ألمانيا – رشا حلوة : —
مقال تغوص تغوص فيه الكاتبة الصحفية رشا حلوة في أغوار شخصية إمرأة عربية بدينة وكيف تنظر إلى نفسها وكيف يتعامل معها المجتمع ، يتعلق الأمر بشخصية إمرأة كانت بالأمس القريب بدينة وهي ليست سوى الكاتبة نفسها “رشا حلوة”
عندما كان عمري 12 عامًا، كنت أقف خلال استراحة الإفطار مع إحدى صديقاتي. لا أعلم من أين جاءتني الجرأة عندها أن أخبرها بأني “أحبّ” شابًا يكبرني بعاميْن، كان حبًا من طرف واحد بالطبع. وكانت هذه المرة الأولى التي أبوح بها بهذا النوع مع المعلومات الشخصيّة لأي أحد، هي التي كانت تخبرني دومًا بمشاعرها العاطفيّة كفتيات كن لا زلن على حافة المراهقة. أذكر نظرتها جيدًا، وإجابتها: “أنتِ بتحبّي مثلنا؟”.
منذ كنت في السّادسة من عمري وحتى ربما تلك اللحظة، عشت بجسد فتاة بدينة. لأسباب عديدة، منها غير المتعلّق بنمط حياتي تجاه الأكل. جاءني هاجس علاقة الجسد بالوزن مبكرًا، كطفلة لا زالت تكتشف العالم، واكتشفته بأكثر ما يمكن أن يكون وحشيّة، على الأقل من قبل أبناء جيلها. “ناصحة”، “دبّة”، وما إلى ذلك من أوصاف علنيّة أو سريّة قيلت لي وحددت علاقتي مع العالم المحيط، ورسمت علاقة المجتمع الصّغير تجاهي، فكانت قسوته تجاه جسدي محفزًا للهروب إلى قوقعتي وهدوئي وشعوري بأنني منبوذة، بلا أصدقاء ولا صديقات. هذا الهروب الذي أثمرته بكتبي ودفاتري وعلاماتي المدرسيّة.
لطالما كان هذا الموضوع هاجسًا للكتابة، اليوم، وأنا أقترب إلى الثلاثة والثلاثين من عمري، لربما أستطيع أن أحكي عنه من تجربة شخصيّة، محاولة أن أربطه بالعامّ، وبظلم المجتمع إزاء كل من هو يختلف عن “السّائد” بنظره، وعن المظاهر الخارجيّة التي ترسمها الماركات التجاريّة والميديا في عقول الناس في هذا العصر، وعن الظلم المضاعف التي تعاني منه النساء تحديدًا، من بعض أفراد المجتمع، سواء كانوا رجالًا أو نساءً أيضًا، الذين لا يرون بها سوى جسدًا، يجب أن يكون كما يرونه مناسبًا، ولأننا نعيش في مجتمعات تعيب السّمنة!
ملاحظة أولى، فقط لتجنب تعليقات متعلّقة بالأضرار الصّحيّة الناتجة عن الوزن الزّائد، للنساء والرّجال على حدّ سواء، فأنا لن أخوض بهذه المسألة. تأثير الوزن على القلب والدّم والعامود الفقري، نعرفه كلّنا عن ظهر قلب، قرأنا مئات المقالات العلميّة حول ذلك وسمعنا آلاف القصص ومررنا بحالات القلق المرافقة لها. أمّا الملاحظة الثانيّة، فلها علاقة بالتعليقات التي تأتي على غرار “لازم تكون ثقتك بحالك عاليّة!”. حسنًا، نعرف هذا الدّرس أيضًا، فلا من أحد كامل.
المهم، بالعودة إلى صديقتي التي استغربت بأنني “أحبّ مثلهن”، و”مثلهن”، تعود على النحيفات في هذه الحالة. هذه القصة هي نموذج صغير لكيف يرى المجتمع، بمساعدة الميديا، صورة المرأة البدينة؛ فهي مغيّبة تمامًا من قصص الحبّ والعلاقات العاطفيّة والجنسيّة، تغيّيب بإمكاننا أن نلاحظه في المسلسلات والأفلام والفيديو كليب، كأنها بلا مشاعر ولا عواطف إلّا للأكل، وسوف تستحق الحبّ والعواطف، فقط إن خسرت من وزنها عشرات الكيلوغرامات.
تعيش النساء مع الوزن الزائد ضمن احتماليْن، الأوّل أن يحاولن التخفيف من وزنهن، بشتّى الوسائل الصّحيّة وغير الصّحيّة ومؤخرًا القيصريّة، أو أن يتقبلن أجسادهن ويفرضن هذا التقبل على كل من يحيطهن. والخيار الثّاني ربما يحتاج إلى الكثير من الجرأة والثّقة بالنفس والحروب اليوميّة. أنا من اللواتي اخترن الاحتمال الأوّل، لأنني أردت أن أكون “زيّهن”، ولا زلت حتّى يومنا هذا، أعيش هذا الصّراع بيني وبين جسدي، لكنني مع الوقت، تعلّمت أن لا أكره الأكل، على الأقل.
