مؤكداً ان العالم يقف أمام خيارين: الصدام بين الحضارات أو بناء قرية كونية آمنة
البرادعي يحذر من خمسة مخاطر تهدد الأمن
والسلم الدوليين ويطالب بالتخلي عن الأسلحة النووية
حسين عون (الأمم المتحدة/فيينا)
حذر المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي من خطورة وتهديدات خمسة تحديات، قال أنها تواجه الأمن والسلم الدوليين وهي: تفاقم الفقر والمجاعة والأمراض المعدّية وتدهور الأحوال البيئية؛ والجريمة المنظمة؛ وتصاعد ظاهرة الإرهاب بمختلف
أشكاله؛ واحتدام النزاعات المسلحة سواء داخل الدول أو بين بعضها البعض؛ وتزايد خطر أسلحة الدمار الشامل. وأعرب البرادعي عن اعتقاده بأن “هذه العوامل والتهديدات والمخاطر مجتمعة تندرج في إطار ظاهرة عالمية بعدما تجاوزت الحدود، بحيث بات لا يمكن مواجهتها من قبل دولة بمفردها، بل من خلال استراتيجية عالمية تشارك فيها جميع الدول، وتعاوناً متعدد الجنسيات”. جاء ذلك في الكلمة التي استهل بها البرادعي العدد الأخير لمجلة (الوكالة الذرية)، نصف السنوية التي وزعتها اليوم الدائرة الإعلامية في الوكالة اليوم تحت عنوان “الأمن.. اليوم وغداً”، واستعرض فيها طبيعة الدور الذي يجب ويمكن أن تقوم به الوكالة للمساعدة في وضع أساس أكثر رسوخاً للأمن والتنمية في العالم.
وفي هذا السياق، أوضح البرادعي أن “كافة المخاطر والتهديدات المتشابكة، كثيراً ما يقترن الفقر بانتهاك حقوق الإنسان وغياب الحكم الرشيد، الأمر الذي ينتج عنه احساس عميق بالغبن والظلم والغضب والمذلة؛ وهذا بدوره يوفر بيئة نموذجية خصبة لنمو العنف بكافة أشكاله، بما في ذلك التطرف والحروب الأهلية والحروب بين الدول، ولا سيما في المناطق التي تعاني من النزاعات الطويلة الأمد، حيث كثيراً ما ترنو الدول إلى إعلاء مكانتها من خلال السعي لامتلاك الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل من أجل حماية وتعزيز أمنها”. “. وهنا استشهد البرادعي بأفكار وآراء صدرت في مقالات رئيسية لأربعة من الشخصيات الأميركية المرموقة وهم: هنري كيسنجر ووليام بيري وجورج سكالتز وسام نان، أجمعوا فيها على التأكيد بأنه ينبغي على الولايات المتحدة والعالم التحرك بقوة نحو عالم آمن وخالٍ من الأسلحة النووية، وحذروا من أنه “ما لم يتّم اتخاذ إجراءات جديدة وسريعة، فسوف تضطر الولايات المتحدة قريباً لدخول حقبة نووية جديدة محفوفة بالمخاطر، ومربكة نفسياً ومكلفة اقتصادياً، وبحيث تتجاوز تكلفتها ما كانت تتطلبه سياسة الردع إبان الحرب الباردة من نفقات”.
وهنا قدّم البرادعي صورة أكثر وضوحاً لسلسلة المخاطر والتهديدات والتحديات التي تواجه الأمن العالمي اليوم فقال “إن إحساس المجتمع الدولي بالأولويات أصبح من وجهة نظري مشوشاً، وهو ما أدّى إلى إحساس بالظلم وفقدان الأمن”. وفي هذا السياق، أشار إلى أن “مجموع ما تنفقه حكومات العالم على المساعدات الخارجية بلغ حوالي 100 بليون دولار أميركي سنوياً”. ورأى البرادعي أن “هذا الرقم قد يبدو كبيراً، ولكن يتبين من خلال مقارنته على سبيل المثال بما تنفقه الولايات المتحدة وحدها سنوياً على الحيوانات الأليفة –الكلاب والقطط والطيور- والذي يصل إلى 35 بليون دولار، أي ثلث المساعدات الخارجية، فأنه يبدو قليلاً”. وأوضح قوله “وبالمقابل، فإن ما تنفقه الحكومات سنوياً على الأسلحة يزيد كثيراً على تريليون دولار، أي عشرة أضعاف ما يُنفق على المساعدات الخارجية”.
