لماذا يدمر الفائض الألمانى اقتصاديات الآخرين

Ahmad-Fahmey

 

برلين – أحمد فهمى : —

مقال مترجم من صحيفة ايكونوميست عدد 8، صفحة 18، 14 يوليو 2017

على مدار سنوات اشتكت عدة دول من كون الاقتصاد الألماني يسبب مصاعب لباقي اقتصاديات العالم، حيث تدخر ألمانيا بشكل واسع وتستهلك في أضيق الحدود، ومن ثم فمنذ نهاية الخمسينيات تحق ألمانيا فائضاً في حسابها الجاري، ما يفوق فائضها التجاري، وتستخدم مدخراتها المحلية في الاستثمار المحلي إلى جانب توسع كبير في إقراض الخارج.

هذه الفوائض تعني بالضرورة أن الدول الآخرى لابد وأن تعاني من عجز بحسابها الجاري (بمعنى آخر يجب أن تقترض) وذلك للتأكد من وجود طلب كلي يسمح باستمرارية بقاء العاملين في وظائفهم. يبلغ معدل النمو بألمانيا حوالي 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي أي حوالي 300 مليار دولار أي أنه أكبر من الفائض التجاري الصيني،ألمانيا متهمة الآن بأنها تتطفل على مصروفات الدول الأخرى وأنها السبب في اضمحلال فرص التوظيف في هذه الدول، و من بين هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية التي وصفها رئيسها دونالد ترامب الفائض الألماني بأنه “سئ للغاية”، كما انتقد عدد السيارات التي تصدرها ألمانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية قائلا “إنه سيوقف ذلك”.

في داخل النادي الأوروبي يسود اعتقاد بأن ألمانيا تصر على أن تتبع الدول ذات الديون المتراكمة سياسات شديدة التقشف في حين ترفض الاعتراف بأن تضييقها على الإنفاق يجعل عملية التعافي لهذه الدول أمراً صعب المنال.

لا يعني ذلك على الإطلاق أن الاقتصاد الألماني سئ، بل على العكس فقد انخفض معدل البطالة إلى 3.9% أي أقل من غالبية الدول الثرية.

تأثر الاقتصاد الألماني سلباً بشكل كبير بالركود الذي أصاب الاقتصاد العالمي عامي 2008-2009 إلا أن معدلات التشغيل والبطالة لم تتأثر كثيراً بخلاف العديد من الدول الأخرى، و هناك اعتقاد بأن الصدمات السياسية التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة جاءت نتيجة التراجع المستمر في وظائف العمال خاصة في قطاع السيارات بسبب الواردات الرخيصة من الصين وألمانيا.

بدأت بعض الدول الأخرى وعلى رأسها فرنسا في تبني النموذج الألماني القائم على إكساب غير القادرين على التعليم الجامعي مهارات صناعية وتدريبهم مهنيا.

يدافع الألمان عن اتجاههم للادخار قائلين إنهم من كثر المجتمعات التي تعاني من إزدياد أعداد كبار السن مقارنة بالقادرين على العمل ومن ثم فلابد من مدخرات ضخمة لتغطية هذه الفجوة، ما يجعل الامر أكثر تعقيدا أن فائض مدخرات الألمان ليس نتيجة سياسة اقتصادية معينة، بل قائم على نموذج أعمال ضمني ينتج عيوب ومميزات الاقتصاد الألماني على السواء.

لفهم هذا النموذج ربما يجب أن نعود إلى التسعينات عندما كان الاقتصاد الألماني يتراجع، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل آنذاك حوالي 4 مليون أي عشر القوة العاملة، كما شهدت صادارات ألمانيا الصناعية تراجعا ملحوظاً، وعانى الحساب الجاري من عجز متفاقم، حدث ذلك نتيجة مباشرة لانخفاض سعر صرف العملة الألمانية نتيجة لكسر المضاربين لقواعد سعر الصرف الأوروبي التي كانت تحد من تذبذب أسعار الصرف، خسرت ألمانيا وظائف وطلبيات لصالح إيطاليا، ساهم في الأزمة أيضا ارتفاع مبالغ به للأجور في ألمانيا الشرقية عقب إعادة توحيد الألمانيتين.

