قد يكون ولوج العربي المسلم إلى حقل الدراسات اليهودية مفعماً بالإثارة، أو هو حافل بالتشويق والملابسات الشائكة كذلك. فاهتمام الجمهور العربي بالشأن اليهودي، ارتبط لعقود متواصلة بطابع “التعرّف على العدوّ”، وإن كان الواقع العلمي له متطلبات أخرى.
وتتعدّد الشواغل البحثية التي تصادف الدارسين في حقول الدراسات اليهودية، ومنها الدراسة المقارنة للقصص الواردة في المصادر الدينية.
فما هي مثلاً مجالات المقارنة في القصص التي تناولتها المصادر الإسلامية واليهودية، بما فيها من عناصر
الدكتور المتبولى بقدم أمسيه الأحتفال بعيد رمضان المبارك لعام 2008
مشتركة وفوارق؟ وماذا عن مكان الالتقاء والافتراق في قصّة هامة، هي قصة النبي يوسف عليه السلام، كمثال، كما وردت في المصادر الإسلامية واليهودية؟
وما هي الأبعاد الكامنة وراء ما يتمايز به بعض القصص الديني في المصادر اليهودية عن نظيرتها في المصادر الإسلامية؟ من قبيل قصة الأمر الرباني للنبي إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فلدى اليهود كما هو معروف هذا الابن ليس سوى النبي إسحق عليه السلام، بينما هو في الإسلام النبي إسماعيل عليه السلام.
وماذا عن قضية “الإسرائيليات” في كتب التاريخ التي ألفّها المسلمون وكذلك في تفسير القرآن الكريم، وما تثير من هذه القضية لغط ومراجعات متزايدة في الآونة الأخيرة؟
وماذا عن الملابسات التي أحاطت بالدراسات اليهودية كحقل بشكل عام في العالم العربي. طوال العقود الماضية، وما الذي تغيّر لاحقاً على صعيد هذا الحقل؟ وهل من فوارق في حقل الدراسات اليهودية بين الخبرة الأكاديمية العربية ونظيرتها الأوروبية؟
الدكتور المتبولى يتسلم درع هيئه إغائه العراق تقديرا ّلجهودة برعايه أيتام العراق
هذه القضايا وما يتصل بها، هي التي انشغل بها هذا الحوار، الذي أجرته وكالة “قدس برس”، مع الأكاديمي العربيّ المتخصص في الدراسات اليهودية، الدكتور أحمد المتبولي، المقيم في فيينا.
وقد حصل الدكتور أحمد المتبولي، وهو مواليد القاهرة في العام 1973، على ليسانس الآداب من قسم اللغة العبرية بكلية الآداب جامعة عين شمس المصرية عام 1995، ومن ثم حصل على دبلوم الترجمة العلمية من
وإلى اللغتين العبرية والعربية من قسم الدراسات العليا بالكلية ذاتها عام 1997.
وحصل المتبولي على درجة الماجستير في الدراسات اليهودية، من معهد الدراسات اليهودية بجامعة فيينا عام 2004، وكان عنوان بحثه “قصة يوسف في التفاسير اليهودية والإسلامية”.
ومن ثم حصل الباحث على درجة الدكتوراة في الدراسات الشرقية، من معهد الدراسات الشرقية بجامعة فيينا عام 2008. وكانت عنوان الأطروحة “التطوّر الدلالي للمصطلحات الدينية المشتركة بين اللغتين العربية والعبرية”.
وقد سبق للدكتور أحمد المتبولي، أن عمل أمينا للجنة الاقتصادية بالمجلس الأعلى للثقافة بوزارة الثقافة المصرية، كما عمل محرراً مترجماً بهيئات عامة تتبع وزارة الإعلام المصرية، وهو علاوة على ذلك يعمل صحفياً حرّاً مع عدد من وسائل الإعلام.
نص الحوار
وفي ما يلي نص الحوار، الذي أجرته “قدس برس” في فيينا، مع الدكتور أحمد المتبولي، الأكاديمي المختص في الدراسات اليهودية.
ـ لنسأل ابتداء عن اهتماماتك البحثية وأهمّ ما اشتغلت عليه من الدراسات .
* تنصبّ الاهتمامات البحثية في مجملها على مجال التخصص (دراسات اللغة العبرية وآدابها)؛ حيث يشغلني من خلال ما أقوم به من دراسات في المقام
الأول اكتشاف وإبراز أوجه التقابل والتباين بين كل من الناطقين باللغتين العربية والعبرية. وأعني هنا المجال الفكري القائم على خلفية تراثية دينية، لكونها تشكل الخطوة الأولى على سلم التعرف على الدعائم الاجتماعية والمجتمعية التي تقوم عليها حياة كلا الفريقين.
