قرآن كريم يتخلل مسامعك على مشارف قرية ناهيا تذيعه مكبرات الصوت، تقودك إلى عزاء كبير نُصبت أمامه كاميرات الصحافة والإعلام، لتسجل عزاء والد أشهر لاعبي كرة القدم محمد أبو تريكة، ولكنها عجزت عن رصد مشاهد أخرى توارت خلف الأضواء تكمن هناك في عزاء النساء.
غياب أبو تريكة وحضور معشوقته
بجوار “صوان العزاء” ممر ضيق تسلكه نساء يحملن فوق رؤوسهن أواني طعام، يتقدمن بها لواجب العزاء كعادة أهل القرى، عند نهايته مساحة خالية يتوسطها منزل والد أبو تريكة حولها أطفال “الحارة” إلى ملعب لكرة القدم يمرحون ويلعبون، تختلط ضحكاتهم بأصوات القرآن، وبينهما صمت يكسوه الحزن يسكن داخل المنزل.
تتخطى الأطفال لتجد نفسك أمام عتبات منزل والد أبو تريكة؛ حيث مكان تلقي عزاء السيدات، هنا بوابة تقودك إلى مدخل متواضع، البساطة كانت عنوان أهل البيت.
داخل عزاء السيدات
بمجرد الدخول يسقط نظرك تلقائياً على أرض افترشها سيدات اتشحن بالسواد، بدا عليهن الطابع الريفي فجميعهن التزمن بارتداء جلباب أسود فضاض، وفى أحد الأركان طرحت واحدة منهن أحزانها على جدار مجاور استندت إليه معصبة الرأس، قسمات وجهها تخبرك ببكاء ربما استمر طيلة الليلة الأولى للوفاة، يبدو أنها من وثيقي الصلة بالمرحوم، نعم أنها شقيقة أبو تريكة.
ولكن قمة الحزن تجسدت فى الغرفة المجاورة لها، حيث تمكث الأم “أمينة ” التى تخطى عمرها الستين عاماً فوق سريرها، غارقة فى أحزانها ما بين وفاة الزوج، وغياب الابن مضطراً بعد إدراجه على قوائم الإرهاب، فضلاً عن مرض داهمها منذ فترة بعيدة يمنعها من الاستلقاء على ظهرها..ويجبرها على الجلوس واللجوء إلى كرسي متحرك فى أحياناً كثيرة.
التف حول الأم أقاربها..وقالت الحفيدة: ” ربنا اللى مصبرها على غياب ابنها”، فى حين ذكرت أخرى أن أكثر ما يعتصر قلب الأم هو غياب ابنها.
ولفتت الحفيدة إلى أن والدة أبو تريكة بكت كثيراً فور تلقيها خبر وفاة الزوج، وقالت في تمني وغبطة:”يا بخته مات وهو واقف على رجله، متقلش على حد، نفسي أموت زيه”، فهي من تلزم الكرسي المتحرك في نومها واستيقاظها.
أم أبو تريكة.. ذعر من الكاميرا وحلم بعودة الابن
دخلت فتاتان أخبرتا الحضور أنهما من أشد المعجبات والمشجعات للاعب محمد أبو تريكة، وحضرتا خصيصاً لتقديم واجب العزاء لوالدته، سُمح لهن بالدخول، صافحتهم والدة أبو تريكة وبمجرد الشروع فى مواساتهما للأم فوجئتا بها تسألهما:”انتم صحفيين صح؟”.. فأجابتا بالنفى ولكنها عاودت لتؤكد قائلة : “لا انتم صحفيين”، وعيناها لم تفارق هاتف واحدة منهن.
إلا أنهما كررا على مسامعها كونهما فقط من محبى محمد أبو تريكة، اعتذرت لهما قائلة :”مرحب بيكى يا بنتى احنا نشيلكم من على الارض شيل”، وصارحتهما بسر مخاوفها من الكاميرا، بعدما اطمئن قلبها لهما، وراحت تتحدث على سجيتها عن فقدان الزوج وغياب الابن.
وقالت الأم :”أصل في واحدة صحفية والله يابنتي جت صورتني وأنا قاعدة على الكرسي، من غير ما اعرف، والست هي اللي شافتها، كانت حتى المفروض تستأذن والله يابنتي كنت فاكرها صحبة بنت ابني حسين، واتاريها بتصور وانا بتكلم ومعرفش”.
“بس نفسي يجي محمد بالسلامة ” بتلك الأمنية استكملت حديثها .. وسألتها إحدى الفتاتين أن كان تريكة اتصل بها فما كادت الأم تجيب بالنفي حتى قاطعت الحديث سيدة قائلة : ” انتوا جايين تعزوا متسالوش علي محمد .. هي كان من شوية عندها الدكتور.. هي تعبانة”.
حاولت سيدة أخرى تهدئة الموقف، مبررة أن العائلة رفضت الحديث لأيا من الوسائل الإعلام وأبت التصوير داخل عزاء النساء .
بعدما أصرت إحدى أقارب أبو تريكة على خروج الفتاتين من الغرفة، ودعتهن الأم واعتذرت لهن بشدة عما حدث شاكرة لحضورهن، اصطحبتهن أخرى من أهل البيت إلى حجرة الضيوف، وفيها يجلس جمع من النساء في صمت تترقب أعينهن الفتيات.
