إن الازدراء بالعربية ـ بل وبالانتماء العربي لدى البعض ـ هو من سمات هذه المرحلة وهو موضوع تطرقت إليه من قبل، ونبهت أن الازدراء باللغة تعبير عن احتقار الذات، ومن علامات الهزيمة الحضارية، التي هي أخطر من الهزيمة العسكرية، فأي بلد يمكن ان ينهزم عسكريا لكنه لا يسقط او ينكسر حضاريا وثقافيا، لكنه ان انهزم حضاريا فتلك هي القاصمة. الامر الذي يعني اننا بصدد كارثة حقيقية، لا تهدد اللسان العربي في مصر فحسب، ولكنها تهدد ايضا البناء النفسي للاجيال الجديدة، التي انتقل إليها الازدراء بالعربية بصورة تلقائية
إلي هنا انتهي كلام المفكر الكبير فهمي هويدي في تعليقه علي أخطاء لغوية في حديث وزير التعليم
لقد تعلمنا من التاريخ انه إذا أردت أن تنشأ أجيال جديدة لاترتبط يحاضرها قبل ماضيها اقطع صلتها باللغة وكم من أمم كافحت بكل قواها للحفاظ علي لغتها الأصلية حتى ولو كانت صعبة فظة وغير متداولة والمثال الصارخ علي ذلك ألمانيا واللغة الألمانية نفسها
لقد انتابني الذهول والتعجب والحيرة من طريقة تعامل أولياء أمور الطلاب مع دروس اللغة العربية كعرض من العروض المجانية للحكومة النمساوية لكل اللغات الأم ومنها اللغة العربية
لقد حاولت مرارا وتكرارا أن اشرح لأولياء الأمور- من أراهم منهم ولا أري إلا القليل بالطبع- مدي أهمية تعلم اللغة العربية لتكوين الشخصية العربية حتى ولو كنا في بلاد الواق واق
اللغة هي ليست لغة نتحدث بها فقط ولكنها لغة تشكلنا من ثقافة وحضارة وسلوكيات ومشاعر وتعبير
عندما قرر الاتحاد الأوروبي تدريس اللغات الأم في المدارس الأوروبية كان ومازال الغرض الأول هو تسهيل الإدماج علي كل الأجانب في كل المجتمعات الأوروبية لأنهم كانوا أمام معضلتين إما أن يتعلم الآباء والأمهات لغات الدول الأجنبية التي يعيشون بها ويكونوا هم المعبر لأولادهم للتربية الأوروبية والفهم والتواصل مع المدارس ولم تنجح الجهود لحل هذه المعضلة لأسباب كثيرة وعلي رأسها كبر سن المتعلمين
فكانت المعضلة الثانية وهي تعلم الأبناء لغتهم الأصلية لغة الأم ويكونون هم المعبر لأنفسهم ولآبائهم ولبلدانهم الجديدة من خلال دمج الثقافتين من خلال تعلم اللغتين ولكن هنا تكون اللغة الأم كما لو كانت هي اللغة الثانية بالنسبة للطلاب
الصدمة التي واجهها كل من درس اللغة العربية كلغة أم وخاصة من يأخذ المهنة مأخذ الجد ويريد أن يفيد الطلاب بما تعلم من فنون التدريس بالأساليب التربوية الحديثة المتبعة هنا في المدارس النمساوية وبالحس اللغوي والاطلاع علي كل قواعد لغتنا الجميلة دائما حتى لايقدم للطلاب لغة متهرئة
الصدمة هي عدم مبالاة الغالبية من العرب لتعليم الأولاداللغة العربية وحتى إذا سجل أولاده وحضروا إلي الدروس لا اهتمام بالنظام المتبع في الدرس- من أدوات للحصة كالكراس او القلم او ما اطلبه وهو لاشئ وملقي في منازلهم في سلال السنوات الماضية- ولكني استخدمه لعمل أشياء مبتكرة لتعليم اللغة بشكل تربوي مبسط
عدم الاستجابة لمتطلبات الدرس لها تبريرات تبدأ من نسيان الكراس والأوراق أو ضياعهم في المنزل أو التحجج بالواجبات المدرسية الكثيرة كما لو كان العربي ليس واجبات مدرسية ولا تنتهي بالأمهات اللاتي ليس عندهن وقت لتساعدن أولادهن في مراقبة عمل الواجبات
أما حديث الأمهات وخاصة ماوراء الستار اغرب وأعجب يشتكون من الواجبات لأنهن ليس لديهن وقت- وهن كل مايفعلونه- فقط المراقبة والارشاد في عمل الواجبات
يالها من مأساة أن تجد بني جلدتك- ومن كل المستويات الاجتماعية والعلمية- يلقون بأولادهم إلي التهلكة وكلما حاولت توضيح أهمية تعلم اللغة وخاصة إن أكثر من تسعين بالمائة من الطلاب لايعرفون القراءة والكتابة او الإملاء مابالك بقواعد اللغة يعطونك دروس في اليسر والتيسير لدرجة أنه ياحبذا لو قضوا الأولاد أوقات مسلية وممتعة حتى يحبوا الحضور الي دروس العربية لأنهم يبكون ويعضون الأرض حتي لايحضروا العربي وتكون الأمهات ضربت عصفورين بحجر واحد من ناحية أراحت أولادها و سارت علي هواهم لأنهم هم الذين يربونها ومن ناحية أخري أراحت ضميرها الذي ينغص عليها أحيانا لأن العيال في بلادنا يحسبوا علي الأميين
ولكن كيف ذلك واللغة العربية تمثل أطول الآداب العالمية عمراً علي الإطلاق، فهي اللغة التي يستطيع أبناؤها قراءة خمسة عشر قرنا من الإبداع والمعرفة، في حين أن تاريخ اللغات الأخرى لا يزيد علي خمسة قرون؟
ولكن للأسف الموضوع أخطر مما يتخيلون فاللغة هي أساس أي تكوين حضاري وقوة اللغة من قوة الحضارة التي تمتلك تلك اللغة وقبل عام 1920 كان هناك أكثر من 75 لغة تكتب حروفها باللغة العربية ثم أتى الاستعمار الذي يأتي معه مركز للدراسات تبحث في كيفية إعلاء حضارتها على حضارة مستعمراتها لكي تهيمن وتسيطر عليها بشتى الطرق الممكنة
تلك المراكز البحثية وجدت أن الطريقة الأقوى لفرض هيمنتها على العالم هو بفرض لغتها.
