سلط تقرير الضوء على الحياة الأسرية لمؤسس شركة “أبل” ستيف جوبز ، مؤكدًا أنها لم تكن حياة مثالية أو ملهمة مثلما يعتقد الكثيرون .
لا يعتبر ستيف جوبز أفضل مثال ممكن للاقتداء به من الناحيـة الإنسـانية والعائلية والشخصية. وقد ظهر ذلك باعترافاته الشخصية في الكتب التي أرخت لسيرته، ومن ثم في كتاب “السمكة الصغيرة” الذي سنوضح تفاصيله في التقرير، وهو الكتاب الذي خطت ابنة ستيف جوبز تفاصيله “المظلمة”.
بشكل عام، كافة الأعمال التي تناولت سيرة حياة ستيف جوبز نادرا ما تحدثت عن جوانب إيجابية في حياته الشخصية، وغالبا ما تركز بشكل كامل على عبقريته في تأسيس شركته وطموحه في إحداث انقلابات تقنيـة حول العالم. خلال حياته، تم إصدار العديد من الكتب التي تؤرّخ لسيـرته الذاتية، تحتوي على العديد من التفاصيـل السيئة قطعا التي لم ينكـرها هو أثناء حياته، بل وافق على بعضها.
أشهر هذه الكتب هو كتاب “ستيف جوبز” الذي صدر بعد أيام قليلة من وفاته بسبب مرض السرطان في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2011، الكتاب يعتبر سيرة ذاتيـة لستيف جوبز بواسطـة الكاتب الصحفي الشهير والمدير التنفيذي السابق لشبكة “سي إن إن” والتر إيزاكسون، وهو الصحفي نفسه الذي قام بكتابة مجموعة من السِيَر الذاتية لشخصيات مهمة في التاريخ أبرزها ألبرت أينشتاين وبينجامين فرانلكين وهنري كيسنجر، وغيرهم.
الكتاب جُمع وكُتب أثناء حياة ستيف جوبز، بل وبإلحاح شخصي منه على إيزاكسون أن يقوم بتدوين سيرته الذاتية. وبالفعل كُتبت السيرة الذاتية بناء على عشرات المقابلات مع ستيف جوبز نفسه أثناء فترة مرضه، إلى جانب عشرات الأشخاص من أهله وأسرته ومعارفه وأصدقائه، وصدر الكتاب بأكثر من 600 ورقة تحمل في طيـاتها الكثير من الحقائق المدهشة لحياة جوبز العملية، وأيضا الحقائق المُخجلة والصادمة بالنسبة لحيـاته الشخصية.
إلى جانب الكثير من التفاصيل التي تُبرز عبقـرية جوبز التي جاء طرحها بشكل دقيق في الكتاب، فإنه وفي الجهة المقابلة أبرز الكتاب أن جوبز كان شخصية نرجسيـة إلى أعلى مستوى ممكن، ودائما يضع نفسه في المقدمة، ويتصف بالأنانية معظم الوقت. دائما كان يرى أنه شخص استثنائي، ولم يكن حميميا مع أصدقائه، بل كان يعامل بعضهم بالكثير من الخشونة والغلظة والاحتقار أحيانا.
وعندما أُثيرت التحقيقات العالمية بخصوص سوء الظروف التي يتعرض لها العمال في مصانع “أبل” في الصين، يذكـر الكتاب أن هذه التفاصيل المليئة بالكوارث لم تحرّك عواطفه إطلاقا. كان أيضا يكذب طوال الوقت، ولم يكن يتحلّى بالأمانة والنزاهة دائما، وكان يميل إلى تحوير الحقائق وتشويهها إذا كانت في مصلحته. فضلا عن أنه كان مدمنا على حبوب “LSD” المخدرة في فترات من عمـره والتي كان يعتبرها مصدرا للنشوة والإبداع.
