فيينا – حسام شاكر —-
أَدرَكَ أنّ الذين انتزعوه من الوطن أعجز من أن ينتزعوا الوطن منه. أبصرناه وهو يعيش العودة، ويحدو للقافلة التي تمضي صوب الوجهة. كان يجسِّد الحلم ويبعث الأمل، يخوض التحدِّي وينثر البشرى. لم يأبه بسني عمره التي تتقدّم به إلى قدر محتوم، ولا بمتاعب الجسد المنهك وأوجاعه التي تتراكم، فالأعباء الثقال تهون، تهون حقاً على من يحمل فلسطين على عاتقه، حتى الرمق الأخير.
أنجز «الحاج صالح» حصّته من الأعباء. خاض مسيرة طويلة بين الأشواك والصخور، وشقّ دروباً وعرة لمن بعده.. ثم رحل
رحل، وجميعنا يقول: لا ترحل.. ما زالت في الشوط بقيّة، فالزمان أوشك على أن يستدير لفلسطين، ولعلّنا نستحثّ الخُطى فتعيشَ اللحظة ونعيشها.
رحل، وبرحيله نودِّع جيلاً نتشبّث ببقاياه ونتمسّك بتلابيبه. أليسوا هم من عاشوا النكبة لحظة بلحظة؟! تجرّعوها بعيون الطفولة التي أُلقي بها في الخيام الممزّقة بين حقول الشوك. تجمّدت طفولتهم، فاحتفظوا بالمشاهد الأخيرة قبل الاقتلاع، المشاهد النادرة، قبل أن تكون نكبة وتكون خيام. وبمشاهدهم الملوّنة تلك حملوا فلسطين بحياتها وعبقها ومفاتيحها؛ إلى الأبناء والأحفاد، إلى مخيمات لبنان، ومنافي أوروبا، إلى الدنيا بأسرها التي عليها أن تعيش فلسطين وتعي المظلمة.
كان «أبو ناظم» يحمل فلسطين حقاً على عاتقه، ويضمّ بين ذراعيه «هادي»؛ حفيده الذي أبصر النور بعينين بارقتيْن تلمحان حيفا الراقدة بانتظار العائدين؛ من فيينا.
وفي فيينا؛ تطوّرت قصة «الحاج صالح» مع العودة. فالعودة تحوّلت معه إلى غرس يُورِق ويستوي على سوقه. أصبحت العودة مشروعاً يتعاظم وبرنامجاً يتوسّع، باتت إرادة تتأجّج.
لقد فهِم المعادلة وأدرك المنطق واستوعَب الدرس. فمن يزرع بازل؛ يحصد مؤتمرات العائدين؛ في لندن وبرلين وفيينا.. وفي مالمو وروتردام، ومن بعدها كوبنهاغن. لن تتوقف المحطّات، ولن نطيل الانتظار، ولن نصغي للقاعدين.
طويلة هي الطريق؛ ولا سبيل سواها، وغالية هي الضريبة؛ ولا مناص منها. هي العودة كما جرّبها، وكما عاشها قبل أن يمضي.
مضى «أبو ناظم» بصمت، يتقدّم الذين يصنعون الفُلك في منافٍ بلا ضفاف، ينسج الأشرعة ويوقد الهمم. كان واثقاً بأنّ الماء سيعلو ذات صباح، وأنّ السفن المتناثرة في بؤر الأمل ستُبحر لا محالة، تلك هي السنن التي لا تخطئ عناوينها عندما يحين الأوان.
رحل «الحاج صالح»، قبل أن يصاحبنا في بقيّة الرحلة، في الأشواط الهانئة منها ربّما. كان باسماً، في اللحظات التي فارقَنا فيها. إنها ابتسامةُ المؤمن، الواثق بسلامة الوُجهة واستكمال المسيرة، ولا يهمّ عندها إن كان سيلامس الشاطئ بقدميْه أو لا، فقد أبصر فلسطين حقاً في خيط الأفق، وأبصرَته هي أيضاً بعد أن أدّى الرسالة، ومضيا.
رحل الحاج صالح طرسوسي، في ذروة العودة إلى حيفا، العودة التي لم تعد مجرد كلمات مسطورة في نصوص الأمم. رحل الجسد في فيينا العالقة في المنعطف، وبقيت الروح في تألّقها. فما زال ابن حيفا البارّ، يتقدم العائدين الذين قضوا على الطريق ذاته، يحدو للمسيرة ذاتها، لكنها الآن تستحثّ الخُطى وتسرع في الإياب.♦