إن استخدام صاروخ «جو/جو» من نوع «سكاي فلاش» كجزء من أساسك المنزلي سيجعل قاعة استقبال بيتك مميزة.
لا تستغرب كثيراً من هذا الاقتراح، فهذا نموذج من نوعية المقالات التي تنشرها مجلة «How to Spend It» المخصصة للأثرياء والتي تتبع صحيفة The Financial Times البريطانية.
في تقرير مطول نشرته صحيفة The Guardian البريطانية، يكشف الصحافي والمؤرخ البريطاني آندي بيكيت العالم الخفي لهذه المجلة، التي تواصل تحقيق النجاح في وقت تعاني فيه الصحافة الورقية المطبوعة بشدة.
بدأت كدليل للعيش الجيد لدولة عظمى كانت تعيش في تقُّشف
يقول إندي في السابع من أكتوبر عام 1967، كانت صحيفة The Financial Times البريطانية الأكثر محافظة على الصعيد المهني في بريطانيا؛ بل وربما بالعالم كله. أضافت الجريدة صفحةً جديدةً دورية في عددها الصادر أيام السبت.
قدمت تلك الصفحة، التي أُخفيت بين طيات الصحيفة وخلف تشابكات المقالات التي تتحدث عن أسعار الأسهم والشركات والمعاشات، إلى القراء ما يمكن وصفه مجازاً بـ»دليل للعيش الجيد». وبحروفٍ صغيرةٍ أعلى الصفحة، فسرت الصحيفة ما يعنيه «العيش الجيد».
حملت الصفحةُ اسم «How to Spend It» («كيف تنفقه؟» في إشارة إلى المال). ولمّا كانت بريطانيا عام 1967 لا تزال تحيا في درجة من تقشفِ ما بعد الحرب، حيث الغالبية العظمى من القراء المزدهرين لصحيفة Financial Times، البالغ عددهم آنذاك 150 ألف قارئ، كانت فرص إنفاقهم محدودة. احتوت الصفحة الجديدة أحادية اللون ذات مرة على مقال عن تثبيت جهاز تدفئة مركزي منزلي، ثم في مرة أخرى مقال عن صانع قهوة كهربائي جديد ينطوي على قدر من الرفاهية، ومقال آخر عن كيفية اختيار وطبخ طائر التدرج: «اختاروا بحرص. الإناث تكون الأفضل دائماً».
وكان المقال الأكثر انتشاراً عن تقييم لفندق أسكتلندي عتيق الطراز، تملكه شركة British Trail المملوكة للدولة. وكتب مُعِد المقال: «يُستقبل الزوار بطقوس الاستقبال المعهودة بالكامل لدى الوصول إلى منزل ريفي. تدخل إلى بهوٍ ضخمٍ ولا يسجل أي شخص أي بيانات».
ولكن الآن صاروا أكثر هيمنة وأقل قيوداً
وبعد 51 عاماً، صار الأغنياء مختلفين للغاية. قد يكون من الصعب تخيل الأمر الآن، ولكن لفترة طويلة من القرن العشرين، كان هؤلاء مجموعة صغيرة نسبي؛ بل إنَّها كانت مجموعة محاصَرة: كان يُكبح جماحهم في بريطانيا والدول الغربية الأخرى عن طريق الضرائب المرتفعة، وتزايد القيم الاجتماعية التي تدعو إلى المساواة.
أما الآن، فقد صاروا صفوة دولية وأكثر هيمنة من أي وقت مضى: فيدفعون ضرائب بسيطة، ويؤدون أدواراً محوريةً على الصعيد السياسي، ويحظون بإعجاب بقدر النقد نفسه الموجَّه إليهم، إضافة إلى أنَّ أنماط حياتهم غير مقيدة بأي شخص آخر، لدرجة تجعلهم يحيون فيما يشبه «بلداً موازياً»، حسبما يصف الباحث الأميركي في شؤون الأثرياء، روبرت فرانك.
فهم يملكون نصف ثروات العالم، ونمط حياتهم لا تراه العيون
منذ عام 1980، تزايدت النسبة من الدخل القومي التي يحصل عليها أغنى 1% من البريطانيين والأميركيين إلى 3 أضعاف. وإذا نظرنا إلى هذه النسبة في جميع أنحاء العالم، فسنجد أنَّ 1% من سكان العالم يملكون نصف ثرواته كلها، وهي أعلى نسبة جرى الوصول إليها لما يقرب من قرن من الزمان.
أحياناً تكون هذه الحياة التي يحياها الصفوة واضحة وضوحاً عابراً أمام البقية منا؛ مثل السيارة التي يقودها سائق ينتظر خارج متجر كائن بمكان أنيق في لندن أو نيويورك.
إلا أنَّ أغلب جوانب حياتهم المترفة يكون غير ظاهر أمام أعيننا، مثل يخت مغالَى فيه بالبحر. لم تؤثر الأزمة المالية في عام 2008، والركود العالمي والتقشف اللذان أعقباها، في هذه الحياة -بل إنَّها تحسنت في الغالب، مع التدابير الطارئة مثل سياسة التيسير الكمي التي تفيد الأغنياء بقوة- في حين تبدلت معها حياة الجميع تقريباً.
صارت الكتب والمقالات التي تتحدث عن نسبة الـ1% تلك ضرباً رائجاً في مجال الكتابة. فضلاً عن أنَّ كثيراً من الصحف، وضمنها صحيفة The Guardian البريطانية
ذات النزعة الليبرالية اليسارية أصبح لديها الآن «مراسلون للأثرياء»، لينقلوا الأخبار والتقارير التي تتحدث عن تلك الشريحة.
فإذا كنت تريد معرفة طريقة حياتهم فعليك أن تقرأ «How to Spend It»
وحتى الآن، يكافح الصحافيون والأكاديميون في الغالب ليضعوا أيديهم على الطبقات السطحية الصلبة واللامعة لهذا العالم الخاص: مثل أحجام اليخوت، والعدد الوفير من الخدم. وإذا كنت تريد استيعاب الرغبات والمتع الكامنة -والضجر والتنافسية- لدى هؤلاء الـ1% من سكان الأرض، فسوف تحتاج إذن إلى أن تقرأ «How to Spend It». لم تعد تلك الصفحة الأصلية المسماة «How to Spend It» على حالها؛ بل توسعت لتصير مجلة كبيرة ولامعة وبأقسام متنوعة؛ إذ يقترب حجمها من حجم صحيفة صغيرة، وتُنشَر الآن 34 مرةً في السنة، وتوزع مع نسخ صحيفة Financial Times أيام الجمعة وفي العطلات الأسبوعية. يوجد أيضاً موقع إلكتروني مفصل ومحدث بصفة يومية، وعكس الموقع الرئيسي لصحيفة Financial Times، لا يحتاج لاشتراكات لقراءة محتواه.
