هذا التحقيق الاستقصائي بالغ الخطورة، وهو يكشف بتفاصيل مذهلة، كيفية تكوين تنظيم داعش في سوريا ودور الاستخبارات السورية في ذلك، كما يرصد التعاون العسكري بين جيش بشار الأسد وبين ميليشيات داعش في مواجهة ثوار سوريا وكتائبهم المعتدلة، والتقرير الخطير أعده “روي غوتمان” المراسل الصحفي الحائز على جائزة “بوليتزر” العالمية للصحافة.
وأوضح التحقيق، أن المئات من عناصر المليشيات لإسلامية عبرت الحدود من العراق إلى شرق سوريا في عام 2012 تحت أعين الجهاز الأمني المشدّد لنظام الأسد. وعند وصولهم، تلقت أجهزة المخابرات السورية مجموعتين من التعليمات.
وأضاف التحقيق أن إحدى هاتين المجموعتين كانت تعليمات مكتوبة، وتضمّنت أسماء ومعلومات عن الجهاديين، مرفق معها تعليمات تأمر باعتقالهم وقتلهم، لكن هذا لم يكن إلا تمويهاً، وبينما وزّع النظام مجموعةً من التعليمات يأمر فيها بقتل هؤلاء الجهاديين، أرسل النظام سراً مبعوثين رسميين برسالة مغايرة.
وقال محمود النصر، وهو مسؤول سابق بالمخابرات شمال سوريا انشقّ في أكتوبر عام 2012، إن هؤلاء المبعوثين “أتوا من مقر القيادة، وعقدوا اجتماعات خاصة بجهاز المخابرات، وأمرونا بالابتعاد عنهم وعدم لمسهم”.
وأشار إلى أن الجهاديين قدموا إلى سوريا في مجموعاتٍ من 3 أشخاص، وأحياناً 5، ثم أصبحوا مئات.
وأضاف قائلاً: “وصلوا إلى سوريا ثم بدأ كل منهم بإحضار أصدقائه”. ونوه التحقيق إلى أن أغلب هؤلاء الجهاديين أنضم إلى جبهة النصرة، وهي جماعة أعلنت انتماءها للقاعدة في أبريل عام 2013، وانقسمت بعدها إلى مجموعتين، جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بينما انضم بعض الجهاديين المتسللين إلى سوريا لتنظيم أحرار الشام، وهي جماعة إسلامية ثالثة أكثر اعتدالاً.
وتابع: تسلّط هذه التعليمات المتناقضة الضوء على العلاقة الخفيّة بين نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إذ يزعم الأسد أن المعارضة السياسية المحلية ضده تتكون بأكملها من الإرهابيين العازمين على تدمير الدولة السورية، ويناشد بانتظام المجتمع الدولي طالباً المساعدة في حربه ضد الإرهاب، لكن النظام السوري في الحقيقة سهّل صعود وتوسّع الجماعة الإرهابية الحقيقية في سوريا: تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وقال مسعود بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، في مقابلةٍ حديثة مع صحيفة “ديلي بيست” الأميركية إنَّه “أحياناً هم حلفاء، وفي أوقاتٍ أخرى هم أعداء، أحياناً يتعاونون معاً، وأحياناً يقاتلون بعضهم البعض.
إذاً ما هو النمط المتّبع؟ الله وحده يعلم”. وبّين التحقيق أن أن علاقةً طويلة المدى تربط بين نظام الأسد والدولة الإسلامية، يعود تاريخها لحرب العراق، عندما ساعدت سوريا آلاف المتطوعين على دخول العراق عبر حدودها لمحاربة الاحتلال الأميركي، حيث سجن النظام السوري أكثر من 1000 جهاديّ عقب عودتهم من العراق، لتطلق سراحهم مرة أخرى عام 2011 أثناء قيام السوريين بثورة ضد النظام، كثير من هؤلاء أصبحوا اليوم قادة في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
واستطرد: وعقب وصولهم عام 2012، أدار النظام وجهه عن استيلاء المتطرفين على قواعد حكومية. كما سمح لقوافل الجهاديين بالعبور ذهاباً وإياباً بين سوريا والعراق، ولم يحرّك ساكناً لمنع التنظيم من إرسال أسلحة إلى العراق، وهو ما ساعد التنظيم بالعراق في الاستيلاء على الموصل في يونيو عام 2014.