أما بالنسبة لعلاقته الشخصية بأسرته، فالكتاب ذكـر حقيقة أن حياته الشخصية لم تكن مثالية على الإطلاق، ولم يكن زوجا جيدا ولا أبا جيدا. بالعكس، كانت علاقته بزوجته وابنته شديدة السوء، خصوصا الأخيـرة التي أوضح الكتاب أنه كان يعاملها بقسوة ضارية وغير مبـررة في معظم الوقت. حاول الكاتب أن يبرر هذه القسـوة بسبب الظروف السيئة التي مرّ بها جوبز عندما وجد نفسه وحيدا في ملجأ أيتام من قِبل أبيه البيولوجي، والمعاناة التي شعر بها عندما وجد نفسه في رعاية أسرة أخرى قامت بتربيته.
المدهش أن ستيف جوبز لم يعترض على أي تفصيلة من تفاصيل هذا الكتاب، بل ذكـر اعترافا واضحا قال فيه: “أعترف أنني فعلت الكثير من الأشياء التي لست فخورا بها”، وهو ما يعني اعترافا ضمنيا من عبقري التقنيـة بما جاء في الكتاب الذي يُعتبر سيرته الذاتية الرسمية، قبل أن يترك عالمنا ويستسلم أمام سرطان البنكرياس في أكتوبر/تشرين الأول 2011.
في الرابع من سبتمبر/أيلول من العام 2018، وقبل أيام قليلة من مؤتمر “أبل” السنـوي الذي يقام في سبتمبر/أيلول من كل عام -وهو أول علامة مثيرة للاستفهام بخصوص توقيت إصداره- يصدر كتاب جديد بعنـوان “السمكة الصغيرة” (Small Fry) يتحدث عن الجوانب الشخصية لحياة ستيف جوبز، ربما هو الكتاب الأكثر مصداقيـة وإثارة للجدل من بين كل الكتب التي صدرت بخصوصه.
السبب أن هذا الكتاب لم يكتبه صديق لستيف جوبز، أو صحفي مخضـرم في كتابة السِّيَر الذاتية، أو حتى كاتب تحفيزي، هذه المرة الكاتبة هي ابنة ستيف جوبز شخصيا، ليزا برينان جوبـز التي قررت أخيرا أن تكشف النقاب عن الجوانب الشخصية المثيرة للجدل في حيـاة أبيها العبقـري، من خلال مواقف شخصيـة عايشتها معه كابنته الوحيـدة عن قُرب.
قبل أيام من صدور الكتاب، قامت صحيفة نيويورك تايمز بتغطيـة أهم التفاصيل التي جاءت فيه حصـريا، ووصفت ما جاء فيه أنه يحمل تفاصيل مدمرّة غير متوقعة لجوانب شديدة الظلمة من شخصية جوبز على المستوى العائلي تحديدا، ترويها ابنتـه ليزا بشكـل مباشـر، وإن كانت طوال الوقت تميـل إلى محاولة تحليل هذه المواقف بتأويلات تبدو أحيانا شديدة السذاجة والسطحية، وتبدو أحيانا أخرى محاولة منها لتخفيف وقع هذه الصدمات على الجمهـور العاشق لجوبز، والذي ربما يعتقد أنها تحاول تشويه شخصية أبيها بعد وفاته.
ليزا من مواليد العام 1978، على مدار خمس سنوات من لحظة ميلادها كان ستيف جوبز يرفض رفضا قاطعا الاعتراف أنها ابنته، وأخبر زوجته “برينان” أن ليزا ليست ابنته، وأنه ليس مسؤولا عن نفقاتها على الإطلاق. لاحقا قامت برينان بإجراء اختبار للحمض النووي أثبت أن ليزا ابنة ستيف جوبز، وأنه مُطالب بدفع كفالة شهـرية متواضعة لها قيمتها 500 دولار. بمعنى آخر، من اللحظة الأولى التي جاءت ليزا للحيـاة، واجهت رفض أبيها الاعتراف بها ابنة له، فضلا عن المعاملة السيئة وغير المبررة التي كان يعاملها بها لفتـرة طويلة أثناء طفولتها، وهي ما قررت أن تتحدث عنه في كتابها.
