رحلة طويلة مليئة بالنجاحات والإنجازات ، والعقبات أيضاً . فمن مصر حيث نشأ إلى قمة مؤسسة سولفاى للطبيعة ببلجيكا ، اجتاز آلاف الأميال . ارتبطت حياته بتاريخ بلده .. مصر ، فبعد قيام ثورة يوليو تبدلت أحوال عائلته ، حيث تقاعد والده من عمله كضابط بالجيش ، وقررت أمه أن تصطحب أخيه الأكبر في سفره لدولة الكويت ، وهنا ارتأى والده ضرورة سفر أبنه ذو الخمسة عشر عاماً لألمانيا كي يستكمل تعليمه هناك. وكان قرار والده المفاجئ على غير رغبة منه ، ولم يكن هذا هو الشيء الوحيد الذي فعله عالمنا الشهير الدكتور محمد صلاح النشائي ، على غير رغبته ، فقد أصر والده أيضاً على أن يلتحق أبنه بكلية الهندسة ، في وقت كان هو نفسه يرى مستقبله مستقبل فنان
المسيرة العلمية
كان والده كان لا يمل أن يردد عليه عبارة : ” إما أن تصبح مهندساً أو أن تصبح حماراً ، وبخفة دمه الملحوظة يقول ولأني لا أريد أن أكون حماراً ، التحقت بكلية الهندسة ، فقد كان أبى على قناعة كاملة بأن الفن والأدب ليسا إلا هواية ، ولا ينبغي لهما أن يكونا أكثر من ذلك.
ومرة أخرى يجبره والده على التخلي عن دراسة الهندسة المعمارية التي رأى فيها عوضاً عما فاته في دراسة الفن والأدب ، طالباً منه أن يدرس الهندسة المدنية .
درس النشائى الهندسة المدنية دون حماس ، وبعد تخرجه من جامعة هانوفر الألمانية في عام 1968 ، عمل قرابة ثلاث سنوات في بعض الشركات العاملة في مجال تصميم الشوارع والكباري إلى أن جاء يوم تحدث إليه أستاذه ناصحاً باستكماله لدراسته الأكاديمية ، على أن يكون ذلك في أمريكا، واستجاب النشائى ، إلا أنه قرر الذهاب لإنجلترا بدلاً من أمريكا ، وهناك حول مساره من دراسة الهندسة الإنشائية لدراسة الميكانيكا التطبيقية. وقد غاص في هذا العلم باحثاً عن الأسس التي قام عليها ، لينال درجة الماجستير والدكتوراه في هذا التخصص من جامعة لندن .
الفوضى تقوده إلى جائزة نوبل
عمل النشائي محاضراً في جامعة لندن بعد حصوله منها على درجة الدكتوراه لمدة سنتين ، سافر بعدها للمملكة العربية السعودية ليعمل مدرساً في جامعة الرياض ، ومديراً عاماً للمشاريع بالمركز الوطني للعلوم والتكنولوجيا لمدة أربع سنوات، تمكن خلالها من الحصول علي درجة الأستاذية ، ومن هناك سافر إلي أمريكا ليلتحق بالعمل في معامل لاس آلاموس، وكانت هذه بداية الخروج من محيط الهندسة ، حيث بدأ في الاهتمام بالعلوم النووية… وفى هذه الأثناء ، ظهر علم جديد يطلق عليه “الشواش” أو الفوضى ، وهو علم يدرس في القواعد الرياضية والتطبيقات الفيزيائية للنماذج العشوائية .
وجد النشائي نفسه مشدوداً إلى العلم الجديد ، وقرر أن يدرسه قبل أن يلتحق بجامعة نيومكسيكو للعمل كأستاذ فوق العادة لمدة عامين ، عمل بعدها بجامعة كورنيل كأستاذ بقسم علوم الفضاء والطيران .تخصص النشائى في دراسة علم ” الفوضى المحددة ” ، وفى هذه الفترة تقابل مع العالم البريطانى السير هيرمان الذي قدم له الفرصة ليلتحق بجامعة كمبريدج البريطانية العريقة . ولم يكن تعيينه في كمبريدج أمر سهل ، حيث قابل صعوبات عديدة خاصة وأن تخصصه الأساسي كان الهندسة ،، وأكثر من 99 % من المشتغلين معه في القسم من علماء الطبيعة مما جعله يشعر بالغربة .