منذ سنواتي الأولى مع السّمنة، مررت بأشكال حميّة عديدة، وفقًا للحميّة التي تحتل الموضة في حينه. أخسر وأكسب وزنًا، أكسب وزنًا وأخسره، وهكذا. بعد قصّة البوح عن المشاعر لصديقتي ونحن مراهقات، دخلت في حميّة خسرت فيها وزنًا كثيرًا، وتغيّرت شخصيتي تمامًا، من فتاة هادئة ومجتهدة، إلى فتاة اجتماعيّة وفجأة محاطة بالأصدقاء والصّديقات، مع التأثير السّلبيّ، بعض الشّيء، على علاماتي المدرسيّة. لكن من يهمه ذلك؟ فتاة شاطرة في المدرسة أم فتاة نحيفة؟ الحياة “الكول”، تعطيك الإجابة الثّانيّة. للأسف.
إحدى صديقاتي، التي خسرت من وزنها كثيرًا أيضًا في السّنوات الأخيرة، بقرار منها، وهي تعيش اليوم في جسد يمشي حسب “المعايير المطلوبة” للمرأة. تقول في حديث عن علاقتها اليوم بجسدها: “لا بدّ أن الأمر يؤثر عليَّ حتى يومنا هذا، بما في ذلك في علاقتي مع شريك حياتي. رغم أنه لم يقل يومًا أي تعليق تجاه الأمر. لكن هنالك شعور داخلي مستمر بأنك غير قادرة على التصالح مع جسدك، لأن مفهوم المرأة البدينة هو شيء معيب. وإنه يجب عليك أن تغطي هذا العيب دائمًا. البدينات، يكتشفن منذ الصّغر، بأن البشر عبارة عن كائنات ظالمة جدًا”.
قبل أيام، وأنا أمشي في شوارع برلين، لمحت عاشقيْن يجلسان على مقعد في حديقة عامّة، كانت الامرأة بدينة. أنا التي عشت بجسد بدين، وأحارب يوميًا الأفكار المسبقة والقاسيّة تجاه النساء البدينات، والتي عانيت منها لسنوات طويلة، وقعت في فخ الاستغراب من هذا المشهد أثار بي فيما بعد الكثير من الأسئلة والغضب تجاه نفسي وكذلك تجاه تذويت هذا النبذ الاجتماعيّ والعاطفيّ الذي يمارسه المجتمع تجاه فتيات بدينات، حيث الكثير منهن يخفن من أن يشعرن بأي عاطفة تجاه شخص، لأنه بالطبع لن “ينظر إليهن”.
لا أشير بأصبع الاتهام إلى أحد إزاء هذه الظاهرة المستمرة، أعرف أن جميعنا ضحايا أشياء أكبر منَّا، وبالطبع ليس مطلوبًا أي تعاطف من أيّ أحد، هذا آخر ما تحتاجه كلّ امرأة لها قصّتها مع جسدها، ولا المطلوب أن يبدأ الاحتضان الجماعيّ بين ليلة وضحاها، لكن كل ما هو مطلوب أن يتوقف المجتمع عن السخريّة منها، من جهة، ومن جهة أخرى، وإن لم يستطع البعض أن يرى بها بشرًا مثله، فكما أقول دومًا: اتركوها وشأنها.
قبل ثلاثة أعوام، وللمرة العاشرة ربما، وبطريقة صحيّة تمامًا، خسرت من وزني ثلاثين كيلوغرامًا. لا أذكر بأن أي تغيير مرّ على شخصيتي خلال عام واحد من الحميّة، عدا أنني أصبحت أرتدي ملابسًا بحجم أصغر. لكنني فجأة أصبحت جميلة ومرغوبة، هو شعور جميل، وتكذب من تقول غير ذلك، على الرّغم من أننا نعرف جيدًا بأن هذا الشّعور هو نتاج ما بناه المجتمع حول كيف يجب أن يكون شكلنا، وهذا قاسٍ. لكن أقسى منه، هي الأفكار التي ما زالت تعيش معي اليوم، بأننا نُرى، بعيون البعض، من الخارج فقط، ولا يجرؤ أيّ منهم أن يعرفنا بالفعل.
في الثّامنة من عمري، وقعت عن العجلة وتسببت بجروح قاسيّة في رجلي اليُمنى. قال الطبيب في المستشفى بأن وزني الزائد حماني عندها من أن تُكسر رجلي، فكان العلاج بمثابة تقطيب للجرح، نتج عنه ندبة في رجلي. وزني الزائد عندها، وغير المستقر اليوم، حماني فعلًا، لكنه أيضًا علّمني دروسًا كثيرًا عن الحياة والناس، بقيت كالندبة التي في رجلي، كلما أنظر إليها، أتذكّر الألم، لكنني أراها اليوم جزءًا جميلًا من جسدي، تعلّمت أن أحبّه.
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة رأي شبكة رمضان الإخبارية