وربما كانت دراسة مصغرة أعددتها منذ سنوات عن الذبيح (ذبيح إبراهيم) بين الإسلام واليهودية، هي نقطة الانطلاق الفعلي لي على هذا الطريق الممتع. وأعقبتها دراسات موسّعة في المجال ذاته عن النبي يوسف عليه السلام، وتلتها دراسة أكاديمية لغوية عن المصطلحات الدينية المشتركة بين اللغتين العبرية والعربية ومظاهر التطور الدلالي لها.
جوانب الالتقاء والافتراق
ـ هناك قصص تتناولها المصادر الإسلامية واليهودية، وقد نجد في بعض القصص عناصر مشتركة وفوارق. من واقع دراستك لقصة النبي يوسف عليه السلام، ما أبرز ما لفت انتباهك لجوانب الالتقاء والافتراق بين المصادر الإسلامية واليهودية؟
* قصة يوسف في مصادرها اليهودية والإسلامية زاخرة بأوجه الاتفاق والاختلاف التي ربما لا يتسع المجال لسردها جميعاً. ولعلّ أول ما يلفت الانتباه هو أنّ قصة يوسف عليه السلام في مجملها تنحصر، بحسب الرواية التوراتية والنص القرآني، بين رؤيا يوسف عليه السلام وتحققها. ويتلو ذلك حقيقة أنّ القصة التوراتية منذ بدايتها تحدِّد اتجاهاً واضحاً لها، وهي أنها قصة عائلية، إن صحّ التعبير، وربما يدل على ذلك ما ورد في بداية القصة (سفر التكوين – الإصحاح 37) من إقامة يعقوب في أرض كنعان، ثم ذكر أحوال يوسف واخوته كامتداد لقصة الأب. كذلك القصّة القرآنية لها إطار واضح ومحدّد منذ بدايتها؛ وهو الإطار الديني. فسورة يوسف تبدأ بإخبار النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه سيُتلى عليه أحسن القصص.
وأبقى في هذا الإطار الديني؛ حيث يمكن بسهولة إدراك التدخل الإلهي في أحداث القصة منذ بدايتها وحتى نهايتها؛ حيث ترد ألفاظ تدلّ على ذلك مثل: (والله عليم بما يعملون) (19).. (والله غالب على أمره) (21)، إلى غيرها من الآيات التي تدلّ على أنّ القصة كلها تدبير إلهي وتسير بعين الله. هذا التدخل الإلهي ليس له وجود في القصة التوراتية إلاّ بقدر يسير.
الجانب الدرامي في القصة
وماذا عن القصة وخصائصها والجانب الدرامي فيها .. طبقاً للمقارنة؟
* من منظور قرآني نجد أنّ قصة يوسف هي القصة الوحيدة التي أُفردت لها سورة بكاملها دون أية تفرعات عن المشهد الرئيسي، ألا وهو يوسف وحياته المليئة بالعجائب. هذه الوحدة في المشهد والتسلسل، إضافة إلى الترتيب المنطقي الجذاب للأحداث داخل القصة القرآنية يجعلها بحق عملاً درامياً رائعاً اكتلمت له جميع الجوانب الفنية.
هذه الوحدة الدرامية غائبة في القصة التوراتية؛ حيث يصطدم القارئ أول ما يقرأ بأنّ يوسف كان ابن سبعة عشر ربيعاً عندما قصّ رؤياه علي أبيه وإخوته. هذا السن الكبير نسبياً بالنسبة لأحداث القصة يجعلنا نفكر كيف أتمّ إخوة يوسف مكيدتهم المعروفة، وكيف لم يتمكن يوسف اليافع من اجتياز تلك المحنة.
كما أن قصة يوسف التوراتية تتوقف لمدة إصحاح كامل (الإصحاح الـ38 من سفر التكوين) بقصة دخيلة على السياق، ثم تتواصل قصة يوسف مرة أخرى في بقية الإصحاحات دون إشارة توراتية أو من قبل المفسرين اليهود لحدوث هذا القطع للقصة.
كما تتفق القصة التوراتية والقرآنية على أمر واحد، وهو أنّ يوسف عليه السلام كان، برحلته الإجبارية إلى مصر، بمثابة الجسر الذي عبر عليه بنو إسرائيل من حياة البداوة إلى حياة الحضر، ومن القحط والجوع إلى أراض غنية خصبة. هذه الحقيقة التاريخية أشار إليها القرآن صراحة على لسان يوسف نفسه في إطار شكره للنعمة الإلهية (وجاء بكم من البدو…الآية)؛ بينما النصّ التوراتي لا يشير صراحة إلى ذلك، ولكن القارئ يستنتج الأمر من سياق القصة.