ولكن تحت إصراره ورغبته في ألا يخذل الرجل الذي عينه بالقسم على الرغم من أنه مسلم ومصري وأسمه محمد ، بدأ في الإطلاع على ما يتم من حوله ، حيث كان أكثر من 100 عالم يشتغلون علي ما يسمي نظرية ( الأوتار الفائقة) وهى نظرية تهدف إلى توحيد نظرية النسبية مع نظرية الكم على مستوى علم الميكانيكا والذرة. وكانت المفاجأة أن دراسته للهندسة وعلم الفوضى قد أفادوه كثيرا في هذا المجال المعروف الآن بفيزياء الجسيمات عالية الطاقة .
وهناك نجح النشائى في أن يحفر لاسمه بأحرف من ذهب ، حيث استطاع بعد قيامه بالعديد من التجارب والأبحاث تصحيح بعض الأخطاء والمفاهيم العلمية التي حوتها نظرية النسبية العامة لآينشتاين ، ودمج نظريته الشهيرة مع نظرية الكم في نظرية واحدة ، أطلق عليها نظرية ” القوى الأساسية الموحدة ” .
وظل النشائى يعمل كأستاذ بقسم الرياضيات والطبيعة النظرية بجامعة كمبريدج ببريطانيا لمدة 11 عاماً ، نجح خلالها في تأسيس أول مجلة علمية في العلوم غير الخطية وتطبيقات العلوم النووية ، وتصدر هذه المجلة في ثلاث دول هي أمريكا وإنجلترا وهولندا.
علم الفوضى ( الشواش ) في سطور
ظهرت كلمة ” الشواش” Chaos فى عام 700 ق م ، وكان الشاعر الإغريقي هسيود أول من أطلقها في قوله: “في البدء كان الشواش، لا شيء سوى الخلاء والهيولى والفراغ غير المحدود ، حيث أضحى استخدام الكلمة للتعبير عن خاصية للفوضى غير المرغوبة. ويعرَّف “الشواش” فى المعاجم اللغوية على أنه الاضطراب أو الاهتياج . أما المراجع العلمية فتعرف الشواشُ على أنه مرادف للعشوائية randomness غير المرغوبة. وقد عبَّر المؤرخ والكاتب الأمريكي هنري أدامز (1918-1858) عن المعنى العلمي للشواش بشكل بليغ في قوله: “الشواش غالبًا ما يولِّد الحياة، بينما النظام order يولِّد العادة.”
وكان العلماء قد رصدوا ظواهر علمية كثيرة تُحدِث نتائج كبيرة غير متوقعة ، وذلك على الرغم من صغرها مثلاُ ، بحيث إن التوقُّع (أو التنبؤ) بحدِّ ذاته بنتائج سلوكها يصبح بلا فائدة. مثال ذلك كرات البلياردو التى لا نستطيع التنبؤ الدقيق باتجاهاتها عندما تصطدم ثلاث منها.
وفى الطبيعة كثير من الأمثلة ، وعلى سبيل المثال ، في العام 1889 أنشأ ملك النروِج جائزة للإجابة على تساؤل هام ، وهو: هل المنظومة الشمسية مستقرة أم لا ؟
وقدَّم بوانكاريه الحل وفاز بالجائزة. لكن زميلاً له اكتشف بعض الخطأ فى الحسابات؛ وهو ما دفع القائمون على الجائزة منح بوانكاريه مهلة ستة أشهر كي يعالج المسألة حتى يصبح من حقه الاحتفاظ بالجائزة. ولكنه لم يوفق للحل، وإنما توصل لنتائج قلبت النظرة المقبولة عن الكون الحتمي الخالص الذى تقود إليه نظريات نيوتن الرياضية . وأفاد بوانكاريه في بحثه أن قوانين نيوتن لا تقدِّم أيَّ حلٍّ للتنبؤ بحركات الشمس والأرض والقمر، ووجد أن اختلافات طفيفة فى حركة هذه الأجرام فى مساراتها تُحدِثُ تباينات هائلة بالظواهر النهائية وتتحدى اية تنبؤات.