فهي تساعدهم على أصعب قرار.. الاختيار
فوفقاً لمفهوم الرأسمالية الاستهلاكية، فإنَّ جودة حياة المرء تُقاس بما يشتريه، أو ما يرغب في شرائه. لكن الأثرياء مختلفون عن أي شخص آخر باستهلاكهم؛ لأنَّهم قادرون على الحصول على أي شيء تقريباً.
ويكمن التحدي أمامهم في الاختيار؛ إذ إنَّ الدور الرئيسي الذي لعبته عقوداً «How to Spend It» في هذه العملية جعلها أشبه بعدسة اجتماعية فريدة، يمكننا أن نرى من خلالها إلى أي مدى استُقطب العالم منذ عقدي الستينيات والسبعينيات اللذين اتسما بالمساواة.
يشكل كل من الموقع الإلكتروني والمجلة «بيئةً راقيةً وفاخرةً للقراء والمعلنين»، حسبما تقول المادة الترويجية لصحيفة Financial Times. وفي عالم «How to Spend It»، يكون «جمهور العالم المرغوب فيهم بأقصى درجة، وأصحاب أكبر قوة شرائية وأعلى صافي قيمة» موجَّهاً -نظرياً على الأقل- بحكمة من الصحافيين المخضرمين لصحيفة Financial Times نحو القرارات الشرائية الصحيحة.
تضم المجلة في المعتاد ما بين 80 و100 صفحة. ونصف تلك الصفحات تقريباً تكون إعلانات لكبرى العلامات التجارية الراقية والسلع الأكثر تميزاً، مثل القطع الفنية والممتلكات. في حين تضم الصفحات الأخرى زمرة من المقالات اللامعة -ولا يسهل دائماً التفريق بينها وبين الإعلانات- عن أغلى الأزياء، والرحلات، والأطعمة، والتصميمات الداخلية، والسلع الاستهلاكية الأخرى التي يمكن تخيلها.
وهكذا ستدخلك عالماً مغرياً.. وسخيفاً أحياناً
يقترح مقال طويل -نُشر حديثاً- على قرائه «القيام بجولة في إسبانيا بطائرة خاصة وفي وجود وفرة من أشهى أنواع الطعام»، لمدة 3 أيام، «تبدأ من 6.995 يورو (8.163 ألف دولار) للشخص الواحد».
تتحدث صفحةٌ أخرى، منظمة بأسلوب رائع واستثنائي، عن «قِطع الزينة» الموصى بها، «ساعة Chaumet Liens Lumière المرصعة بالذهب والألماس وعِرق اللؤلؤ على حزام من جلد التمساح»، يبلغ ثمنها 12.870 يورو (15 ألف دولار). مقال آخر نُشر عام 2012 عن الأثاث المنزلي، سلط الضوء على قطعة ديكور ذات صلة بعالم الطائرات والصواريخ، وهي عبارة عن صاروخ «جو-جو سكاي فلاش»، ذي لمعة مثالية ومثبَّت فوق قاعدة: «يمكن أن تقبع هذه القطعة في قاعة الاستقبال الخاصة بكم مقابل 29.500 يورو (34 ألف دولار)».
وتعني قراءة «How to Spend It»، استناداً إلى مستوى دخلك وموقفك من البذخ، دخولك عالماً مغرياً وسخيفاً، هارباً من الواقع أو خائفاً منه، وتعني أن تكون ذا إثارة يُحدثها اختلاس النظر إلى تلك الأشياء أو مُغاظاً ومغضَباً تماماً، وربما جميع هذه الأشياء في آن واحد. وأحياناً، تكون متباهية كلياً، مثلما يُعرض فصل معتاد ذو موضوع محدد في المجلة أو الموقع يتناول القوارب واليخوت، ويسمى Boats That Rock. تشير صحيفة Financial Times إلى أن 61% من قراء «How to Spend It» يكونون من الرجال، وأنَّ متوسط أعمار هؤلاء القراء هو 47 عاماً.
تَظهر مراراً وتكراراً، المنتجات التذكارية نفسها لهؤلاء الذكور الناجحين في منتصف أعمارهم: دراجات نارية كلاسيكية، أو سيارات سريعة، أو طائرات خاصة. وثمة صفحات وصفحات من الإعلانات لأرقى وأندر مجوهرات النساء.
ولكن من هم قراؤها الأجلاف؟ وما علاقتهم بالطائرات الخاصة؟!
ليس جميع قراء «How to Spend It» من الأثرياء، لكن أغلبهم كذلك، حسبما يقول تشينغ وانغ، الأستاذ في مدرسة «وارويك للأعمال» وخبير العادات الاستهلاكية لفاحشي الثراء. وتقول صحيفة Financial Times عن قرائها: «النصف أنفقوا، أو كانوا سينفقون، أكثر من 14 ألف دولار على الساعات المترفة». وتضيف: «1 من أصل 5 استخدموا، أو كانوا سوف يستخدمون، خدمة الطائرات الخاصة».
ويقول وانغ: «يمكن أن تكون How to Spend It معقدة، لكنها في نهاية المطاف تتعلق بالمكانة. فالعديد من قرائها من المصرفيين أو رجال الأعمال من الصين والهند، وهم أشخاص أجلاف إلى حد كبير.
إنهم يحبون صراحة ووضوح المجلة. فهم يلتقطونها وخلدهم يقول: أخبرني فقط بما أحتاجه». تقول أليس بيكثال، محللة الأبحاث بشركة Enders Analysis للبحوث الإعلامية: «لدى المجلة معدل توجيه هائل من أجل المعلنين»، أو تحويل الإعلانات إلى مبيعات.
وهكذا يستخدمونها في الشراء على أرض الواقع
ويقول صحافي سابق عمل لدى Financial Times: «يأخذ بعض القراء How to Spend It إلى متجرٍ، ويشيرون إلى صورةٍ فيها ويقولون: أريد هذه الساعة. إنَّها مثل كتالوج أرغوس (للمشتريات) بالنسبة للأغنياء».
تشكل العادات الاستهلاكية لهؤلاء الأغنياء أهمية متزايدة لنا جميعاً، فالقرارات الشرائية للأغنياء تُعتبر الآن قُوى اجتماعية واقتصادية.
توصَّل محلل لدى المصرف الاستثماري الأميركي Citigroup في عام 2005، إلى أنَّه كلما يزداد الأثرياء ثراءً بصورة تدريجية، فإنَّهم «يدخرون أقل وينفقون أكثر».
وعكس المستهلكين الآخرين، يستمر التقرير في توضيح أنَّ رغبة الأغنياء في اقتناء العديد من المنتجات، مثل ملابس المصممين، تتعاظم كلما كانت أغلى.