مجالات أخرى للمقارنة
ـ وهل هناك مجالات أخرى للمقارنة؟
* أجل، يُلاحظ أيضاً أنّ القصة القرآنية مبنية على عدد محدد من العناصر التي يمكن إجمالها في مجموعات أربع، وهي: الأحلام الثلاثة؛ أي حلم يوسف، وحلم الخباز والساقي كحلم واحد في السياق، وحلم الملك .
ثم المحن الثلاث: مكيدة الإخوة، وإغواء زوج العزيز، ثم محنة السجن. وتعقبها المجموعة الثالثة وهي: القمصان الثلاثة: قميص الذئب، وقميص الغواية، وقميص البشرى (الذي ألقى على وجه يعقوب). أما المجموعة الأخيرة فهي: الرحلات الثلاث: رحلة الاستغاثة (طلب الطعام)، ورحلة بنيامين (طلب بنيامين)، ثم رحلة التعرف (إخوة يوسف على أخيهم).
بلا شك أنّ هذه الهياكل الدرامية تشكل إثراء لمجريات الأحداث داخل القصة وتجعلها مكتملة الجوانب؛ إذا ما وضعنا كل مجموعة من المجموعات سالفة الذكر ضمن سياقاتها.
ومجمل القول في هذا الإطار أنّ القصة القرآنية تهدف في المقام الأول إلى عرض معاناة أحد الأنبياء والخطوب التي مرّت به في حياته وكيف صبر هو عليها. فيوسف شخصية متنوعة في القرآن؛ فهو الطفل الغضّ والشاب اليافع وهو النبي الصابر والإداري المحنك. هذه التنويعات في الشخصية غير موجودة في السياق التوراتي؛ حيث اهتمت القصة التوراتية بذكر تفصيلي للأحداث وأسماء الشخوص مع جعل شخصية البطل الرئيسي على وتيرة واحدة غير متطورة على مدار القصة؛ حتى مع تطوّر سني عمره.
وأختم شأن يوسف في القرآن والتوراة بالقول إنه، ورغم كون القرآن لا يعنى بسرد التفاصيل الدقيقة للقصص الذي يرد فيه، إلا أننا نجد دقة متناهية في اختيار الألفاظ داخل قصة يوسف؛ حيث كان لقب حاكم مصر في القصة (الملك)؛ بينما وصفته التوراة بـ(الفرعون)، رغم كون هذا اللقب لم يكن قد ظهر إلا بعد عهد يوسف عليه السلام بسنوات طوال.
ـ حظيت قصة النبي يوسف عليه السلام باهتمام المفسرين المسلمين واليهود، فما هي استنتاجاتك في هذا الشأن؟
* من الواضح أنّ قصة يوسف الثرية بأحداثها جعلت المفسِّرين اليهود والمسلمين على حد سواء يتبارون في توضيح الجوانب المسكوت عنها في الرواية التوراتية والقصة القرآنية، حتى أنّ بعض التفاسير لقصة يوسف لا تخلو من طرافة وأحياناً تطرّف في التفسير. فعلى سبيل المثال من التفاسير اليهودية نجد مثلاً أنّ التفسير الكبير لسفر التكوين “بريشيت رَبّا” ومدراش تنحوما، وتفسير يَلقوت شِمعوني والمدراش الكبير “هامدراش هاجادول” وكتاب الاستقامة “سِفِر هاياشار”؛ احتوت على شرح دقيق لتفاصيل القصة مثل القيمة التي بيع بها يوسف، وكيف أنّ يوسف تعايش مع العقارب والثعابين في الجب. كما تروي لنا هذه التفاسير أنّ الملاك جبريل قد أجرى عملية خصاء لعزيز مصر “فوطيفار”، وكيف أنّ يوسف أوشك على الوقوع في الزلل لولا أن رأى وجه أبيه يعنفه فخرج المني من أطراف أصابعه. كما أنّ يوسف تعرّض لاختبار عسير، هو التحدث بسبعين لساناً، من قبل مستشاري “فرعون” قبل أن يعيِّنه مستشاراً له.
ومن عجب أنّ التفاسير اليهودية تشير إلى أنّ يعقوب قبل دخوله أرض مصر أوفد ابنه يهودا سابقاً له ليؤسس مدرسة للتوراة في مصر، وما أن حلّ يعقوب وبنوه ببلاد النيل حتى بارك فرعون وبيته. وختام ذكر يوسف في التفاسير اليهودية يكون عند تمكّن موسى عليه السلام من التقاط تابوت يوسف الذي دُفن في النيل ليأخذه معه لدى الخروج من مصر حسب وصية يوسف نفسه.