باعتبارها أصلا كاتبة، بعد أن سافرت ليزا جوبز للعمل في أوروبا في المصارف، ثم عملت في التصميم، وانتهت بها مسيرتها المهنية للعمل محررة في بعض المجلات الأدبية، يبدو واضحا من أسلوب الكتاب -بحسب التقارير- أن له طابعا أدبيا بدون شك. تحكي ليزا جوبز مواقف مختلفة من حيـاتها التي تجمعها مع والدها، وفي كل موقف من هذه المواقف تذكـر رأيها أو ما تعلمته، أو مدى الألم الذي شعرت به من ورائه. الأمر الذي يجعل الكتاب أقرب لسيرة ذاتية تخصّها هي، ولا تخص والدها.
من ضمن المواقف التي تذكـرها ليزا أنه بقدوم العام 1983، وعندما كانت ابنة 5 سنوات، أطلقت شركة “أبل” جهازها الأول من نسخة “ليزا” (LISA) التي ظنّت أن والدها أسماها هذا الاسم تيمّنًا باسم ابنته، لكنها فوجئت بأبيها يخبــرها بمنتهى الوضوح والمباشرة أن الجهـاز لم يطلقه على اسمها إطلاقا، وإنما هو اختصـار للحروف الأولى “Locally Integrated Software Architecture”، وأنه لا علاقة للجهاز باسم ابنته.
موقف آخر لم تتورّع ليزا في وصف أبيها المليـاردير بأنه شديد البخل، عندما رفض تماما أن يمنحها سيارته البورش القديـمة على الرغم من أنه لم يكن يحتاجها إطلاقا، ويقوم استبدال سيارته فورا إذا أُصيبت بخدش بسيط. وعندما طلبتها منه، رفض إعطاءها السيارة بجفاء، وقال لها بوضوح إنها لن ترث منه أي شيء، وإنها يجب أن تخرج من ذهنها أنها ستحظى بأي مال منه في حياته أو بعد وفاته!
أما مواقف طفولتها مع أبيها، فتناولتها الكاتبة بشكل موسّع برواية عشرات المواقف التي توضّح مدى غرابة شخصية ستيف جوبز كأب وزوج ومؤسس أسرة، حيث ذكـرت في أحد المواقف أنها كانت تحتاج إلى منظم لدرجة الحرارة في غرفتها ليقيها الحر الشديد والبرد الشديد، وهو أمر شديد السهولة ويمكن توفيره في المنازل المتواضعة في أميـركا، ولن يعجـز والدها الملياردير أن يوفّره لها. ما حدث أن “جوبز” رفض وضع هذا الجهاز في غرفتها متعللا أنه يحاول أن يدرّبها على “نظام قيم معين”، يعلّمها كيفية التحمّل!
تستمر أحداث الكتاب والمواقف المتتالية التي تذكـرها ليزا جوبز بحصافة لغوية تجعل القارئ يتعاطف معها أحيانا، ويشعر بالعداء ضدها أحيانا أخرى، إلا أن الجزء الذي من المتوقع أن يثير أكبر قدر من العداء والتحفز ضدها هو أن الكتاب يحتوي على مواقف أخلاقيـة مخجلـة للغايـة ذكـرتها ليزا بلا تحفظ، لتوضح جوانب شديدة الحساسية بخصوص والدها وتصرفاته الأخلاقيـة.
تحكي ليزا أنه في أثناء وجودها برفقة والدها جوبز وزوجته الثانية التي تزوّجها لاحقا “لورين باويل”، فوجئت أن والدها يقوم بأمور خادشة للحياء برفقة زوجته أمام عينيها. وعندما حاولت ليزا الانصراف من المكان، استوقفها جوبز طالبا منها عدم الرحيل والبقاء في مكانها لمشاهدة هذه “اللحظات العائلية”، وأنه من الضـروري أن تكون جزءا من هذه العائلة. وعندما جلست ليزا، استمر جوبز وزوجته في أداء أمورهما “العائلية” بشكل فاضح أمام ابنته!