وأصبحوا يجعلون العالم أكثر انقساماً
تغيرت البلاد التي يتكتل فيها الأثرياء، مثل بريطانيا وكندا والولايات المتحدة، تغيراً جذرياً عن طريق هذا الشره الإنفاقي: فقد صارت مجتمعات «أفلاطونية ذات اقتصاد يقويه الأثرياء».
تمتلك المجتمعات الأفلاطونية مدناً أكثر هيمنة وعقماً عن أي قتٍ مضى، وتتصاعد فيها أسعار الممتلكات، وتسوء فيها حالة الفصل والتمييز الاجتماعي، وهي بيئات يتزايد التلوث فيها، فكلما سافر الـ1% أكثر وأكثر، واحتلوا مساحات أكثر وأكثر، زادت الظلال التي تلقيها أبراجهم على الجميع. والأكثر من هذا أن عالم المستهلكين الأغنياء، الذي يتزايد انفصاله عن بقية العالم، يبعث برسالة محضة على الانقسام، مفادها: إذا كان لديك المال الكافي، يمكنك الهروب من الواقع.
ومن بين العلامات الأخرى على هذه الصبغة الأفلاطونية، تزايد المؤسسات الراقية -من الجامعات، والمتاحف، والمنظمات الإعلامية- التي تعتمد على الأثرياء في الحصول على التمويل أو الدعم.
أما المجلة فلقد جعلت الصحيفة أكثر نفوذاً
صارت الصورة الحالية من صحيفة Financial Times أكثر عالمية ونفوذاً مما كانت عليه عندما أصدرت صفحة «How to Spend It» للمرة الأولى عام 1967.
إذ تُعتبر الآن إحدى أهم الصحف المرموقة في العالم. يعيش أقل من ثلث مشتركيها، البالغين 900 ألف مشترك، بالمملكة المتحدة. وفضلاً عن تقاريرها الصحافية الموثوقة في مجال الأعمال، صارت معروفة أكثر بتحقيقاتها ونبرتها الحضرية، وأبرزها في الشهور الأخيرة تلك التقارير التي تناولت التحرش الجنسي في برلمان المملكة المتحدة ونادي الرؤساء (الذي أُغلق الآن) بلندن، وتلك التي تناولت مزاعم تفيد بوجود حالات تنمر داخل عملاقة الإعلانات البريطانية «WPP».
ولا أحد يعلم إيراداتها ولكنها بالتأكيد كبيرة
بيد أن صحيفة Financial Times صارت أقل أمناً مما كانت عليه من نصف قرن؛ إذ تتراجع مبيعات نسخها المطبوعة، إضافة إلى أن إيراداتها الإعلانية من موقعها الإلكتروني متذبذبة.
وعام 2015، باعت دار نشر Pearson، مالك Financial Times منذ عام 1957، الصحيفة إلى شركة إعلامية يابانية تسمى Nikkei مقابل 844 مليون إسترليني. وفي عام 2016، وهو آخر عام أُتيحت حوله بيانات، حققت Financial Times كلها إجمالي أرباح قبل خصم الضرائب بلغت 6.2 مليون إسترليني من إجمالي إيرادات وصل إلى 311 مليون إسترليني، وهو نجاح أكيد لأي علامة تجارية إعلامية تقليدية، لكنه هامش ربح ضئيل وفقاً لمعايير الشركات.
لا يعلم أي شخص من خارج Financial Times حجم الإيرادات التي تحصل عليها الشركة من الإعلانات المنشورة في «How to Spend It». ومثل الصحف الأخرى، لا تنشر الصحيفة النتائج المالية لكل ملحق من ملحقاتها على حدة.
ولكن تظهر تلميحات دورية من جانب إدارة Financial Times. ففي عام 2001، قال أندرو غاورز، الذي كان رئيس التحرير آنذاك، إنَّ المجلة كانت «مُربحة من نسختها الأولى». وفي عام 2007، وصف جون ريدينغ، الرئيس التنفيذي الحالي للصحيفة، مجلة «How to Spend It» بأنَّها «محلق رائع» للجريدة.
وقالت جوليا كاريك، صاحبة الرؤية الخالصة بمجلة «How to Spend It»، وكانت ناشر المجلة حتى عام 2015: «بعض النسخ تجاوزت أرباحها بكثيرٍ مليون جنيه إسترليني (1.3 مليون دولار)». وفي ضوء معدل نشرها الحالي، يشير تقدير معتدل إلى أن الربح السنوي لمجلة «How to Spend It» قد يتجاوز 10 ملايين إسترليني (13 مليون دولار). وفي اجتماع حديث للمديرين التنفيذيين في Financial Times، عُقد لمناقشة المستقبل البعيد للصحيفة، ذُكر أن رئيس التحرير الحالي، ليونيل باربر، قال صراحة: «ما نحتاجه هو مجلة How to Spend It أخرى».
وضمن الإدارة العليا لصحيفة Financial Times، يستخدم أحياناً نوعاً من الرطانة التجارية الميلودرامية لوصف أهمية «How to Spend It» ومديرة تحريرها منذ عام 1998، جيليان دي بونو، من أجل استمرار الصحيفة بأكملها؛ إذ يقولون عنهما إنَّ لهما «مهمة حرجة».
حاكم عربي كان من قرائها، وهي تكشف أن الأثرياء أيضاً لهم مخاوفهم
فعكس ما يظهر في كثير من المجلات المترفة، يكون كل شيء تقريباً تغطيه المجلة باهظاً للغاية. وتحمل جميع المنتجات النوع نفسه من الصقل، واللمسة الأخيرة التي لا تشوبها شائبة، والبهرجة والكمال. فالتصميمات أنيقة على الدوام، وضيوف المقابلات يكونون مهندمي اللباس ولَبِقين في حديثهم. وكل شيء تحت السيطرة.
ونادراً وعلى نحوٍ غير بارع ما يجري الإشارة إلى فعاليات ذات صلة، وإن كانت مقلقة وغير ملائمة ولا تنتمي إلى هذه الفئة المختارة بعناية من نخبة العالم. جاء في مقال نُشر في مايو 2018: «بعد فترة طويلة من الركود والقمع وسنوات من القلق والانزعاج على المستوى المحلي، أصبحت زيمبابوي الآن واحدة من أكثر الأماكن الشائقة لرحلات السفاري في قارة إفريقيا».
ومثلما يقول أحد العاملين ضمن فريق المجلة: «تأذن جيليان لقرائها بأن يكونوا أثرياء ولا يشعرون بالذنب». ولعل نهج الهروب من الواقع جذب على الأقل قارئاً واحداً سيئ السمعة، ففي عام 2011، أشارت تقارير إلى أن نسخة «متهالكة» من مجلة «How to Spend It»، عُثر عليها في مجمع مبانٍ تعود ملكيته إلى الديكتاتور الليبي معمر القذافي.
