أثار قرار النائب العام المصري بإحالة مكرم محمد أحمد، رئيس المجلس الأعلى للإعلام، للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة، على خلفية قرار الأخير بحظر النشر في موضوع مستشفى الأطفال 57357، العديد من علامات الاستفهام في مصر. بين من يرى أن القرار يأتي على خلفية صراع أجهزة، ومن يجزم بأن الدولة أرادت الخلاص من رجلها المثير للجدل، ومن يشير إلى أن الموضوع لا يعدو كونه «راجل كبر وخرف». اختلفت التفسيرات وتباينت الرؤى، لكن يبقى أننا أمام قرار غير مسبوق في مصر، بإحالة المسؤول الأول عن الإعلام إلى النائب العام، على خلفية قرار اتخذه بحظر النشر.
بداية الأزمة
بدأت القصة عندما نشر الكاتب المعروف وحيد حامد، سلسلة مقالات في صحيفة المصري اليوم، بدأها بعنوان «الأسئلة العشرة الحائرة فى مستشفى الأطفال الحزين». ووجَّه فيها اتهامات واضحة لمدير المستشفى شريف أبوالنجا، بالفساد وإهدار أموال التبرعات الموجَّهة خصيصاً لدعم الأطفال مرضى السرطان، فضلاً عن كونه حوَّل مستشفى 57357 إلى «عزبة خاصة له ولأسرته»، على حد تعبير الكاتب. لكن البداية الفعلية لم تكن من خلال وحيد حامد، فأول من كتب عن هذا الموضوع ونشر وثائق تؤكد موقفه تجاه مستشفى سرطان الأطفال، كان الصحافي أسامة داوود، الذي أجرى عدة تحقيقات في موقع «فيتو» في يونيو/حزيران 2018، تتحدث عن المستشفى ومخالفاته المالية وشبهات الفساد حوله.
وحيد حامد
هذه المعلومات والوثائق المرفقة هي ما استخدمه وحيد حامد بعد ذلك كنواة صلبة لحملته، التي لم تقف عند مدير المستشفى، بل اتسعت لتشمل طارق نور، صاحب إحدى أهم شركات الدعاية والإعلان في مصر، ومالك محطة القاهرة والناس. كما شملت الحملة الإعلامي محمد فتحي، الذي انبرى للدفاع عن المستشفى، قبل أن يكشف وحيد حامد عن تقاضي الرجل 5 ملايين جنيه نظير كتابة مسلسل شارك في إنتاجه المستشفى.
لماذا الآن؟
والسؤال هنا: أسامة داوود -كما أسلفنا- تحدَّث عن هذا الموضوع منذ مدة، فلماذا التقطه الآن وحيد حامد، الكاتب المحسوب على النظام، ومؤلف مسلسل «الجماعة» المنتقد للإخوان المسلمين، لماذا قرر حامد فتح تلك المعركة اليوم؟ وهل ذلك تم برضا الأجهزة الأمنية المحسوب عليها الرجل أم أنه تحرَّك من تلقاء نفسه؟ أحد رؤساء التحرير المعروف عنه قربه من دوائر السلطة، تحدَّث إلينا شريطة عدم ذكر اسمه، قائلاً إن وحيد حامد لا يمكنه أن يتحرك من نفسه، خصوصاً أن «شريف أبوالنجا ليس من السهل الهجوم عليه دون وجود ظهر لك». وأضاف: «معلوماتي أن حامد تحرَّك بناء على تعليمات (كررها مرتين) من المخابرات، ومعلوماتي أيضاً أن الأجهزة السيادية بدأت تتململ من كمّ الأموال التي يجمعها ذلك المستشفى، ومَن على شاكلته، دون رقيب أو حسيب». وأوضح أن الأمن المصري لا يسمح لأحد بفتح قنوات اتصال مالية ضخمة مع الناس -يقصد التبرعات- دون أن يتم ذلك بمعرفتها «وهو ما تناساه شريف أبوالنجا مع مرور الوقت»، على حد تعبيره. وقال إن أبوالنجا وصل من الثروة والنفوذ ما يجعله يتوقف عن أن يعير الضباط الجدد اهتمامه «لا أعتقد أن الهدف هو تصفية 57357 أو تدميرها لصالح مشروعات الرئيس المصري السيسي الخيرية، كـ»مصر الخير» وغيرها، كما يقول البعض، لا أعتقد هذا، أميل أكثر إلى أن الموضوع أمني من الأساس، وأن الجنرالات الحاليين لا يقبلون بوجود تدفق مالي بعيداً عن مجراهم». تتقاطع شهادة الرجل مع تصريحات أبوبكر خلاف، المنسق العام للمرصد العربي لحرية الإعلام، الذي يرى أن الموضوع أثير ليمهد الطريق أمام السيسي للسيطرة على موارد هذه المؤسسات، والإفادة من أموال التبرعات المقدمة لها، وربما لاحقاً تُضم تلك التبرعات إلى صندوق «تحيا مصر». نعم هناك تباين بين الرأيين أيضاً، فالأول يرى أن الهدف هو إخضاع المستشفى فحسب، في حين يرى الثاني أن الهدف هو الاستحواذ عليه، لكن أياً كانت حقيقة النوايا، فالمتفق عليه بين الرجلين المطلعين على طبيعة المشهد الإعلامي المصري، أن الأجهزة السيادية وراء تلك الحملة، وإن تباينت تفسيراتهم لذلك بين التأميم والاخضاع التام.