وأضاف البرادعي على ذلك قوله “وعلاوة على ذلك، فإن الحاجة إلى المساعدات الدولية باتت ملحّة، حيث أن 40 % من سكان العالم يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، بينما أكثر من 850 مليون شخص ينامون بلا عشاء كل ليلة؛ كما يؤكد الخبراء أن أكثر من 20 ألف شخص غالبيتهم من الأطفال يموتون يومياً من جراء الفقر والجوع والأمراض الناتجة عن تلوّث المياه”. كما اعترف البرادعي بعجز المجتمع الدولي في حل الكثير من النزاعات الإقليمية المزمنة، وفي طليعتها النزاع في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة الكورية، وأشار إلى سبب استمرار تلك النزاعات –الممكن حلها من خلال تطبيق قرارات الشرعية الدولية- هو أنه لم يستثمر القدرات الضرورية، ولم يحشد العزم اللازم لإيجاد الحلول. وأكد قوله “وليس من قبيل المصادفة أن تكون هذه المناطق هي البؤر التي تتركز فيها المخاوف من انتشار أسلحة الدمار الشامل”.
وعلى الصعيد النووي، أسهب البرادعي في الحديث عن التحديات الأمنية الأكثر ترويعاً، واتفق مع ما يعتبره البعض “خطر التآكل المستمر لنظام عدم الانتشار النووي”، وأكد قوله”ولكن ذلك ينبغي أن لا يكون مفاجأة، فلقد تم تفعيل معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية منذ ما يربو على 35 عاماً، ومنذ ذلك الحين والعالم يمر بتغيرات سريعة على الصعد السياسية والتكنولوجية والأمنية. والمشكلة هي أننا لم نقم باجراء التعديلات الضرورية على المعاهدة لتتناسب مع الحقائق الجديدة”. وأشار إلى خطورة سعي عدد من الدول للحصول على أسلحة نووية وتكوين قدرات نووية بطريقة سرية. بالإضافة إلى ذلك ظهور ما يُسمى بـ “السوبرماركت النووي”، وهي شبكة للتجارة غير المشروعة بالمعدات والتصميمات النووية الحساسة، على حد وصفه.
وانتقد البرادعي تجاهل الهدف الأساسي لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وهو إيجاد عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية. ولاحظ أن بعض الدول تعوّل على الأسلحة النووية بشكل متزايد، أشار إلى وجود أكثر من 27 ألف رأس نووي، ومعظمها لا يزال في نفس حالة الاستعداد التي سادت فترة الحرب الباردة. وأعرب عن اعتقاده بوجود تسع دول تملك الأسلحة النووية، وأكثر من 25 دولة أخرى أعضاء في تحالفات تعتمد على الأسلحة النووية كجزء من مكانتها العسكرية، في حين تخطط بعض الدول الحائزة على أسلحة نووية لتجديد مخزونها الاحتياطي أو حتى لتطوير أسلحة جديدة أكثر قابلية للاستخدام على حد تعبيره.
وفي هذا السياق، استغرب البرادعي استمرار تلك الدول النووية في نفس الوقت بسياسة الوعظ للدول الأخرى والتأكيد بأن الأسلحة النووية لن تفيدها، وقال “يجب أن يتضح الآن الارتباط بين عدم الانتشار ونزع السلاح، فما دامت بعض الدول تعتمد على الأسلحة النووية من أجل أمنها، فإن دولاً أخرى سوف تحذو حذوها”. وشدّد على القول” ينبغي على كافة الدول الحائرة على أسلحة وقدرات نووية أن تتخلى عن الفكرة العقيمة التي تتجلى في الشجب الطبيعي لسعي بعض الدول للحصول على أسلحة الدمار الشامل، وفي الوقت نفسه القبول الطبيعي كذلك أن تستمر دول أخرى في الاعتماد على الأسلحة النووية لتعزيز أمنها”.