استفاد إدوارد لورنتس Edward Lorenz من رياضيات بوانكاريه فى تقديم نموذج رياضيّ مبسط لمنظومة الطقس، تمكن من خلاله الكشف عن نِسَب التغير في درجة الحرارة وسرعة الرياح. وقد أظهرت هذه النتائج سلوكًا معقدًا ناجمًا عن المعادلات البسيطة ؛ وهو ما يشير إليه المضمون النهائى لنظرية الشواش ، وهو أن المقدمات البسيطة قد تقود إلى سلوك معقد. . كما أجرى إيليا بريغوجين بحوثًا إضافية ، وقادته بحوثُه لطرح مفهومي “التوازن” equilibrium والـ”بُعد عن التوازن” far-from-equilibrium كي يصف حالة النظام ، كاشفاً عن شروط البعد عن التوازن التي تقود لسلوك معاكس للسلوك الذي يتوقعه التفسير العلمى المألوف ، وقد وجد أن ظواهر التشعب والتنظيم الذاتي تنشأ عن المنظومات المتوازنة عندما تخضع للاضطراب . وقد كانت هذه الدراسات الخطوة التي قادته لنظرية التعقيد/الشواش ، والتى تظهر كيف يولد النظام من الفوضى (الشواش) في المنظومات الحرارية والكيميائية، وكذلك في المنظومات الحية.
وقد نال إيليا بريجوجين Ilya Prigogin على جائزة نوبل في الكيمياء فى عام 1977 . ويعد بريجوجين رائد علم الإنتروبيا entropy التى تدرس فى المنظومات المفتوحة، والتى تعنى بتبادل المادة والطاقة والمعلومات بين هذه المنظومات وبيئتها. وقد استخدم بريجوجين مفهوم “البُنى المبدِّدة” dissipative structures لكي يبيِّن احتمالية نشأة البني المعقدة عن البني الأبسط وأن النظام ينبثق عن الشواش ( الفوضى ) .
وأخيراً ، نستطيع أن نقول إنه لم تكن نظرية ” الشواش ” قانونًا، كما هي الحال في علوم الديناميكا الحرارية أو الفيزياء الكمومية، لكنها مكَّنتْ الباحثين من تحليل الأفعال والأنظمة المتداخلة.
ثورة جديدة في علم الطبيعة
للنشائي عدد ضخم من الأبحاث المنشورة في مجلات علمية دولية لها تطبيقات هامة في مجالات الفيزياء النووية وفيزياء الجسميات ، وقد أوردت الجمعية الأميركية للرياضيات أكثر من مائة بحث من أبحاثه في حين أن متوسط عدد الأبحاث التي أوردتها نفس المجلة لأي من العلماء المتخصصين لا يزيد على العشرين بحثاً ، وهو ما دفع علماء نالوا جائزة نوبل في الفيزياء لترشيحه أكثر من مرة لنيل نفس الجائزة.
وقد أحدثت أبحاث النشائى ثورة في مجالات العلوم بما فيها العلوم الذرية وعلوم النانوتكنولوجي التي تدرس في المنطقة المحصورة ما بين العلوم الذرية والعلوم الكيميائية، كما استخدمت وكالة الفضاء الأميركية ” ناسا ” أبحاثه في بعض تطبيقاتها.ومؤخراً ، قام مركز الفيزياء النظرية التابع لجامعة فرانكفورت الألمانية والذي يعد أكبر وأشهر مراكز الأبحاث الطبيعية في أوربا بتكريمه كأستاذ متميز لدوره في تطوير نظرية يطلق عليها اصطلاحيا ” الزمكان كسر كانتورى ” نسبة إلى العالم الألماني جورج كانتورى .
