيديو من خلال هذا الرابط أيضاّ
https://www.instagram.com/blancablancoactress/p/Bq-XEronf45/
مرضى و»معاقون».. على قارعة الطريق
إنهاك شديد وعذاب كبير يتكبدهما ذوو الاحتياجات الخاصة، كلما رغبوا في التنقل خارج بيوتهم لقضاء مآرب تصبح قطعة من الجحيم، في غياب الولوج بوسائل النقل العمومية وكذلك حافلات البلاد وقطاراتها.
إلا أن عبد الجليل، البالغ من العمر 39 عاماً، لم يستسلم لهذا الوضع، راغباً في مدِّ يد العون لهذه الفئة، التي كان شاهداً على معاناتها بشكل يومي.
فمنذ قرابة 4 سنوات وسائق التاكسي يعمل على التوقف طواعية للمكفوفين والمعاقين ذهنياً وحركياً.
يُوقف سيارته قريباً من المستشفيات والمصحات، مترصداً المرضى ممن لا يتوانون عن سرد حكاياتهم وبث همومهم لسائقي سيارات الأجرة، ما إن يأخذوا أماكنهم، كما جرت عادة المغاربة.
بدت الدهشة مراراً على ملامح ذوي احتياجات خاصة أو مصابين بالسرطان أو القصور الكلوي، حين يخبرهم الشاب بأنه لا يريد منهم أجراً ولا شكوراً، في حين يذهب عدد كبير منهم إلى رفض التنقل بالمجان، هذا إن لم يُبدوا غضبهم، مؤكدين أنهم قادرون على سداد أجر الرحلة.
أما مجاهد، والد 5 أطفال، فله رأي آخر تماماً، يؤكد قائلاً: «هذا جزء من الواجب تجاه إخواننا الفقراء والمرضى والمعاقين، فقد أكون اليوم بصحتي كاملة، أعمل وأعيل أسرتي، لكن غداً من يعلم، ربما أتعرض لحادثة سير وتُبتَر أحد أطرافي وأصبح معاقاً بدوري»، وفق تعبيره.
توصيلة.. بالمجان
يتكفل عبد الجليل بنقل 3 أو 4 أشخاص من ذوي الإعاقة يومياً، في حين تبنى زملاء آخرون المبادرة نفسها، وباتوا يعملون على توصيل محتاجين مجاناً إلى وجهتهم، التي غالباً ما تكون عيادات أو مستشفيات.
إلا أن السائق الشاب لا يستثني حتى السياح الأجانب في حال ما كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة أو مصابين، وهذا ما حدث قبل أٍسابيع قليلة رفقة لاعب كرة سلة بالمنتخب الفرنسي، رافضاً ذكر اسمه.
يحكي عبد الجليل بلكنة مراكشية غير خافية، قائلاً: «كان مرفوقاً بزوجته حين أوقفني الرجل الذي كان يستند إلى عكازين، بسبب إصابة في الركبة.
أوصلتهما إلى وجهتهما، لكني رفضت استخلاص الأجرة، وأفهمته أسبابي، ليعانقني بحرارة ويمضي لحال سبيله مبتسماً».
لم تعد المبادرة مقتصرة على المدينة الحمراء، بل تبناها سائقون من مختلف المدن المغربية الكبرى على الخصوص، والتي تعرف توافد المرضى على المستشفيات الكبرى، قادمين إليها من قرى ومناطق نائية، لا ينتظرون جزاء من أي جهة، مكتفين بدعوات مستضعفين وشكر مواطنين وتنويه رجال الأمن بالشارع.
يطلع فجر يوم جديد، ليبدأ عبد الجليل رحلة البحث عن زبائن يُقلُّهم إلى وجهات مختلفة، ويترصد ذوي احتياجات خاصة يقفون تحت شمس المدينة الحارقة متصبِّبين عرقاً، يقف على مَهل أمام شاب مكفوف، يدعوه للصعود للسيارة، لينفرج محياه عن ابتسامة عريضة، مخبراً سائق التاكسي أنه عرفه من صوته، فليست هذه هي المرة الأولى التي يوصله مجاناً إلى «المنظمة العلوية للمكفوفين»، حيث يتابع السنة الأخيرة من دراسته.