وأحياناً تذكِّر زبائنها بأنهم يفتقرون إلى الذوق، فهناك آخرين أفقر ولكنهم أرقى
وعلى الرغم من كونها تعزز شعور الاستحقاق والجدارة لدى الأثرياء -وهو الشعور الذي ينتابهم بأنَّ العالم ملعبهم- تضطلع «How to Spend It» أيضاً بدور؛ لتذكيرهم بأنَّهم يفتقرون إلى الذوق في كثير من الأحيان؛ إذ إنَّ اسم المجلة، الذي يحمل فظاظة بارزة، يخبر الكثير عن ذلك.
يقول كاتب بريطاني بارز متخصص بموضوعات الأناقة والذوق الرفيع: «مقارنة بمن يتمتعون حقاً بحس الأناقة، والذين يكونون في الغالب أقل حظاً ويكتسبون تميزهم من خلال اضطرارهم إلى الاختيار بين المنتجات، ففاحشو الثراء جدياً غالباً ما يكونون متأخرين قليلاً في استيعاب (هذه الأذواق)». وفي عصر مليء بمظاهر الترف الهائل -بدءاً من الامتيازات الممنوحة لمصمم ذي جماهيرية في المتاجر، ووصولاً إلى تزايد متاجر المصممين في كل مدينة رئيسية على ما يبدو- كيف يمكن أن يقف الأثرياء أمام كل هذا؟
وتنصحهم بشراء أحذية مصنوعة من جلد الرنة التي نجت قبل 200 عام!
تنصح «How to Spend It»، في الغالب، قراءها بشراء سلع يدوية الصنع أو ذات الإصدارات المحدودة. لكن القدرة المطلوبة على تمييز هذه السلع لا يبدو أن لها نهاية أبداً في كثير من الأحيان. وفي عددٍ صادرٍ في مايو 2018، نصح البريطاني جيريمي هاكيت، وهو مصمم أزياء للرجال الأثرياء، بابتياع أحذيةِ مصنعٍ في لندن يُدعى George Cleverley، تبلغ أسعار أحذيته الموصى بها بدءاً من «3600 إسترليني (4692 دولاراً)».
وقال هاكيت: «طلبي الحالي هو بعض أحذية أوكسفورد باللونين الجملي والأبيض… صُنعت من رقعة من جلد أيائل الرنة التي أُنقذت من سفينة ميتا كاترينا، وهي سفينة شراعية بلغ وزنها 53 طناً وغرقت قبالة السواحل الجنوبية الإنكليزية خلال رحلتها البحرية من سانت بطرسبرغ إلى جنوة عام 1786.
جرى صبغ الجلود باللون الجملي في سانت بطرسبرغ عن طريق فنانين ظلت التقنيات التي استخدموها أسراراً قروناً…». وعكس أثرياء العصور المذهبة السابقة، أغلب أثرياء عصرنا الحالي حققوا ثروتهم بأنفسهم.
والعديد منهم مدمنون العمل، حسب تشينغ وانغ. ويضيف: «هم يفتقرون إلى الوقت، ويحتاجون إلى إرضاء فوري.. يريدون الاسترخاء أيضاً».
وطالما كانت هذه هي المهمة المربحة؛ بل والشاقة لـ»How to Spend It» من أجل تلبية هذه الاحتياجات المتناقضة.
نشأتها جاءت نتيجة علاقة غرامية لرئيس التحرير، وحتى اسمها تعرض للانتقاد
بدأت «How to Spend It» عملها على أنَّها مؤسسة أكثر تحرراً من أي مصادر للقلق، فكانت نتاجاً لخطاب أرسلته إحدى قراء المجلة وكذلك لعلاقة غرامية خارج إطار الزواج لرئيس التحرير.
ففي عام 1958، كتبت شيلا بلاك، وهي ممثلة بارعة سابقاً كانت متزوجة برئيس تحرير صحيفة شعبية، إلى رئيس تحرير Financial Times آنذاك، وهو السير غوردون نيوتن، المعروف بوقاره، لتشكو من أن صحيفته المتخصصة في الأعمال -في إشارة إلى Financial Times- نادراً ما تكتب بالواقع عن السلع الاستهلاكية.
استجاب نيوتن من خلال تعيينها. وصارت أول صحافية أنثى في Financial Times، وأول صحافية استهلاكية، وحبيبة نيوتن. يمكن أن تكون صحيفة Financial Times مكاناً محافظاً، واستغرق الأمر 9 أعوام من العمل الذي اضطلعت به شيلا كي تظهر صفحة «How to Spend It» رسمياً.
مُنحت هي، إضافة إلى فريق عمل صغير، مكتباً خاصاً، حيث كان نيوتن «يذهب إليه في المساء ليتشارك مع بلاك احتساء الجن والتونيك. كان أفراد الفريق الآخرون يفهمون التلميح ويغادرون»، حسبما ذكر نعي شيلا الذي نشرته صحيفة Financial Times عقب وفاتها في 2007.
تقاعد نيوتن في عام 1972، وغادرت شيلا الصحيفة معه. ولـ25 عاماً تالية، ظلت «How to Spend It» جزءاً متواضعاً من Financial Times، فكانت في أفضل الأحوال تمتد لصفحتين، وتحتوي على مقالات مبهجة عن صنادل النساء، أو جمع الطيور الخشبية المنحوتة، وكانت أحياناً جزءاً من قسم الصحيفة الأقل رعاية وتفضيلاً المسمى «Diversions» (ترفيه وتسلية).
استغرق التزمت بين قراء الصحيفة وقتاً طويلاً حتى يزول؛ بل إنَّ بعضهم في عام اعترض على تسمية «How to Spend It». وفي عام 1982، ونظراً إلى أنَّ بريطانيا كانت تنهض بتخبط من حالة ركود عميقة، كتب قارئٌ شكوى، جاء فيها أنَّ الاسم كان «غير ملائم لعصرنا، ومبتذلاً ومهيناً». تتذكر لوسيا فان دير بوست، مديرة تحرير «How to Spend It» التي خلفت بلاك: «جلست هناك أرتعد خوفاً من هذا النقد. لكني قررت أن أنشر الخطاب على صفحاتي، وأترك القراء يقررون بشأن الاسم، وسيفوز صاحب أفضل إجابة بصندوق شمبانيا». وفِي النهاية، احتفظ القسم باسمه.