وتابع: والآن، يقصف النظام السوري قرى خاضعة لحكم التنظيم ببراميل متفجّرة، لكنها تستهدف المدنيين عادةً.
بينما يسود الهدوء على خط الجبهة بين الطرفين. وقالت كارين فون هيبل، وهي مسؤولة سابقة بوزارة الخارجية الأميركية كانت تعمل على القضية السورية لست سنوات حتى نوفمبر عام 2015، إنَّه “عموماً، كان النظام السوري يتجاهل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)”.
وأضافت: “ستجد صعوبةً في إيجاد حوادث لهجوم النظام على التنظيم، والهجمات المتفرقة التي نفّذها النظام استهدفت المدنيين أكثر من مقاتلي التنظيم”.
وكانت فان هيبل، التي تدير الآن المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث يقع بمدينة لندن، تستخدم اسماً بديلاً لتنظيم الدولة الإسلامية، إذ كانت تسميه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (ISIL) بدلاً من الاسم الشائع الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (ISIS).
وذهب وزير الخارجية الأميركي جون كيري لمدى أبعد، عندما قال في نوفمبر 2015 إنَّ الرئيس السوري بشار الأسد، الذي أطلق سراح 1500 سجين من الجهاديين، هو من أوجد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومعه رئيس الوزراء العراقي السابق نور المالكي، الذي أطلق سراح 1000 آخرين.
وقال كيري عقب هجمات باريس الإرهابية إنَّ الأسد أراد بهذا أن يقول “إما أنا أو الإرهابيين”. بينما قال سعيد الجياشي، الذي كان آنذاك عضواً في جهاز الأمن الوطني العراقي، إنَّ الأسد “ساعد في إنشاء الطريق الذي استخدمه الإرهابيون من كل أنحاء العالم للقدوم عبر سوريا لمحاربة الأميركيين في العراق”.
كانت الخطوة الأولى في صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أكتوبر عام 2011، عندما أرسل أبوبكر البغدادي، الذي كان قائد تنظيم القاعدة في العراق آنذاك، محمد الجولاني، أحد قادة الميليشيات، إلى سوريا لتشكيل جبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا.
ثم في ربيع عام 2012، بدأ وصول الجهاديين إلى سوريا، وقال نبيل دينال، وهو سوري من شرق سوريا انشق عن الحكومة في يونيو عام 2012، إنَّ النظام “علم بوصول الجهاديين، وعلم بتواجدهم في المناطق الريفية، وأنهم يتحركون عبر القرى، لكنه لم يستهدفهم”.
وقال النصر، مسؤول المخابرات السابق من شمال شرق سوريا، إنَّه “في بعض الحالات، كنّا نقدّم اسماً لأحد رؤسائنا في القيادة، ونقول إنَّ هذا الشخص موجود داخل مناطقنا.
لكنني لم أكن أتلقى أية أوامر من القيادة لمراقبته. ولم يكن النظام يوفر أية معلومات أكثر عن هذا الشخص”. تعرّف زعماء القبائل في المناطق الحدودية على المقاتلين العائدين إلى سوريا، بحسب سلمان شيخ، المدير السابق لمركز أبحاث بروكينغز في قطر، الذي اجتمع مع شخصيات سورية بارزة بانتظام لرسم صورة واضحة لمستقبل البلاد.
وقال: “كانوا قد رأوا هؤلاء الأشخاص يعبرون خارج الحدود بين عامي 2003 و2005، والآن رأوهم بأم أعينهم مرة أخرى، ورأوا أنهم لم يعودوا فحسب، بل قوبلت عودتهم بشيءٍ من الترحاب.
ولم يتصدى لهم أحدٌ من الحكومة”. ومر التنظيم بمواجهات قليلة، إن وُجدَت، مع الجيش السوري، الذي استمر بإدارة قاعدة عسكرية كبرى خارج الرقة.
