القاهرة – طه خليفة : —
مبروك لـ مريم ابنة البواب، التي تفوقت في الثانوية العامة، ومبروك لكل المتفوقين والناجحين.
طبيعي أن يهتم الإعلام بالفتاة وأسرتها وظروفها التي تغلبت عليها وتفوقت بجدارة.
من المهم إبراز النماذج الناجحة، والمتميزة، والبحث عنها في أعماق الريف، وأقاصي الصعيد، وحواري وعشوائيات القاهرة والمدن، فهم الأولى بتركيز الإعلام وظهورهم على الشاشات والصفحات، وليس المحتوى الذي أكثره سطحيا وسخيفا، ولا علاقة له بالمجتمع المصري الحقيقي، ولا بواقع الناس وحياتهم.
أما عن كون والد الفتاة يعمل “بواب” فهذا لا شيء مثير فيه، فهي مهنة شريفة، ومع البطالة المتفشية اليوم وجحيم الغلاء فإن هذا العمل قد يتصارع عليه الناس، هناك من يمارسون مهنا أقل درجة في السلم الاجتماعي من البواب، ماذا مثلا عن الذين يجلسون في الميادين انتظار لمن يحتاجهم في إنجاز عمل في بيته لمرة واحدة، مثل الهدم أو التكسير، أو رفع الطوب والرمل لأدوار عليا، هناك أناس بلا مهنة من الأصل، يسعون على رزقهم ويحاولون جني المال بأي وسيلة، قرأت أن هناك من ينتشرون حول مكاتب التنسيق يساعدون الطلاب في تسجيل رغباتهم مقابل 30 جنيها، وما الأمن الخاص إلا الاسم العصري للبواب، بماذا يختلف عنه؟، لاشيء، ربما الزي فقط، هذا بجلباب، والآخر بقميص وبنطلون وحاصل على شهادة عليا أو متوسطة، أبو مريم أفضل حظا منهم لأنه لم يتعلم ويستهلك وقتا ونفقات وإرهاق لأسرته ثم يكون عمله في النهاية “بواب”، لكن بزي موحد، هناك ضباط سابقون يعملون في شركات الحراسات الخاصة، أي حراس أمن، بوابون لكن بلافتة عليها مكياج اجتماعي، طالما الإنسان يعمل ويكدح ويستر نفسه وأسرته فليس المهم نوع العمل، ولا النظرة المجتمعية المريضة، ولا التفاخر الكاذب، ولا الاستعلاء المزيف، بالمنطق المختل لدى أفهام بعض المصريين فإن باراك أوباما المصري لم يكن يجد غير مهنة “البواب” ليمارسها، أو عامل نظافة، لكنه في أمريكا يكون رئيسا لأكبر وأهم دولة في العالم حيث المجتمع المنفتح والفرص المتساوية في ظل الديمقراطية.
هناك آباء يعملون في مهن عادية وبسيطة وربما أكثر مشقة وأقل دخلا من مهنة البواب وأولادهم من المتفوقين، أطباء وصيادلة ومهندسون ومحاسبون ومحامون ومدرسون.
أما بشأن أن الفتاة كانت تذاكر دروسها في “جراج” أو محل مغلق، فلا أمر مثير للاستغراب في ذلك، المهم أن لديها مكانا تجلس فيه ولمبة كهرباء تنير لها المكان، الأجيال التي سبقتنا وأجيالنا كانت تذاكر في “لمبة جاز”، لم تكن الكهرباء قد وصلت مناطقنا بعد، وكانت البيوت مزدحمة تجمع الأسر الممتدة، أي الجد والأب والأعمام وأسرهم، وكان يخرج منها متفوقون.
لكن ما توقفت أمامه ما قالته مريم بأنها لم تكن تأخذ دروسا خصوصية، هذا الكلام إذا كان دقيقا فإن الفتاة تستحق الإعجاب، ويستحق كلامها الاهتمام لأن الدراسة في مصر تسير منذ عقدين من الزمن تقريبا في اتجاه أن الأصل فيها هو الدروس الخصوصية وليس التعليم في حصص المدرسة، انقلب الوصع، الدرس الخاص أولا ثم المدرسة، بل صارت المدرسة مجرد تحصيل حاصل، الحضور فيها مثل الغياب عنها.
أن تتفوق مريم بدون دروس خصوصية فهذا فقط هو الجدير بالانتباه في قصتها وما عداه مجرد حواشي.
من حظ مريم أنها ستدخل الكلية التي تريدها عبر مكتب التنسيق، حيث يظل هذا النظام في توزيع الطلاب على الكليات هو الأكثر عدلا رغم مساوئه، لو كان الالتحاق دون مكتب تنسيق، غالبا لم تكن مريم تقدر على حجز مكانها في كلية الطب، هناك ألوف مؤلفة أقل منها تفوقا، لكنهم أكثر منها ثراء وواسطات ومحسوبيات وعلاقات ومعارف سيطيحون بها، هذه آفة متجذرة في مصر.
ولو كانت مريم، فتى وليس فتاة ولديها شهادة بـ 99% وأرادت الالتحاق بواحدة من الكليات العسكرية أو الشرطة فإن الهيئة الاجتماعية ستمنع دخولها، تذكروا نموذج طه الشاذلي ابن البواب في رواية وفيلم “عمارة يعقوبيان”، أحد الشخصيات التي رسمها الكاتب علاء الأسواني في روايته بشكل واقعي جدا.
لنفترض أن مريم ستتجه للحقوق أو الاقتصاد والعلوم السياسية بدل الطب، هل يتوقع أحد رغم توفقها، ورغم ما قد تحققه من تفوق متواصل في دراستها الجامعية أن تصير وكيل نيابة إدارية، أو تلتحق بالسلك الدبلوماسي، لا يمكن، لأن مهنة والدها ستحول دون قبولها، وتلك آفة مصرية متجذرة أيضا، وتقديري أن علاجها صعب وهو بحاجة لتغيير سياسي ثقافي اجتماعي، وهذا لن يتم إلا إذا تحققت الديمقراطية يوما وجرى إصلاح شامل في بنية المؤسسات وعقلها لتكون لجميع المصريين وليست وراثة لشريحة محدودة جدا منهم.
لانبالغ إذا قلنا إن هناك وظائف بعينها محجوزة في هيئات بعينها من الآن لمن سيدخلون كليات بعينها من خريجي الثانوية بغض النظر عن مستواهم التعليمي، وأن هناك أماكن محجوزة في كليات بعينها من الآن لتلاميذ منذ دخولهم المدارس بغض النظر أيضا عن مدى جدارتهم بذلك.
نحتفي بـ مريم، وكل مريم، وكل نظرائها من الشباب المتفوقين والناجحين، لكن لا ننسى أن في مصر مجتمعان أحدهما وأكبرهما مطلوب منه التضحية مقابل الفتات، والثاني ونسبته متناهية الصغر يستحوذ على المائدة كلها دون تضحيات تذكر