وبنظّارة يشتبه في أنها ملائمة للمافيا بدأت الانطلاقة
في منتصف الثمانينيات، بدأت بتغطيتها الصحافية في تناول المنتجات الأكثر ترفاً. إلا أنها همَّت بذلك بدرجة من الحذر والسخرية. وخُصَّص مقال في عام 1985، للحديث عن نظارة شمسية لعلامة تجارية معروفة، وطمأن القراء بأنَّها «لم تعد لزعماء المافيا»؛ بل إنَّها «إكسسوارٌ مقبول للرجال المحترمين». ووصف مقال نُشر عام 1990 بيانو ضخماً وعتيقاً بأنَّه «استثمارٌ معقول».
كانت لوسيا ابنة المستكشف لورينس فان دير بوست، وهو أيضاً أحد الداعين إلى حماية البيئة، والمعروف باحتفائه بحياة الزهد التي عاشها شعب بوشمن الإفريقي.
يبدو التناقض بارزاً بين سلوكيات الأب والابنة تجاه الممتلكات، ومُفسَّراً عبر التحول إلى عالم أكثر مادية داخل عائلة واحدة. لكنها كتبت بحماسة مُعدٍ عن الأشياء التي تهمها، حسبما أخبرتني، وحظيت بطائفة من القراء.
وفي غضون ذلك، كانت السوق المحتملة للصحافة المتخصصة في موضوعات الرفاهية والترف تأخذ في التغير.
كما أن مارغريت تاتشر وفَّرت لها الزبائن
في أغلب أوقات القرن العشرين، بدءاً من الحرب العالمية الأولى وحتى الثمانينيات، كانت النسبة من الدخل القومي التي تحصل عليها هذه الزمرة، التي تشكل 1% من سكان بريطانيا والبلاد الغنية الأخرى، تتراجع تقريباً تراجعاً مستمراً.
ولكن مع انتخاب قادة الجناح اليميني المتطرف مثل مارغريت ثاتشر في عام 1979 ورونالد ريغان عام 1980، حسب وصف التقرير، والتحول نحو اتجاه عالمي من اقتصادات على شاكلة «الفائز يكسب كل شيء»، سار هذا التراجع في الاتجاه المعاكس.
كانت البداية بطيئة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، في ظل حالات الركود الاعتيادية فيهما، ثم ازدادت سرعته بدءاً من منتصف عقد التسعينيات، وتضاعف المنضمون إلى 1% وصاروا أكثر ثراءً.
ففي الولايات المتحدة، حصل هؤلاء على نحو عُشر الدخل القومي في عام 1980، ونحو السُدس في عام 1995، وما يقرب من الخُمس في عام 1999. وزاد الطلب على السلع الاعتبارية، وارتفعت أسعارها ارتفاعاً حاداً. ومنذ عام 1982، كانت مجلة الأعمال الأميركية Forbes تتعقب تكلفة الأشياء الأربعين نفسها «فائقة الفخامة»، مثل الكافيار وملاعب التنس، لتؤسس ما تُطلق عليه «Cost of Living Extremely Well Index» (مؤشر تكاليف العيش حياة جيدة للغاية). تضاعف هذا المؤشر تقريباً بنفس سرعة ارتفاع تكاليف السلع الاستهلاكية في المجمل.
وصناع العلامات المترفة دعموا تحولها إلى مجلة
وخلال التسعينيات، بدأ صناع المنتجات المترفة بالاندماج في تكتلات طموحة، مثل مجموعة «مويت هنسي لوي فيتون-Moët Hennessy Louis Vuitton». وكانت هناك مجموعة قليلة نسبياً من المجلات التي تعرض حصرياً منتجات الأسواق الراقية لتعلنها من أجلهم: وفي الغالب، كانت هذه مجلات شهرية مثل مجلتي Tatler وVogue. وفي أوائل التسعينيات، كانت الصحافية المخضرمة الداهية التي تعمل لدى صحيفة Financial Times، جوليا كاريك، تشرف على الجانب التجاري لـ»How to Spend It»، ووجدت مَنفذاً جديداً لتحقيق الأرباح.
إذ تقول لكاتب التقرير: «عرفت أنَّ قراء Financial Times، الذين كان لديهم بكل وضوحٍ دخل لإنفاقه، لم يكونوا يقرأون المجلات». وكان أغلب قراء Financial Times آنذاك، مثلما هو الحال الآن، من الرجال. وأضافت: «ذهبت كي أرى العلامات التجارية (الراقية)، وجعلتهم يدعمونني».
في عام 1994، أقنعت جوليا إدارة Financial Times بأنْ تُحوّل «How to Spend It» إلى مجلة. كان الغلاف الافتتاحي للعدد الأول من المجلة بياناً رسمياً من لوسيا، التي بدت متحررة فجأة، وجاء فيه: «مجتمع… ضجر من الكآبة… على أتم الاستعداد لشيء جديد.
ومع تخلصنا من أسوأ ما جاء به الركود وراء ظهورنا، ووجود شعور جديد بالتفاؤل في النسيم، حان الوقت لنرتدي الملابس مرة أخرى، وأن نتفنن… (من أجل) سحر ذي ذوق جديد».
احتوى العدد على مقال عن الملابس الرسمية للرجال؛ وهو عبارة عن إعلان لشركة Ralph Lauren للملابس، و»ساعة ذهبية رياضية عيار 18″ من إنتاج TAG Heuer، وصورة جديدة لعارضة الأزياء الأسكتلندية الأرستقراطية، هونر فريزر، وهي ترتدي معطفاً مخملياً ناعماً من تصميم إمبوريو أرماني.
ولكنها عرضت منتجات بريطانية متوارثة وغير محببة
أصرت جوليا على أن يكون ورق المجلة عالي الجودة؛ لجلب معلني المنتجات المترفة، ولكن كان هناك نقصٌ في الورق على مستوى البلاد؛ لذا كان يجب استعارته من مجلة أخرى.
كانت قبل ذلك أغلب الملابس المصورة على صفحات المجلة من العلامات التجارية البريطانية المتوارثة وغير المحببة قليلاً، وأغلب البضائع في المجلة كانت تكلف مئات وليس آلاف الجنيهات. حتى إنه كان هناك إعلان عن السيارة الرياضية البريطانية المتواضعة التي يجري إنتاجها بالجملة Vauxhall Tigra مقابل مبلغ زهيد قُدر بـ10.995 جنيه إسترليني (14 ألف دولار). لم يكن الـ1% بدرجة الثراء نفسها التي أصبحوا عليها، ولم تكن «How to Spend It» قد صارت بعدُ تُشكِّل قائمة المشتريات الخاصة بهم.