مدير المستشفى يرد
لم يسكت بالطبع القائمون على المستشفى، فقام شريف أبوالنجا مدير المستشفى بإرسال ردٍّ مطول لجريدة المصري اليوم، مشيراً إلى أنه سيلجأ للقضاء، على ما قاله وحيد حامد في حقه، وهو تقريباً نفس الشيء الذي فعله طارق نور، صاحب قناة القاهرة والناس، الذي قال: «كم كنت أتمنى أن يتبرَّع الأستاذ وحيد حامد لمستشفى 57357 أو حتى للغلابة الذين يتكلم عنهم، ولو بجنيه واحد فقط، بدلاً من أن يشهّر بنا». تحرّكت الدولة مباشرة بعد حملة وحيد حامد، ممثَّلة في غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي، التي قرَّرت تشكيل لجنة موسَّعة لفحص أعمال مؤسسة المستشفى، وذلك في 25 يونيو/حزيران، مؤكدة أن اللجنة سترفع تقريرها المفصل خلال 10 أيام على أقصى تقدير. لكن مرَّ أكثر من أسبوعين حتى الآن، ولم تعلن لجنة والي نتائجها بعد.
مكرم محمد أحمد يدخل على الخط
النقلة النوعية الكبرى كانت بدخول مكرم محمد أحمد على خط النار، بصفته رئيس المجلس الأعلى للإعلام، متخذاً قراراً بحظر النشر في أي شيء يتعلق بمستشفى 57357 لسرطان الأطفال، وهو القرار الذي قوبل بحملة هجوم من الصحافيين.
وسرعان ما ردّ النائب العام على قرار مكرم باستدعائه هو شخصياً للنيابة للتحقيق معه على «اتخاذه قراراً لا يملكه، وتطاوله على سلطات النائب العام»، مصدراً بياناً وبَّخ فيه رئيس المجلس الأعلى للإعلام، مذكراً إياه بأن «وظيفته هي الدفاع عن الحريات لا تكميم الأفواه». السؤال الذي شغل الجميع هنا: لماذا تدخل مكرم بهذا الأسلوب غير المسبوق دفاعاً عن المستشفى؟ ولماذا تعامل معه النائب العام بكل هذا العنف؟
أزمة مكرم محمد أحمد
القريبون من دوائر مكرم محمد أحمد يتحدثون عن أزمة مركبة للرجل. فمن ناحية هو يعاني أزمة تثبيت السلطة، التي يرى أنها نُزعت منه من قبل وذهبت لمن لا يستحق، حين عيَّن الرئيس الأسبق محمد أنور السادات إبراهيم نافع رئيساً لتحرير مؤسسة الأهرام بدلاً منه، وقد تم ترشيحه من قبل أحمد بهاء الدين حينها.
لكنه رُفض لأن «لسانه طويل»، على حد تعبير أحمد بهاء الدين نفسه في كتابه «محاوراتي مع السادات»، وهي القصة التي أشار إليها الأستاذ سيد محمود، مدير تحرير الأهرام. وعليه فالرجل أمضى عمره كله يحاول تعويض تلك الأزمة، وها هي النتيجة يفتئت على سلطات النائب العام.
لكن أحد الصحافيين المطلعين بصحيفة الأهرام، الذي رفض التصريح باسمه، قال إن مكرم تربطه علاقة وطيدة بالأجهزة الأمنية وهذا معلوم عنه، وروى أكثر من رواية تبرهن ذلك. ويجزم الصحفي الكبير بأن تحرك مكرم هذا وتخطيه سلطات النائب العام لا يمثل طبيعته التي يعلمها جيداً.
«فإما أن الرجل بلغ من الكبر عتياً وأصبح غير قادر على وزن الأمور، أو أن صداقته بطارق نور دفعته دفعاً لمجاملة المستشفى، وحماية القائمين عليه، فتحرك هذا التحرك الغريب، الذي لم يكن من الممكن أن يسمح به النائب العام حتى لا تكون سابقة ومبدأ لكل مَن يخلُف مكرم في منصبه»، على حد تعبير الصحافي.
وسواء كان ذلك بفعل السن أو المجاملة، فالمؤكد أن ثعلب الصحافة العجوز أساء إلى اسمه وتاريخه، وسمح للسلطة القضائية بأن تعطيه (وهو من شيوخ المهنة) درساً في أصول الصحافة، ودورها في حماية الحريات وكشف الحقائق.