فبدأ المستعمرون في الدول العربية يضعفون منها في أفريقيا مثلا حولوا اللغة السواحيلية التي يتكلم بها قسم كبير من أفريقيا لكي تكتب بحروف لاتينية بالرغم من أن جميع الدراسات أكدت أن كتابة اللغة السواحيلية بحروف غير العربية ستضعف منها كثيرا إلا أن الهدف وقتها لم يكن إضعاف أو تقوية اللغة السواحيلية بقدر ما كان الهدف هو القضاء على اللغة العربية تمهيدا لإضعاف الكيان العربي بالكامل
وعلي الجانب الاخر توجد تجربة لابد ان ينظر اليها بعين الاعتبار والتامل والتعلم ونتذكر عبارة قالها مفكر يهودي في نهاية القرن التاسع عشرعلي مشارف إعلان الدولة اليهودية. قال إليعازر بن يهودا “لا حياة لأمة دون لغة!” وبدأ تنفيذ مشروع استمر50 عاما تحولت العبرية خلاله من لغة دينية ميتة إلي لغة تدرس من الروضة حتى الدكتوراه في علوم الفضاء، فنجت اللغة وتجسدت الأمة
قبل قيام دولة إسرائيل كان يهود الدياسبورا (الشتات) يتكلم كل جماعة منهم بلغة الدولة التي يعيش بها ويعتبرها لغته حتى قام المفكرون اليهود وأدركوا انه ما من حضارة بدون لغة ولكي يحيون حضارتهم لا بد من إحياء لغتهم أولا. وبدأت الجماعات اليهودية في نشر اللغة العبرية وسط اليهود بل أن أحد اليهود الذي كانوا مؤمنين بتلك الفكرة قد أجبر عائلته وأطفاله أن يتكلموا بالعبرية داخل المنزل للأبد. والآن بعد نجاحهم في تكوين دولتهم فالجامعات في إسرائيل لغتها الأولى هي العبرية حتى في الأقسام التخصصية الدقيقة مثل الطب.
السؤال الأهم هو لما لايهتم أولياء الأمور بتعليم أولادهم اللغة العربية وهي بكل هذا التيسر وعدم التكلفة والمدارس الموزعة في كل فبينا؟ مع أنهم من المفروض عليهم أن يكافحوا ويبذلوا أقصي مافي وسعهم لتعليم أولادهم اللغة العربية بجدية لما كان قديما تعلم العربية كفاحا ومشقة ولان الأولاد ليس لهم إطار وحصن يحميهم غير الإيمان الداخلي بقيم وسلوكيات ومعتقدات الحضارة العربية بين قوسين اللغة العربية والقراءة العربية لكل هذا الفكر الذاخر بكل مايشفي غليل صدورهم في فهم الهوة بين حضاراتنا والحضارات الاخري والقدرة علي التعامل مع كل تلك المتغيرات التي حولهم بالفكر والكياسة العربية وهم يقفون علي أرض ثابتة
تسعى أوروبا الموحدة بلغاتها المتعددة إلي إحياء كل بلد للغتها الأصلية الحديثة من أجل بناء دولتهم. وتجاهد الحركة الفرانكوفونية علي بقاء نفوذ الثقافة الفرنسية في العالم بعد انحلال إمبراطوريتها السياسية،ونفرط نحن في لغتنا القومية وندير ظهورنا إلي تراثنا وثقافتنا ومفرداتنا الشرقية العربية ونتطلع إلي الثقافات الغربية
ان عدم الاكتراث باللغة العربية للابناء وعدم إتقان اللغة الألمانية للاباء يخلق في النهاية جيل جديد من الأميين
ويكون للعرب في الغرب وخاصة في الحالة التي المسها النمسا حالة من التميز العربي النادر والشوفانية العربية في سيرهم علي درب الحياة بالنظر فقط تحت أرجلهم ولا ينظرون ولو بعد عشر سنوات ماذا ستفعل تلك الأجيال وأي طريق صعب وشاق ومظلم نلقي بهم فيه ولا يستثني من هذا التصور إلا من رحم ربي
أجيال من الاباء لا يتقنون اللغة الألمانية وبالتالي لا يفهمون ثقافتهم أو كيفية الاندماج معها
وأجيال من الأبناء لا يتقنون اللغة العربية وبالتالي لا يفهمون ثقافتنا أو كيفية الانتماء لها
ويكون هناك وبشكل استثنائي عربيا اوروبيا التبادل الأمي عوضا عن التبادل الثقافي الذي يخلق عوضا عن ا مبراطورية العلم والتميز والنهوض يخلق امبراطورية الأميين
وللحديث بقية
الكانبه .. فاطمة حنفي .. فيينا