إلى أن جاءت هذه الصحافية الشعبوية
كان من جعل هذه المجلة بهذا الشكل، مديرة التحرير الحالية جيليان دي بونو. انضمت جيليان إلى الصحيفة عام 1994 كي تساعد لوسيا، التي لم تكن مديرة تحرير متمرسة، في إدارة «How to Spend It». كانت جيليان في الأربعينيات من عمرها، وكانت مديرة تحرير مجلات نسائية ودوريات استهلاكية.
كانت سيرتها الذاتية شعبوية أكثر من كونها نخبوية، ولكنها حظيت بسمعة بكونها تتقن عملها وبأنَّ لديها طاقة غير محدودة. وفي عام 1998، عادت لوسيا للتفرغ تماماً للكتابة، وخلفتها جيليان لتصبح مديرة التحرير. على مدى الأعوام العشرين التالية، عندما أصبح الأثرياء أكثر ثراءً، صارت «How to Spend It» أكثر نجاحاً وثقة بمساعيها، لتضيف على نحو ثابت مزيداً من الصفحات إلى المجلة ومزيداً من الأعداد في كل عام.
ولَم تتراجع المبيعات خلال أزمة 2008 فهناك عدد كاف من الأثرياء
وحتى خلال التراجع الصادم المشهود في الأزمة العالمية عام 2008، عندما امتلأت صفحات الرأي في Financial Times بتحذيرات صارمة من الرأسمالية الحديثة وبنبرة تلقي باللوم عليها وعلى نخبتها المتهورة، لم تنفذ المجلة إلا «تغييرات قليلة جداً»، حسبما أخبرت جيليان موقع Fashionista عام 2014. إذ قالت: «إذا كنت ثرياً وفقدت 20% من ثروتك، فلن يوقفك هذا عن تناول الطعام في أفضل المطاعم وقضاء العطلات وابتياع ساعة جديدة».
وفي عام 2009، أي خلال الركود الذي تسببت فيه الأزمة المالية، دشنت مجلة «How to Spend It» موقعها الإلكتروني. وقالت جيليان بكل صراحة: «لا يزال يوجد عدد ضخم من الأثرياء في أنحاء العالم لا يقرأون How to Spend It». كان أحد أروع الأشياء التي تُنشر في المجلة بصورة دورية، لكنه كان صارخاً في الوقت ذاته، نظرة قريبة إلى رغبات الأفراد، معنونة بـ»The Aesthete-محبو ومتذوقو الجمال».
وحسبما يشير اسمها، كانت الصفحة معنيَّة بالذوق أكثر من السعر، وهي فرصة لإبراز التذوق الفني. إلا أنَّ الأثرياء والمنتجات المكلفة كانت مسيطرة.
وأسهمت في تشكيل أسطورة لندن الجديدة
وفِي عام 2012، عندما كانت بريطانيا تتحمل السياسات التقشفية لوزير المالية آنذاك جورج أوزبورن، نشرت الصفحة لقاءً مع والد أوزبورن، المستشار المحافظ السير بيتر أوزبورن. كشف الأب أنَّه كان يضع عينيه على مكتب «رائع» يبلغ سعره 19 ألف جنيه إسترليني (25 ألف دولار)، وأنَّ صديقاً إيطاليّاً «أقرضه فيلا» مؤخراً موجودة على جزيرة الموستيك الأنيقة الموجودة في البحر الكاريبي.
ومثلها مثل العديد من الأغنياء أنفسهم، قضت صفحات مجلة «How to Spend It» العقد المضطرب التالي للأزمة المالية في حالة اتزان مريح، على أقل تقدير. يقول عضو سابق بفريق عمل المجلة: «لم يتغير التصميم منذ 10 سنوات».
لا تزال المقالات بادية للعيان وواضحة أمام أعين القراء، وبأعمدة فخمة، ولا تزال الصور الضخمة للمنتجات مرتبة بعناية ويحدّها اللون الأبيض من جميع الجوانب، كما لو أنَّها ضمن كتالوغ أنيق على نحو غير اعتيادي.
أما الصور القليلة التي تُعرض تكون في الغالب لمنتجي الأغراض المهنيين، وهم مصطفّون وتعلو وجوههم ابتسامةٌ بطريقة تعرض شخصياتهم المميزة، كما لو أنّهم مجموعة من الخدم الذين يحظون بثقة كبيرة، في أملاك ريفية مثالية. بطريقة ما، يبدو هذا التوجه المحافظ تحديداً ما يجعل «How to Spend It» جاذبة للقراء الدوليين المتجولين الذين تزدحم حياتهم العملية على الدوام.
ينطبق الأمر نفسه على ارتباطها بصحيفة Financial Times المستقرة والوقورة، وبنسخة محددة من إنكلترا؛ باعتبارها مكاناً لابتياع بندقية صيد يدوية الصنع أو بدلة جيدة الصنع. قدمت لندن على وجه الخصوص نفسها بطريقة فعالة للغاية منذ التسعينيات على أنَّها أرض للبهجة تتسم بالتحضر وقليل من الرجعية من أجل أثرياء العالم، وساعدت «How to Spend It» على صقل هذه الأسطورة.
ولكنَّ صحافيّيها يشعرون أحياناً بالإحراج من عملهم
وإنَّ كانت هناك أخلاقيات لمجلة «How to Spend It»، فجيليان صارت ترى نفسها الوصية عليها خلال مدة رئاسة تحريرها للمجلة التي وصلت لـ20 عاماً.
وإذا واجهت عملاً تعتبره غير كافٍ وغير مناسب، فإنَّها سوف تقول: «إنها How to Spend It (أي كيف تنفقه). وليس كيف نفعله (بالتفصيل)». جيليان هي امرأة صغيرة الحجم في العقد السابع من عمرها ذات مظهر رسمي وقَصة شَعر مائلة مثالية، نادراً ما تتوقف عن العمل.
في عام 2014، تحدثت إلى موقع Politico عن إعداد العدد المخصص للذكرى الـ20 لتأسيس المجلة، حيث عُرضت جميع المنتجات التي وردت بالمجلة في نهاية المطاف بمزاد خيري، قائلة: «استهلكني ليلاً ونهاراً 9 أشهر». قالت جوليا: «تعمل بكدٍّ للغاية».
في حين قال أحد أعضاء فريق المجلة: «عندما تحصل جيليان على عطلة، تنظر إلى كل صفحة منقحة على أريكة التشمس الخاصة بها، وعلى حاسوبها المكتبي، ثم على هاتفها حال حدوث تغييرات».
تُشعرك مكاتب «How to Spend It» بأنَّها مختلفة عن بقية بناية Financial Times في وسط لندن؛ إذ إنَّ باقي الدور مكتب مفتوح، إلا أنَّ المساحة المخصصة لـ»How to Spend It» -عبارة عن درزينة مكاتب، ومكتب في الزاوية مخصص لجيليان- تقع خلف جدار زجاجي. يبدو المناخ العام هادئاً ومبجلاً: توضع الجوائز التي فازت بها المجلة والموقع داخل خزانة.