ومع ذلك، تستدرك في مذكـراتها -وأكّدت أيضا في لقائها مع صحيفة نيويورك تايمز- قائلة إنها اعتبرت هذا الموقف جزءا من غرابة أطوار والدها، وأنها لم تشعر أبدا بالتهديد أو الشك في أبيها أو إمكـانية أن يتعرّض لها بالتحرّش أو الأذى.
إلا أن هذا النوع من التصرف الغريب لم يكن غريبا عليه بحسب ما ذكرته طليقته -والدة ليزا- عندما ذكـرت في مذكـراتها التي صدرت في العام 2013 أنها شعرت بالقلق الشديد عندما وجدت أن ستيف جوبز يردد عبارات مشينة مع ابنته الصغيـرة في إحدى المرات، وأنه يتحدث بلغة فاضحـة لا تليق أن يتحدث بها أب أمام ابنته، بدت شديدة الخطورة بالنسبة لها كأم، وهو الأمر الذي دفعها لمراقبة ابنتها عن كثب في كل مرة تشعر أن ستيف جوبز يقضي معها وقتا طويلا.
لكنها أكّدت في الوقت نفسه بشكل قاطع أن جوبز لم يكن لديه ميول جنسية تجاه الأطفال، وأن كل ما فعله كان نابعا من شخصيته غريبة الأطوار التي كانت تدفعه للقيام والحديث بأشياء تبدو سيئة للغاية، ولكن دون دافع حقيقي للأذى. كـان -بحسب مذكـرات زوجته- يتراوح طوال الوقت بين الإنســان واللا إنســان!
بحسب النيويورك تايمز، يتدرج الكتاب لذكـر المواقف التي مرّت بها ليزا مع والدها في مراحله المختلفة، وصولا إلى مرحلة إصابته بمرض السرطان في البنكـرياس والذي جعله يشحب بشدة، ويفقد وزنه بشكل ملحوظ. لكن حتى في تلك الفتـرة، لم يُعفِه المرض من توجيـه كلمـات قاسية لها، كان أهمها عندما أخبرها أن تبتعد عنه قليلا لأن رائحتها أشبه برائحة “المرحاض”، معلّقا على العطـر الذي تضعه.
الواقع أن هذا التعليق تحديدا “رائحتك مثل المرحاض” كان من أكثر التعليقات التي أثارت ضجة كبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي قبل صدور الكتاب. ومع ذلك، كان تعليق ليزا نفسها على هذا الموقف أنه لم يكن يقصد أن يهينها، بل ربما كان مجرد تعليق صريح وصادق من طرفه في تلك اللحظة.
إلا أن الفصل الأخير من الكتاب والذي أسمته ليزا “نهاية الفيلم” كان يعج بالمواقف الإنسانية المؤثرة بينه وبينها قبل أيام من وفاته. في نهاية حياته، كان ستيف جوبز يعتذر لابنته بشكل صريح، وقال له إنه آسف على أنه لم يمضِ معها ما يكفي من الوقت، وإنه فوّت لحظـات نموّها وبلوغها وشبابها، وإنه آسف على نسيان أعياد ميلادها، وعدم الرد على مكالماتها ورسائلها.
ذكـرت أيضا أنها سمحت لنفسها أن تعاتبه بخصوص بعض الأمور الخاصة بعدم حضـوره لحفلة تخرجها في الجامعة، فرد عليها أنه كان غاضبا منها في تلك الفتـرة لأنها لم تَدعُه أصلا. كانت أيامه الأخيـرة بمنزلـة اعتذار بسيط عن كل ممارساته الأسرية الخاطئة، والتي لمّحت ليزا أنها قبلته بكل ما فيه من تفاصيل ظلّت عالقة في ذهنها طوال عمرها، حتى وصلت إلى الأربعين من عمرها