فيينا : مصطفي درويش : —
مع بداية العام الدراسي 2016ـ2017 وفي إحدي المدارس الإبتدائي النمساوية كانت هناك تلميذة جديدة بالفصل الأول واسمها دنيا . ودنيا هذه من أصول أفغانية ووصلت إلى هذه البلدة وهذه المدرسة وفقآ للتوزيع الجغرافي لللاجئين على محافظات النمسا ، فكانت هي من نصيبنا في هذه المدرسة .
وكان في هذا الفصل تلميذة أخري من أصول مقدونية ولكنها من مواليد النمسا وتولدت بين التلميذتين صداقة جميلة فيها براءة الأطفال بالرغم من عدم توافر لغة مشتركة للحوار . ومع ذلك كانت تسنيم تساعدني في توصيل المعلومة إلى دنيا .
ومع مرور الأيام بدأت الألفة بين دنيا وبيني بصفتي مدرسها ثم تطورت الألفة إلى ثقة متبادلة بل وإلى محبة وود . وأخذت دنيا تبذل قصاري جهدها في الدرس وتحفظ الأناشيد الدينية وتتبادل أطراف الحديث باللغة الألمانية بواسطة كلمات بسيطة ومتفرقة ولكنها كانت البداية . وبإنتهاء الفصل الدراسي الأول كانت دنيا تستطيع التحدث بجمل المانية غير دقيقة وإن كانت مرحلة متطورة عن مرحلة مجرد الكلمات المتفرقة .
ثم كانت اجازة نصف العام وعادت دنيا وكأنها تلميذة أخري ، تتحدث الألمانية بطلاقة تبعث على الدهشة ، بل وبدأت تخطو خطوات سريعة في التعلم تفوق صديقتها ورفيقتها تسنيم . وحينما بدأنا في التدريب على الكتابة ، إذا بخطها يتسم بالتنسيق والجودة مقارنة بخط زميلتها
وفي يوم من الأيام قلت للتلاميذ عليكم اليوم اختيار الدرس الذي تحبونه ، تتصفحوا الكتاب وتختاروا بأنفسكم . طبعآ هم لا يستطيعون الإختيار من خلال القرآءة ولكن من خلال الصور التي يمتلئ بها كتاب الصف الأول الإبتدائي . ووقع إختيارهم على الفصل الأخير من الكتاب وهو بعنوان ” أنا أختار طعامي ” . فتلوت عليهم قول الحق ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ” 2:172 وقمت بشرحها شرحآ مبسطآ يتناسب مع أعمارهم . وتناولنا الموضوع من جوانبه المختلفة ومنها :
- آداب تناول الطعام
- التمييز بين الطعام الصحي وغير الصحي
- الطعام الحلال والطعام الحرام
ثم سألتهم عن الأطعمة التي يحبون تناولها وكانت إجابة دنيا كالتالي : انا احب البيتزا ، واحب المكرونة ، واحب المربة واحب الأرز واخذت تعدد ما تحب من المأكولات وفجأة قالت واحب ماما واحب بابا ، ثم انتابتها موجة من الضحك وهي تقول واحب نفسي وتضحك وتكرر واحب نفسي واحب نفسي .
تعجبت من إجابة دنيا ، لقد كنا نتحدث عن الأطعمة وإذا بها تنتقل بتلقائية شديدة إلى حب الوالدين وهو أمر حميد جدآ ، ولكن التحول للتحدث عن حب النفس أثار دهشتي وفضولي . فبدأت فيما بعد أبحث عن معني حب النفس فوجدت :
- قول المصطفي ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ” .
- قول السيد المسيح بن مريم ” لابد أن تحب نفسك أولآ قبل أن تستطيع أن تحب الآخرين ” .
- وفي علم النفس : ” كي تحب الآخرين عليك أن تحب نفسك أولاً ، من دون أن تخشى الإنانية ، فالشجرة لا يمكن أن تكون صلبة ما لم تتغذى بجذورها ” !!
فتعلمت منك يا دنيا وأنا الذي بلغ من العمر عتيا .
ومنذ أسبوع وبعد أن انتهت الحصة الدراسية وذهب التلاميذ إلى منازلهم قالت لي مدرسة زميلة إن أسرة دنيا حصلت على حق اللجوء وبناءآ عليه سيرحلون من هذه البلدة ويذهبون إلى مكان آخر وبداية من الأسبوع التالي لن تكون دنيا موجودة بمدرستنا . كان خبرآ صادمآ بالنسبة لي . وذهبت الأسبوع التالي إلي المدرسة وكنت أمني النفس أن أجد دنيا ولكن تحول الخبر من علم اليقين إلى عين اليقين ورحلت دنيا من مدرستنا .
وهذه هي الدنيا نأتي إليها ، نبقي فيها فترة من الزمن ، ثم نرحل عنها .
وهذه هي قصتي مع دنيايا الصغيرة التي جاءت إلى هذه المدرسة وبقيت فيها فترة جميلة ولكنها تركتها ورحلت دنيا .
مصطفي دوريش فيينا : 19.03.2017