ويكون طاقم العمل في الغالب من الصحافيين المتمرسين، رجال ونساء بأعمار مختلفة، يعملون طوال اليوم وفقاً لإيقاع إنتاج أسبوعي جرى الحفاظ عليه بصرامة لسنين. لا يشعر بالإحراج من المواد التي يعملون عليها سوى القليل من هؤلاء.
يسأل أحدهم سؤالاً بليغاً: «مقال من 3000 كلمة عن عطر.. من سيقرأ ذلك؟!»، إلا أنَّهم داخل المكتب يحتفظون بمثل هذه الأفكار لأنفسهم. يقول آخر: «اهتمَّ بشؤونك الخاصة، وافعل ما يُطلب منك.. تلك هي الثقافة».
ولكن كان هناك شكوى أكثر خطورة تقدموا بها تكون دائماً منضبطة للغاية
ليست خدمة الأغنياء في المعتاد لذوي القلوب الضعيفة؛ إذ إنَّ الصناعات التي تلبي أذواقهم المنمقة تكون دائماً منضبطة للغاية من القمة إلى القاعدة: فالأثرياء يتوقعون الأفضل، وهم ليسوا مدققين في التسلسلات الهرمية. وليست مجلات الرفاهية استثناءً من هذه القاعدة، ففي الغالب يعمل فريق «How to Spend It» من أجل الآخرين.
إلا أنَّ الشكاوى من ثقافة العمل في «How to Spend It» أثارت أزمة مؤخراً في واحدة من أصول Financial Times الأكثر تحقيقاً للربح. ففي نوفمبر 2018، تقدَّم 18 عضواً، حاليين وسابقين، من العاملين بالمجلة بشكوى رسمية بموجب إجراء الإبلاغ عن الشكاوى المتبع في Financial Times، الذي يسمح بتقديم المزاعم الخطيرة ضد المديرين دون ذكر الاسم. ونتيجة لهذا، أجرت الصحيفة تحقيقاً داخلياً في مزاعم تنمُّر ضد جيليان، تعود إلى أكثر من عقد مضى.
جمع قسم الموارد البشرية في Financial Times الشهادات من العاملين (يعمل بعضهم في أقسام أخرى داخل Financial Times)، وجمع ملفاً يتكون من أكثر من 40 صفحة. وبعد 7 أشهر، تحديداً في السابع من يونيو/حزيران 2018، كتبت وسائل الإعلام في النهاية عن التحقيق. لكن لم يُعلَن عن نتائجه. وفقاً لملخص التقرير الذي كتبه مدير قسم الموارد البشرية في الصحيفة، وصف التحقيق «أسلوب إدارة» جيليان بأنَّه «غير منظم، وفي أسوأ حالاته، إملائي واستبدادي… وغير صبور (حسب اعترافها)». وجاء في ملخص التقرير، أنَّه كان هناك «تصور داخل الفريق بأنَّ أفراداً محددين (تستهدفهم) دي بونو».
لكنه لم يجد «دليلاً كافياً على وجود تاريخ من التحرش أو التنمر»، وأورد «أمثلة تبرهن على التفكير العميق لجيليان، واستيعاب أفراد فريقها والتعاطف معهم؛ بل وبين هؤلاء الذين يتهمونها». واستنتج الملخص أن «الشكاوى الفردية ضدها لا يُعتد بها».
والشكاوى ما زالت مستمرة ولكنها تبدو ساذجة
لم يُرضِ هذا الحكم العديد ممن كانوا جزءاً من التحقيق. وشعروا بأنَّه لن يكون مستقلاً أو شاملاً بما يكفي، وأنَّ الصحيفة تحمي واحدة من نجوم مديري التحرير لديها. يقول واحد من هؤلاء: «الناس في How to Spend It غاضبون».
يدعم الاتحاد الوطني للصحافيين هذه الشكاوى. وفي 20 يونيو 2018، مررت مجموعة العاملين فيه التماساً ينتقد التحقيق ويتعهد بـ»دعم المبلغين إذا قرروا اتخاذ مزيد من الإجراءات».
على مدى الشهور الأخيرة، يقول كاتب التقرير إنه خاض أحاديث مطولة مع أعضاء حاليين وسابقين في المجلة. لم يرِد أي منهم أن يُعلن اسمه، أو أن يُبلغ عن شكاواه تفصيلاً؛ خوفاً من تحديد هويته؛ نظراً إلى أنَّ عالم صحافة الموضوعات المتخصصة في الرفاهية والترف هو عالم صغير. لكن شكواهم ساذجة.
أخبرني أحدهم: «مع جيليان، تكون المسألة لفظية دائماً. أحياناً تفعلها وجهاً لوجه في مكتبها وباب مكتبها مغلق. وأحياناً أخرى تنفجر فيك أمام الجميع». يقول عضو سابق بالفريق: «إذا تخطيتها، أو لم تكن مفضَّلاً لديها، لأي سبب من الأسباب، فكل الأشياء التي تفعلها تكون خاطئة».
وقال آخر: «أصبح الناس كالأشباح. لقد رأيت 15 أو 20 شخصاً يبكون بالدموع. ورأيت كثيراً منهم يجلسون فقط على العتبات (خارج بناية Financial Times) بعد العمل». رفضت جيليان وليونيل إجراء مقابلات صحافية من أجل هذا المقال.
إلا أن متحدثاً باسم Financial Times قال: «يمكننا تأكيد أنَّ شكاوى بشأن إدارة How to Spend It قُدمت في العام الماضي (2017). وجرى التحقيق في هذه (الشكاوى) عبر عملية داخلية مهنية صارمة. لم يُعتد بالشكاوى. غير أننا نبحث بفاعلية عن طرق لتقديم دعم أفضل للنمو المتسارع للمجلة».
والمشكلة أن النجاح جاء من هذه الصرامة
مصدرٌ آخر في الصحيفة نفسها أوضح وأصدق: «نحاول أن نجعل ثقافة How to Spend It أقرب إلى ثقافة باقي الصحيفة؛ كي نطور علاقات الموظفين. جيليان امرأة صارمة.
وذلك الشيء اللعين لم يكن لينجح إن لم تكن كذلك. إلا أنَّها ليست الشخص الأسهل مراساً». لا تزال المجلة ومديرة تحريرها تمثلان «مهمة حرجة» لصحيفة Financial Times. في السابع من يونيو 2018، كان ليونيل (رئيس تحرير الصحيفة) هو الشخص الذي عرض نتائج التحقيق على فريق عمل «How to Spend It». وقال أحد العاملين في Financial Times: «سار ليونيل إلى مكاتب How to Spend It، ووقف بجانب جيليان تماماً، وقال: (تعملون لصالح مجلة عظيمة. وجيليان مديرة تحرير من طراز عالمي. لكنه كان وقتاً عصيباً على الجميع. سوف نطبق تغييرات. ثم نرغب في وضع خط للسير عليه)». ثم سأل بعض الأسئلة، ولكن كان هناك صمت مطبق».
