اعتبرت صحيفة Washington Post أن تونس قدمت للعالم الغربي وجيرانها نموذجاً للتعامل مع محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، على خلفية تورطه في مقتل الصحافي جمال خاشقجي.
فعلى مقر نقابة الصحافيين انتصب إعلان كبير يصور بن سلمان وهو يمسك منشاراً. كتب على الإعلان: لا لتدنيس أرض تونس الثورة. وعلى السياج المحيط: «لا أهلا ولا سهلاً ببن سلمان في أرض تونس الثورة».
وتبدو الفكرة القائمة على «نموذجٍ» تونسيٍّ ملائمةً للمراقبين الغربيين، الذين ما زال لديهم أمل في عدم ضياع تفاؤلهم بالربيع العربي.
غير أنها تقدم عزاء بسيطاً للتونسيين أنفسهم، الذين يشعرون -وهم على صواب في هذا- أن نموذجهم الديمقراطي غير كامل.
في تقرير تحليلي كتبه الباحثان بمركز سياسات الشرق الأوسط التابع لمعهد بروكينغز البحثي شادي حميد وشاران جرويال، تم تفنيد الدور الملهم الذي تقدمه تلك الدولة التي انطلقت منها التحولات الأخيرة للمنطقة.
إذ إن التونسيين -الذين لم يعيشوا في ظل الوحشية المطلقة للديكتاتورية المصرية أو في ظلِّ انهيار هياكل الدولة باليمن- لا يقارنون أنفسهم بهذه البلاد.
بل يقارنون أنفسهم -ولهم كل الحق في هذا- بما يرغبون في أن يتمكَّنوا من بلوغه.
ديمقراطية تونس نسبية، لكنها أحسن حالاً من جيرانها
تونس -عكس جيرانها- تُعتبر على أقل تقديرٍ ديمقراطيةً، وإن كانت ديمقراطيتها نسبيةً.
لكن البعض يشكك في ذلك، إذ قال مغني الراب التونسي دي جي كوستا لصحيفة Washington Post: «ليس لدينا ديمقراطية في تونس. إنها أشبه برجلٍ متسخ البشرة لم يغتسل منذ أشهر، ثم جاء في يومٍ ما وارتدى ملابس جميلة وباهظة الثمن. لكنك تعرفه، وتعرف من هو حقاً».
حسناً، تُرى من يكون؟
من المؤكد أن النموذج الديمقراطي التونسي يكافح. فهو يفشل في تطوير الاقتصاد، وتقليل الفساد، ويبالغ في رد الفعل على الهجمات الإرهابية. ويؤجل القرارات المهمة المُحتمل كونها استقطابية.
لكن تونس تواصل مع ذلك بروزها بطرقٍ غير اعتيادية، على الأقل بالنسبة للمنطقة.
تجسدت في الاعتراض على زيارة بن سلمان بحماية القانون
ليس من الضرورة أن يكون مفاجئاً خروج مئات من التونسيين للاعتراض على زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
غير أن الصور لا تزال لافتةً؛ نظراً إلى الندرة التي صارت عليها مثل هذه الاحتجاجات -أو الاحتجاجات بصفةٍ عامة- في العالم العربي بعد أن أظلمت سماء الربيع.
في ظلِّ الديمقراطية، يتمتَّع التونسيون بالحرية في الاحتجاج على زيارة بن سلمانبسبب اغتيال السعودية الصحافي جمال خاشقجي، وبسبب الحرب المدمرة التي تخوضها في اليمن، وبسبب قمعها الناشطات السعوديات.
ويمارسون حقوقهم بحماية من القانون، إذ رفعت نقابة الصحافيين التونسية دعوى قضائية تطالب تونس بإحالة محمد بن سلمان إلى المحكمة الجنائية الدولية.
هيئة قضائية مستقلة استجابت للمطالب من خلال بدء تحقيق. وربما يكون الأمر الأهم أن التونسيين قادرون على القيام بكل هذا دون الخوف من معاقبة الحكومة.
قد يكون الاحتجاج صغيراً، لكنَّ وقعه كبير
تبدو هذه الأحداث صغيرة، لكنها قوية في تذكيرنا بأن تونس لا تزال قادرة على أن تعلمنا شيئاً، على الرغم من عيوبها ومعاناتها.
ربما قد لا تكون نموذجاً، لكنها مصدر إلهام، ويمكنها أن تظل هكذا.
من أجل هذا، تشكل تونس -عن طريق وجودها وحسب- استثناءً وتهديداً لصورة استبدادية جديدة للشرق الأوسط.
لا شك في أن النموذج الديمقراطي الوحيد للربيع العربي هو المكان الذي يحتج فيه الشعب على محمد بن سلمان؛ فتونس تشكل شبه نقيض للسعودية.
كان اغتيال السعودية خاشقجي تتويجاً لقائمةٍ طويلة من الأخطاء والجرائم، التي تخضع كل منها الآن لتدقيقٍ أكبر.
فقد ركَّزَ النقاد، لأسبابٍ مفهومة، على الحرب في اليمن، إذ تضرب الكارثة الإنسانية التي تتكشَّف هناك المثال الأفظع على تهوُّر محمد بن سلمان.
السعودية دعمت الديكتاتورية، لكنها فشلت في تونس
غير أن الأثر الأشد تدميراً للسعودية على بقية المنطقة يسبق عهد محمد بن سلمان.
منذ عام 2011، عملت السلطات السعودية بلا كلل، على تقوية الديكتاتوريات في أعقاب الربيع العربي.
تدخَّلَت السعودية عسكرياً لسحق المعارضة في البحرين، وقدَّمت المليارات لدعم الأنظمة الملكية بالمغرب والأردن وعمان.
في كتابه المعنون بـ «Into the Hands of the Soldiers-في أيادي الجنود»، قدَّم ديفيد كيركباتريك، الصحافي بصحيفة The New York Times الأميركية، تفاصيل جديدة تُشكِّل مصدر إدانة، عن الدور الفعَّال الذي اضطلعت به السعودية والإمارات في إثارة الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، الذي أنهى التجربة الديمقراطية المصرية.
ففي مصر، كان لديهم شريك من الجيش أبدى استعداده، وهو الفريق عبد الفتاح السيسي.
تونس قدمت للعالم الغربي نموذجاً للتعامل مع بن سلمان
ولحسن الحظ، لم يكن لديهم مثل هذا الشريك في تونس، وكانوا غير قادرين -حتى الآن- على إبعاد تونس عن مسارها الديمقراطي، على الرغم من الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية الكبيرة.
والآن، تُقدِّم تونس دروساً حول كيفية التعامل مع مستبدٍّ مثل محمد بن سلمان، ليس فقط إلى جيرانها، بل يمتد صداها إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
لم تستكمل علاقاتها كالمعتاد مع السعودية، بل من خلال توجيه النقد والمطالبة بالمساءلة، والإيمان بالعدالة.