حتى بعد أن رفع التنظيم أعلاماً سوداء ضخمة على مقار حكومية سورية، وجعل الرقة عاصمة لدولته الإسلامية المزعومة، وأعلن سيادته على المنطقة، لم تستهدف طائرة سورية واحدة أياً من تلك المواقع. ومن داخل مقره في الرقة، أدار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) نفسه كدولة داخل دولة. قدّمت لمواطنيها أكثر نسخ القانون تطرفاً، ونفّذت مجموعة من الإعدامات العلنية، واضطهدت السكان المسيحيين حتى فرّوا منها. وفي تطوّرٍ مشؤوم أرسل التنظيم أسلحة ومقاتلين ومؤونة لقواته في مناطق أخرى في سوريا، ومن وإلى العراق، بينما وقف الجيش السوري مراقباً فحسب لما يجري.
وبينما استمر التنظيم في إحكام سيطرته على شمال سوريا، أعلن شنّ هجوم عسكري ضد الثوار المدعومين من قبل الغرب، الذي سماه باسم عملية “نفي الخبث”. واستولى التنظيم على المعبر الحدودي الرئيسي الذي اعتمد عليه الثوار للحصول على إمدادات الغرب والخليج من الأسلحة والمعدات، وهاجم قواعد ونقاط تفتيش الثوار، واختطف مراسلين سوريين وأجانب ليطلق سراحهم مقابل فدية، واغتال التنظيم أيضاً بعض القيادات بقوات الثوار، واختطف آخرين، ثم قدّمهم للمحاكمة وأعدمهم علنياً.
وإحدى الأمثلة المبكِّرة على دعم نظام الأسد لتوسُّع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من خلال القوة العسكرية كان في مدينة الباب، التي تقع شمال حلب، واستولى عليها التنظيم في سبتمبر/أيلول عام 2013. وكانت المواجهات المباشرة بين قوات التنظيم وقوات الأسد نادرة نسبياً، وفي يوليو 2014، بدأت القوات الجوية التابعة لنظام الأسد في قصف بعض المنشآت التابعة للتنظيم، وفي الشهر التالي، اجتاح التنظيم آخر القواعد العسكرية التي يسيطر عليها النظام السوري خارج مدينة الرقة، وأعدم مئات الجنود السوريين.
بعض الأدلة على التواطؤ بين النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هي أدلة ظرفية، مبنية على فشل الأسد في مواجهة توسُّع جبهة النصرة ومن بعدها تنظيم الدولة الإسلامية. وبعض هذه الأدلة يستند إلى معلومات استخباراتية.
إذ قال أحد المسؤولين الأتراك رفيعي المستوى في لقاءٍ بمدينة أنقرة إنه تمكن من اعتراض مكالمة لاسلكية يخبر فيها أحد القادة العسكريين السوريين مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بضرورة إخلاء إحدى المناطق قبل السادسة صباحاً، وذلك لأن القصف الجوي على المنطقة سيبدأ في هذا الوقت.
وفي مكالمةٍ أخرى تم اعتراضها أيضاً، كان أحد القادة بالنظام يقترح مكافأة التنظيم على تعاونه مع النظام. وقال المسؤول التركي إنَّه “إن نظرت إلى الطريقة التي تسير بها الأمور، لم يقم النظام السوري أبداً بقصف أية منطقة يتحكم بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
كانوا يقصفون المناطق دائماً بعد رحيل مقاتلي التنظيم، أو قبل بداية هجوم قوات التنظيم على المنطقة”.
وعندما هاجمت قوات التنظيم مدينة تدمر القديمة في مايو عام 2015، أخلى الجيش السوري معظم قواعده العسكرية بالمدينة قبل الهجوم، ولم يدافع عن المدينة سوى بشكلٍ متواضع، وسمح بوقوع مخازن الأسلحة الخاصة به في يد التنظيم. وأثناء ذلك، كان النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يتشاركان في أكثر حالات التعاون وضوحاً في سوريا. وقال أحد المسؤولون بوزارة الدفاع الأميركية، والذي تحدث بشرط عدم ذكر اسمه، إنَّهم قد رأوا “قوات الأسد توفر الدعم الجوي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
لابد أن هناك اتفاقاً ما بينهما. وقد حدث هذا أكثر من مرة”. وكشف مسؤولو الأمن الأتراك تاريخ، وموقع، وهويات المشاركين بهذا الاجتماع، واستطاع أحد المراسلين تأكيد التفاصيل الأساسية بخصوصه.