ولاحظ البرادعي ظهور تهديد آخر أكثر تعقيداً ويتمثل بانتشار القدرات والتكنولوجيات النووية الحساسة ولا سيما تخصيب اليورانيوم وفصل البولوتونيوم، ورأى أنه بالرغم من أن القيام بذلك مقبول تماماً قانونياً في إطار معاهدة عدم الانتشار، إلا أن تلك التكنولوجيات تعطي الدول التي تمتلكها قدرة محتملة لتصنيع مادة نووية يمكن استخدامها لتصنيع الأسلحة النووية في غضون شهور قليلة على حد تعبيره. كما أشار إلى احتمالات مخيفة قد تنجم عن الإرهاب النووي أو الإشعاعي، أو سرقة مواد أو أسلحة نووية، وقال “هناك الآلاف من الأطنان من المواد النووية التي تدخل في صنع أسلحة نووية مثل اليورانيوم شديد الإثراء والبولوتونيوم الموجودة في مخازن عسكرية ومدنية”. وفي هذا السياق، حذر البرادعي من خطر قيام مجموعات متطرفة بتفجير “قنبلة قذرة” في منطقة مأهولة بالسكان، وأكد أن ذلك لن يؤدي إلى نتائج تدميرية هائلة فحسب، بل سيثير هلع الناس وانتشار التلوث بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية على حد وصفه.
وأعرب البرادعي عن اعتقاده بأن “العالم يقف أمام خيارين، أحدهما ما يطلق عليه البعض صدام الحضارات، والذي يستند إلى العرقية أو العنصرية أو الدين، وأياً كان السبب فهذه رؤية كئيبة للمستقبل، والثاني، العمل سوياً من أجل إنشاء قرية عالمية خالية من خطر الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، وبحيث تعيش فيها كل الشعوب والأمم بأمن وسلام، ويكون لهم قيّم أساسية مشتركة وحقوق متساوية وفرص متكافئة”. وخلص المدير العام للوكالة الدولية إلى رسم صورة أكثر إشراقاً لتجاوز المخاطر والتهديدات والتحديات أو التعامل معها على الأقل بقوله “يجب ان نبحث عن استراتيجيات استثمار العلوم المتقدمة والتكنولوجيا والطاقة، وبحيث لا يكون هدفها فقط تكوين الثروات، بل تقاسمها بصورة أكثر إنصافاً بين سكان هذا الكوكب، والمساهمة في تحقيق الأمن الغذائي ومكافحة الفقر والأمراض والجريمة.
وكان الدكتور محمد البرادعي عبّر عن “قناعته التامة” بأن النهج المتعدد الأطراف لضمان دورة الوقود النووي المخصص لتشغيل المفاعلات والمرافق والمحطات التي تستهدف الطاقة النووية لتوليد الطاقة الكهربائية على نطاق عالمي ينطوي على إمكانيات وقدرات كبيرة تشكل المحوّر الأساسي لاستخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية والتنموية والأبحاث الطبية. وأشار الدكتور البرادعي، الذي كان يتحدث في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدولي لامدادات الطاقة النووية، والذي أنعقد مؤخراً في العاصمة الألمانية برلين تحت شعار “الوقود النووي بين التحديات والفرص”، بحضور حشد كبير من الوزراء والبرلمانيين وكبار المسؤولين ونخبة من الخبراء والعلماء والباحثين في شؤون التكنولوجيا النووية ودورة الوقود النووي والطاقة البديلة وتخصيب اليورانيوم، أشار إلى أن الرئيس الألماني هورست كويهلر سلط مؤخراً الضوء على أهمية توفر الإرادة السياسية وعوامل الثقة والتعاون في العلاقات الدولية وقال “إن أفضل طريقة لبناء قواعد الثقة المتبادلة بين الدول هي المبادرة إلى نزع شامل لكافة الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل والحد من التسلح وتكريس سياسة عدم الانتشار”.