وما من شك أنّ هذه التفاسير لا تخلو من نظرة انتقائية تهدف إلى الإعلاء من شأن بني إسرائيل رغم كونهم قوماً قادمين من البدو هاربين من المجاعة ومقبلين على أرض ذات حضارة عريقة. إلاّ أنّ القارئ للتفاسير يرى وكأن بني إسرائيل جاؤوا ليباركوا مصر ومن فيها.
كما أنّ قصة إخراج موسى لتابوت يوسف من النيل لا تخلو من مبالغات شديدة، وكلّها للتدليل على أنّ يوسف خرج من مصر ودفن بأرض فلسطين، رغم أني أكاد أقطع بأنّ كلاً من يعقوب ويوسف وموسى لم يخرجوا من أرض مصر وأنّ قبورهم ما زالت موجودة في مكان ما على تلك الأرض.
كذلك التفاسير الإسلامية، وخاصة التفاسير المتقدمة مثل تفسير مقاتل بن سليمان (توفي بالبصرة سنة 150 هـ) احتوت على عدد غير قليل من قصص لم يرد إسناد متصل لها. فعلى سبيل المثال يبدو مقاتل غير مقتنع بأنّ يوسف ويعقوب لم يتواصلا معاً طوال فترة ابتعادهما؛ حيث نجده يسوق قصة يشير فيها إلى أنّ يعقوب أرسل مكتوباً إلى عزيز مصر عقب قصة صواع الملك، نفى فيها أن يكون ابنه سرق؛ مستدلاً على ذلك بأنهم أهل ابتلاء، فهو ابن الذبيح (اسحاق) ابن الناجي من النار (إبراهيم).
كما أنّ يوسف أعلم يعقوب، بحسب مقاتل، بأنه تم بيعه في مصر، كما أنّ جبريل أعلم يوسف بمدى حزن يعقوب على غيابه.
وبجانب مقاتل، نجد أنّ القرطبي (من مفسري القرن السابع الهجري) قد ساق قصصاً اعتبرها حقائق تاريخية دون أن يدلل على صحتها من أي مصدر آخر؛ حيث يرى أنّ يوسف أول من خطّ بالقلم على ورق البردي، وأنّ صورة يوسف سُكّت على العملة المصرية في عهده.
ومن القصص التي يمكن اعتبارها من الإسرائيليات ما ورد عن القرطبي من أنّ موسى قد التقط تابوت يوسف من النيل وحمله بنو إسرائيل معهم؛ حيث دفنوه بجوار آبائه في “القدس” (اليهود يقولون إنّ يوسف مدفون في مدينة الخليل). كما يسوق القرطبي قصصاً لا تخلو من مبالغة؛ حيث يذكر أنّ حواراً دار بين يعقوب والذئب، أقرّ خلاله الأخير بأنه بريء من دم يوسف، ويزيد على ذلك بأنّ الذئب قال إنه غريب من أرض مصر جاء ليبحث عن أخ له لا يدري إن كان حياً أو ميتاً.
وتبلغ هذه القصص مداها عند ذكر أحوال أبناء يعقوب عند الغضب، فهم يرعدون الأرض ومن عليها ولا يخمد غضبهم إلاّ إذا مسّهم أحد من نسل يعقوب.
وهنا نجد أنّ أوجه التقارب بين التفاسير اليهودية والإسلامية أكثر من الاختلاف بينها؛ حتى أننا نلحظ مطابقة في بعض القصص المرويّة من الطرفين، بما يجعلنا نقطع بأنّ هناك نقلاً قد تم بطريقة ما للنصوص بين كتب التفسير اليهودية والإسلامية، والعكس.
فالنقل ليس فقط من اليهودية للإسلام، فيما يُعرف بالإسرائيليات، بل إنه يتم أحياناً من التفاسير الإسلامية إلى التفاسير التي وضعها يهود مقيمون في أراض إسلامية.
وعلى أية حال؛ فتعدّد القصص التي احتوتها هذه التفاسير إنما كانت محاولة لكشف بعض الغموض الذي احتوى القصة بنصيها التوراتي والقرآني.
مواضيع ذات الصله
تهنئة صادقة للصحفي أحمد المتبولي لحصوله على الدكتوراة
“مطبات فيينا” أون لاين!
السلّم مصيدة المسنين بالنمسا!