كان هجوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مدينة مارع في يونيو/حزيران 2015، والذي دعمته قوات النظام، ضربةً مذهلة. أرسل التنظيم القوافل التي تكونت من حوالي 60 مركبة من عدة أماكن بشمال سوريا للوصول إلى المنطقة الحدودية، ووصلت حتى كان بينها وبين المعبر بين سوريا وتركيا حوالي 6 أميال. لكن قوات الثوار اتجهت من عدة مناطق إلى مدينة مارع، ومنعت التنظيم من قطع الطريق القادم من تركيا، والذي تتدفق من خلاله المساعدات العسكرية والإنسانية إلى حلب.
ومن الأمثلة الحديثة لهذا التعاون الواضح بين قوات النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ما حدث في أكتوبر/تشرين الأول 2015، عندما اضطرت قوات الثوار للانسحاب من مدرسة المشاة السابقة بشمال حلب، التي استولى عليها الثوار في ديسمبر/كانون الأول عام 2012.
إذ شنت قوات التنظيم هجوماً عنيفاً على الموقع باستخدام الدبابات والمدفعية الثقيلة والسيارات المُفَخَّخة، لكنها لم تستطع السيطرة عليه، وذلك طبقاً لأحد المتحدثين باسم كتيبة الصفوة، إحدى الفصائل المقاتلة في سوريا. وبعد ذلك، وأثناء قيام طائرات النظام السوري بقصف المدرسة، تحركت قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حول المدينة لقطع طريق الهرب على قوات الثوار.
وبعد مقتل عدد كبير منها، وصل إلى حوالي 70 فرداً، اضطرت قوات الثوار إلى الانسحاب من مواقعها بالمدينة وتركها للتنظيم، والذي سلمها بعدها إلى قوات النظام السوري. وفي فبراير الماضي، جمع الثوار بعض الأدلة والصور التي تثبت أن النظام وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بينهما اتفاقٌ فعَّال بعدم الاعتداء.
إذ قال أسامة أبو زيد، المستشار القانوني للمعارضة السورية، إنَّه عندما استخدم الثوار طائرات بدون طيار لتصوير الجبهة التي تمتد إلى 35 ميلاً بين قوات الأسد وبين قوات التنظيم، اكتشفوا عدم وجود تحصينات على الجانبين، وعدم وجود أية أدلة على حدوث اشتباكات بين الطرفين.
وأضاف: “كان هناك عددٌ قليل من المقاتلين على جانبي الجبهة، لكن العدد كان أقل جداً من أن تكون هناك حربٌ بين الطرفين”. وقال أسامة إنَّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يستمر في استخدام السيارات المٌفَخَّخة، سلاحه المفضل، ضد قوات المعارضة المعتدلة، لكنه لا يستخدمها ضد قوات الأسد أو حلفائه، أو حتى ضد الميليشيات الكردية، والمعروفة باسم وحدات حماية الشعب، التي تتحالف معها الولايات المتحدة الأميركية.
وأثناء هجوم قوات النظام بمساعدة الطائرات الروسية لإنهاء حصار الثوار لمدينتي نبل والزهراء، لم يطلق التنظيم رصاصةً واحدة. ويعتقد بعض المراقبين أن هذا التعاون الواضح بين قوات النظام وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لن يستمر للأبد.
لكنهما، في الوقت الراهن، يعملان جنباً إلى جنب.
ويرى بسام بربندي، الدبلوماسي الروسي السابق والمقيم بواشنطن حالياً، إنَّ سبب هذا التعاون بين النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واضح، ويقول إنَّ “كلا الطرفين يعلمان أنه لا يمكن لكلاهما البقاء، لكنهما يريان أنه قبل الوصول إلى الخطوة الأخيرة في الحرب، يجب عليهما أن يقتلا كل المعتدلين. وهذا هو الأمر الذي يعمل فيه الطرفين معاً بشكل وثيق”.