“أبو تريكة” يحول عزاء والده لمجلس تفاخر
“اللي ياخد مننا دخل التاريخ” كلمات أطلقتها إحدى النساء لتكسر حاجز الصمت، فبادلتها أخرى “دخله السعد والهنا اللي ياخد من عيلة أبو تريكة”، ومن هنا بدأت تتناثر الأحاديث الجانبية.
كان لأبو تريكة النصيب الأكبر من الحديث بين الحزن على غيابه عن عزاء والده، والثناء على عدم عودته للقاهرة خشية القبض عليه، وهو ما عبرت عنه إحدى أقاربه “أحسن أنه مجاش ميبقاش موت وخراب ديار”.
التقطت طرف الحديث ابنة شقيقة أبو تريكة، قائلة :”مكناش نتوقع أن جدي يموت وخالي محمد ميحضرش الجنازة وهو كان أقرب واحد ليه، جدي مش زي أي جد وخالي كان نسخة منه في الأخلاق والطبع”.
علاقة أبو تريكة بأبيه
وتابعت :”جدي بالنسبة لخالي حاجة كبيرة جدا روحه فيه بصراحة، وعلى الأقل احنا أهلنا هنا جنب بعض لكن هو لوحده هناك”، مضيفة :”لما بنشوف خالي بيتكرم في أي بلد تانية وبيحصل معه كده في بلده حاجة تحزن”.
ولفتت إلى أن خالها كان يصر على نزول القاهرة لحضور العزاء، ولكن شقيقه الأكبر رفض وأشار عليه بالذهاب للسعودية لقضاء عمرة عن والده، مشيرة إلى أن الكابتن وائل جمعة أقنع أبو تريكة بعدم الحضور، مستطردة:”والحمد لله أنه مجاش .. قضا اخف من قضا”.
اللحظات الأخيرة في حياة الأب
وراحت تقص القصص عن جدها، وتشير إلى مصحف وأريكة في زاوية بالحجرة، حيث كان فيها جلسته المفضلة، يرتكن إليها بعد صلاة الفجر ويقرأ ورده اليومي من القرآن، وتضيف :”يوم وفاته قعد يدعي كتير قبل ما يخرج بأن ربنا يرزقه حُسن الخاتمة، بعدها كعادته كل صباح استعد للتوجه لعمله وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة”.
والد أبوتريكة لم يكن مريضا في الفترة الأخيرة ؛ ولكنه كان متأثراً نفسيًا بقرار إدراج اسم ابنه فى قائمة المطلوبين”، مشيرة الى أنه كثير التعلق بـ “تريكة”.
الصدمة الأكبر في وفاة والد أبو تريكة تلقاها ابنه الأكبر؛ بتلك العبارة استكملت حديثها قائلة: “خالى كان متعود كل يوم يوصل جدى الشغل ويجيبه بعربيته.. بس اليوم ده اتصدم لم راح يجيبه من الشغل ورجع به طول الطريق جثة”.
مع مانويل جوزيه
وعن عمل الوالد أشارت إلى أنه كان يعمل بوزارة الزراعة ، وبعدما تقاعد للمعاش لم يجلس فى البيت بل استمر فى العمل مع زملاء له، وكان اليوم الأخير معهم فى إحدى فيلات حى الزمالك لعمل تجميلات للمكان.
تبدلت نبرات ابنة شقيقه أبوتريكة من الحزن على جدها إلى التفاخر بخالها، قائلة :”أنا بفتخر لمجرد انى من ناهيا لأنها قرية أبو تريكة بعيداً عن كونه خالى”، ولكن هذه الشهرة لم تؤثر على خالها في شيء، موضحة:” مكنتش بتفرق معه وكان بسيط ومتواضع والأطفال كلهم بييجو يتصوروا معه”.
تشير الابنة، إلى أنهم يتفاجأون بما يفعله خالها من خير مع أبناء القرية دون أن يخبرهم عنه شيء، وبينما تواصل الحديث عنه دخل ابنه الأكبر أحمد ليسلم على الحضور، وقالت :”اتصلنا جبنا ابنه ياخد العزا بدل أبوه “.
أبو تريكة عن مهاجميه:”الملائكة ترد”
وبعد انصراف الابن قالت :”والله خالي مكنش له في السياسة، حتى كانوا بيعرضوا عليه يترشح في الانتخابات علشان عنده شعبية كبيرة وهو كان بيقول مبحبش السياسة”، وتروي عنه أنه كان يرفض التعليق على الاتهامات التي توجهها بعض وسائل الإعلام له قائلا:”من الأحسن متردش على حد في ملايكة هترد”.
بساطة زوجة تريكة في العزاء
بينما لم يتمكن لاعب كرة القدم من التواجد بعزاء والده، حضرت زوجة أبو تريكة وأطفاله فى المشهد بعباءة سوداء وفوقها “سويت شيرت أسود اللون” كانت تتحرك بين الحضور بصحبة ابنتها لتلقي واجب العزاء، وخيم على ملامحها حالة من السكون .
بابتسامة رضا تودعك الأم وأنت تهم بالرحيل، تخرج تاركاً من خلفك بساطة ليس لها حدود، ففى عزاء السيدات لولا أنك تعلم بوجودك داخل منزل أبو تريكة لما شعرت بأنه عزاء أحد مشاهير كرة القدم.
فالمشهد لا يخبرك بهذا، ولكن ما أن تصل إلى عزاء الرجال تشعر بالعكس فمجرد تراص الكاميرات ووجود نجوم الساحرة المستديرة وعلاء مبارك وغيرهم تشعر بالفرق تماما بين المشهد بالداخل حيث تمكث الأم والخارج.