والبعض حاول تقليدها فهذا المجال هو الساحة الناجية من الصحافة المطبوعة
حاولت الصحف الأخرى أن تنسخ المعادلة الخاصة بـ»How to Spend It». لم تكن أسماء بعض المجلات والمواقع المنافسة مثل مجلة Luxx التابعة لصحيفة The Times وLuxury التابعة لصحيفة Daily Telegraph، على درجة البراعة نفسها التي عليها مجلة Financial Times، لكن المحتوى والشكل لم يسهل دائماً معرفتهما بعيداً عن المجلة الأصلية.
وفي الوقت الحالي، يوجد عدد كافٍ من المعلنين؛ إذ إنَّ المجلات المتخصصة في موضوعات الرفاهية، التي يبتاعها كثير من الأشخاص؛ لكونها علامات مفيدة دالة على المكانة الاجتماعية، وخالية من الفوضى المنتشرة في الإنترنت، هي واحدة من المساحات المزدهرة المتبقية من الصحافة المطبوعة. لكن المليونيرات الحمقى، الذين يسعون وراء نصيحة لعلامة تجارية لبيع القمصان، يمكنهم الآن التسوق للحصول عليها. في غضون ذلك، يتطور نهج مختلف لصحافة موضوعات الرفاهية؛ وهو نهج يقترح أنَّ الحياة الجيدة تتطلب تجارب ومنتجات انتقائية، وليس فقط منتجات باهظة.
ولكن أذواق الأثرياء بدأت تتغير
يمكنك العثور على نهج أقل لمعاناً في مجلة T التي تنشرها صحيفة The New York Times، ومجلة 1843 (التي كانت من قبل تعرف بـIntelligent Life) المتفرعة من مجلة The Economist، ومجلة Monocle التي كتب مؤسسها تايلر برولي عموداً لصحيفة Financial Times، حتى جرى التقدم بشكوى ضده في العام الماضي (2017)، تقول إنَّه استخدم العمود ليذكر عملاء وكالته الإبداعية.
في هذه المجلات، تظهر التوصيات المقدمة إلى مستهلكي الأشياء الفخمة جنباً إلى جنب مع مقالات عن طعام الشوارع الآسيوي والمواصلات الإسكندنافية العامة، والمقالات الأخرى التي تتناول السياسات والاتجاهات الاجتماعية.
ويعتقد بعض المحللين أنَّ هذا المزيج أكثر تناسقاً مع أذواق الأثرياء من جيل الألفية، أولئك الزمرة المستقبلية التي ستشكل الـ1%. تقول كارولين بوركارت، المستشارة في شركة Scorpio Partnership، وهي شركة استشارية تدرس أنماط حياة الأثرياء وتقدم نصائح لهم: «تختلف فكرة الرفاهية لأي شخص يبلغ من العمر 30 عاماً، اختلافاً كبيراً عن الفكرة لدى أي شخص يبلغ من العمر 50 عاماً».
وفي عام 2017، توصل استبيان دوري عن سوق السلع الراقية، أجراه مستشارو الإدارة في شركة Bain & Company، إلى أنَّ «حالة عقلية لجيل الألفية» كانت «تغيّر عادات الشراء»، مما يجبر الشركات على التركيز على مزيد من المنتجات التي كانت راقية وفي الوقت ذاته شعبية، مثل الأحذية الرياضية التي تنتجها العلامات التجارية الفخمة ويكون مظهرها بالياً.
وبالفعل، تكتب «How to Spend It» مقالات عن الأحذية الرياضية، ولكنها تفضل أن تكتب عن الأحذية التي ترسل إشارات موثوقة على الثراء، مثل أحذية Brogue.
وأحياناً تنشر منتجات بأسعار معقولة، ولكن فتِّش في خلفيتها
تنشر «How to Spend It» أيضاً في بعض المناسبات، منتجات بأسعار معقولة لها استخدام يومي على ما يبدو. ففي عددها الأخير، نصح المصمم الدنماركي أويفيند سلاتو بتجربة عصيدة مطعم في كوبنهاغن. إلا أنَّ الحاجة إلى الإدهاش والإبهار تكمن دائماً في الخلفية؛ إذ إنَّ صاحب المطعم، الذي يشير إليه سلاتو، قد أصبح مثل نجوم الروك؛ فهو يقدم عروضاً تتعلق بإعداد العصيدة في المهرجانات الموسيقية.
لا تتوقف «How to Spend It» عن إدراكها أهمية المكانة، فمع كل الترفيه الذي تصوره في صفحاتها، توحي المجلة بأنَّ الثراء عملٌ شاق.
وما قد يكون صادماً بالنسبة للمجلة أن الأثرياء أصبحوا أكثر حكمة
لكن هذا النوع من التجارب الذي تقدمه المجلة ربما لم يعد ما يرغب فيه الأثرياء. إذ يمكن الوصول إلى مؤشر أكثر أهمية عن التغيير في طريقة تفكيرهم بكتاب The Sum of Small Things، وهو كتاب ذو إشارات واضحة عن الأثرياء نشرته في العام الماضي (2017) إليزابيث كوريد-هالكيت، وهي أكاديمية أميركية تجري أبحاثاً في أغنى مدن الغرب.
وتجادل كوريد-هولكيت بأنَّ الأثرياء في الأعوام الأخيرة بدأوا «الإنفاق بقدرٍ أقل على الاستهلاك الواضح وإنفاق الكثير على الاستهلاك غير الواضح، مثل: التعليم، والرعاية الصحية، والتقاعد، والتأمين الشخصي».
إنَّهم يبتاعون الأمان والمكانة النخبوية طويلة المدى، التي تكون في أوقات الخطر أكثر قيمة من الهروب من الواقع أو المتعة. وتابعت الكاتبة: «المجموعات صاحبة أعلى الدخول لا تحيا حياة جيدة في الحاضر وحسب؛ بل إنَّها تتأكد من أنَّ هذا المستوى سوف يبقى في المستقبل ومن أجل أفراد العائلة»؛ كي يتأكدوا من أن جيلاً آخر سوف يملك ثروة تتجاوز المعرفة التي لديه حول ما يفعله بهذه الثروة. وتمثل هذه أخباراً جيدة إذا كنتم ممن يعملون في مجال أخبار الأثرياء «كيف ينفقون المال»، أو بالأحرى: «How to Spend It».