بدأت الشركات الألمانية في  استعادة مميزاتها التجارية تدريجياً عن طريق تخفيض تكلفة العمالة مع العمل على زيادة الإنتاجية، تم تثبيت زيادة الأجور عند 1% في الفترة من 2000 حتى 2007 مقارنة بـ 3.5% كمتوسط في دول منظمة التعاون الاوربية، ما جعل ذلك ممكنا هو النظام التعاوني المتجذر بالعلاقات الصناعية الألمانية، حيث هناك ممثلين للعمال بمجالس إدارات الشركات، ومن ثم فهم يرون ويدركون مدى خطورة رفع الأجور على تنافسية منتجاتهم، من جانبها عوضت الشركات التثبيت النسبي للأجور بأمور أخرى مرضية مثل نظام الساعات المرنة أو منح دورات تدريبية.

واجهت الانطلاقة الألمانية عدة تحديات جديدة على رأسها انضمام ألمانيا إلى القانون الأوروبي Low cost Neighborsالذي ضمها مع بولندا والمجر والتشيك، إضافة إلى تحدي أخر تمثل في الصعود الصيني وتنافسية الصادرات الصينية.

لم يتوقف الامر عند هذا الحد، ففي 2002 قدم رئيس الحكومة الألمانية طلبا إلى مفوضية يقودها رئيس شركة فولكس ويجن، تشمل عدة شركات كبرى طالبا خطة واضحة للتعامل مع معدلات البطالة، سُميت هذه الخطة بأجندة 2010 وتم تنفيذها على 4 مراحل كان آخرها في يناير 2005 حيث استهدفت فرض قيود على المعونات الاجتماعية المقدمة للعاطلين عن العمل ووضعت معايير لصرفها أهمها إثبات المتقدم جدية كاملة في الحصول على عمل.

لا تقل أهمية سياسات تثبيت الأجور المتبعة في التسعينيات عن أصلاحات “شرودر” التي تم تنفيذها في الألفينيات.

يوجد ما يشبه التعاقد الضمني بين الشركات والعمال، ففي حين قبل العمال بسياسات تقييد الأجور، تمسكت الشركات بهم وقت الركود في حين لجأت أغلب شركات أوروبا إلى تسريح العمالة خفضاً للنفقات،إلا أن سياسة تقييد الأجور أدت إلى اقتصاد غير متوازن حيث يوجد صادرات فائقة التنافسية وسعر صرف مقدر بأقل من قيمته الحقيقية بقيمة تتراوح من 10 إلى 20%، و استهلاك ضعيف، برغم انخفاض معدلات البطالة وزيادة التشغيل فإن نسبة الناتج المحلي الإجمالي العائدة إلى الأسر تراجع من 65% إلى 60% لصالح أرباح الشركات، رغم ذلك لم يتأثر معدل الادخار حيث ظل عند 9.8% كما هو منذ 20 عاماً.

نتيجة لذلك فقد تراجع معدل الإنفاق إلى 54% من الناتج المحلي الإجمالي (أقل من الولايات المتحدة وبريطانيا) وهو أمر طبيعي، حيث أنه إذا منحت العامل راتباً أكبر فسيتجه للانفاق أكثر ما يعني صادرات أقل وواردات أكبر، إلا أن ألمانيا وضعت نفسها في نموذج يعلي من قيمة الصادارت على ما عداه من اعتبارات.

شاهد أيضاً

“الإمبراطور الأبيض”.. مقاتلة الجيل السادس الصينية المصممة للهيمنة على السماء والفضاء

تشهد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تصعيداً ملحوظاً في العديد من المجالات، من أبرزها التسابق …