كما اقتبس المدير العام للوكالة الذرية من الرئيس الألماني قوله بان “الثقة تشكل كذلك عنصراً أساسياً للأمن والسلم والاستقرار، وما نطلبه من الدول الأخرى ينسحب علينا في نفس الوقت”. وفي هذا السياق، أوضح البرادعي أنه في “هذه المرحلة الراهنة بالذات، لا يمكن لما يسمى بسياسة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين أن تنطلي على أحد، وبات من المستحيل إخفائها عن الآخرين”. واعترف البرادعي بأنه لا يمكن تحقيق النجاح المطلوب، وهو إيجاد عالم تكون فيه منافع الطاقة النووية المخصصة للأغراض والتطبيقيات السلمية متاحة لجميع الدول التي تسعى من اجلها، في الوقت الذي نعمل فيه على منع انتشار الأسلحة. وشدّد على القول “ما لم ننجح في تكريس قواعد الثقة ومعايير الأمن والأمان في كل مرحلة من المراحل فستظل المخاطر والتهديدات والتحديات قائمة”. وأكد البرادعي في كلمته حرص الوكالة الشديد على نزع السلاح النووي ومنع الانتشار قولاً وعملاً، مشيراً إلى أن دخول أي من الدول إلى معترك التكنولوجيا النووية ينبغي أن يكون مضموناً ومكفولاً وبدون انقطاع تحت أي سبب من الأسباب السياسية على حد تعبيره. وشدَد على أهمية توفر ثلاث أنواع أساسية من الثقة هي “الثقة بأن لا تسعى أي دولة من الدول إلى تطوير أسلحة نووية؛ والثقة بأن تتعلم جميع الدول الحائزة على أسلحة وترسانات نووية كيف تعيش بدون التمسك بما يسمى بخيار الردع النووي؛ والثقة بأن تتخلى نفس الدول عن قناعتها بأن الأسلحة النووية هي الوسيلة الأقوى التي توفر لها الحماية الأمنية المطلوبة”.
وفي هذا السياق، أشار البرادعي إلى استمرار الكثير من التحديات، وذكر أبرزها وجود أكثر من 27 ألف رأس نووي في العالم على الرغم من إجراء بعض التخفيضات، استمرار التهديدات والمخاطر الناجمة عن حيازة قدرات نووية غير معلنة، ومواصلة عدد من الدول النووي الكبرى على تطوير ترسانتها من الاسلحة والرؤوس والصواريخ النووية، وسعي بعد الدول إلى تطوير برامج إنتاج نووية سرية. ولم يشر البرادعي إلى الدول التي تملك أو تسعى إلى تطوير برامج أسلحة نووية بالاسم خارج نطاق الدول العظمي الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسيا وروسيا والصين، وهي التي يقول الخبراء بأنها أصبحت خمسة دول هي الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإسرائيل وإيران.
وسبق للبرادعي ان أكد في عدة مناسبات أن الدول النووية أصبحت 9 دول من بينها الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وأربع دول أخرى، ولكنه لم يسمها بالاسم. وخلص الدكتور البرادعي إلى التأكيد بأن المجتمع الدولي ما زال يواجه ثلاث تحديات وصفها بـ “التحديات الكبرى والمصيرية” وهي: تعميم عدم انتشار الأسلحة النووية؛ ونزع أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية والصواريخ البالستية؛ وضمان توزيع منافع الطاقة الذرية، بما فيها تطبيقات التكنولوجيا المخصصة للأغراض السلمية والأبحاث والتنمية والمياه والصحة والأغذية وإنتاج مياه الشرب ومكافحة الحشرات والأمراض على نطاق عالمي، مع إعطاء الاولوية للبلدان النامية ولا سيما تلك التي تعاني من آفة الفقر.