وقد أتاحت هذه النظرية للنشائي تحديد قيم الثوابت الطبيعية في الكون مثل ثابت الجذب العام ، وكذلك ثابت الكهرومغناطيسة . وتأتى نظرية النشائى في محاولة لتوحيد قوى الطبيعة جميعها في قانون واحد ، وهو ما يعد تعميماً لنظرية النسبية لآلبرت آينشتاين.
وتكشف نظرية النشائى النقاب عن أن هناك قوة واحدة تشمل القوى الأربع الأساسية المعروفة في الطبيعة ، وهى قوى الجاذبية والقوى الكهربية والقوى المغناطيسية بالإضافة إلى القوى النووية.
وقد استغرق عمل النشائى في هذه النظرية 15 عاماً ، ولكنه لم ينته منها ويقوم بنشرها إلا من 4 سنوات فقط .
كما تم تكريمه في جامعة حيدر أباد بالهند، ورشحه أستاذه الراحل الدكتور آليان بوكوجيه لجائزة نوبل مرتين ، كما كرمته مصر بمنحه جائزة الدولة التقديرية .
ويعمل العالم الشهير محمد صلاح النشائى الآن أستاذاً بمؤسسة سولفاى للطبيعة والكيمياء بجامعة بروكسل الحرة ببلجيكا ، وأستاذاً زائراً في ست من جامعات العالم ، بينهما جامعتا القاهرة والمنصورة في مصر .
يصف النشائي نفسه بأنه يمتلك روحين يسكنان جسداً واحداً ، روح أدبية فلسفية وروح هندسية علمية ، فعلى الرغم من حبه لعلم الطبيعة منذ الصغر ، فقد نشأ أيضاً محباً للفن والأدب بجميع أشكالهما ، حيث دأب على قراءة كتب الفلسفة ، والرسم بالزيت ، والاستماع إلى الموسيقى .
يتحدث النشائى العربية بطلاقة ، ويكتب الشعر ، ويهوى القراءة ، ومن كتابه المفضلين المعرى والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ، كما أنه يعشق مسرح العبث ورواده يونسكو وبيكت. كانت أمنيته أن يصبح مخرجاً سينمائياً أو كاتباً مسرحياً . وربما هذا ما دفعه إلى الإعلان عن قراره ورغبته الشديدة التفرغ للكتابة في المستقبل القريب … وكما يقول الكتابة فقط وبالعربية .
وللنشائي عدد من المؤلفات العلمية في مجالات تخصصه جميعها مكتوبة بالإنجليزية. . وبالإضافة إلى ما سبق ، يعشق الدكتور النشائى الرياضة ، وبالتحديد هواية التزحلق على الجليد ، لذا فهو يحرص على الذهاب لألمانيا في كل عام لممارستها
حياته الخاصة
الدكتور النشائى متزوج ، ولديه ابنتان ، الأولى شيرين وتدرس العمارة بجامعة ليدز البريطانية ، أما الثانية فهي سونيا ، وقد تخصصت في دراسة الطب البيطري . ، كما أن له أخوين في الحقل العلمي هما الدكتور عمر النشائى مدير معهد الزلازل بالولايات المتحدة الأمريكية ، وسعيد النشائى العالم الشهير في الهندسة الكيميائية بجامعة آلاباما الأمريكية .
وعلى الرغم من طيلة الغربة ، مازال عالمنا الجليل متمسكاً بتقاليد الإسلام وانتمائه لوطنه الذي نشأ فيه ، فهو صاحب نظرة صوفية في الحياة ، ويعتبر التقدم الحقيقي هو تقدم الإنسان وليس التقدم التكنولوجي.
ومن أراءه : ” العلم بدون حكمة مثل عضلات بدون مخ ، فهو يحط من شأن الإنسانية ” .
والعلاج في تقديره هو أن يسير الأدب والدين بجوار العلم جنبا إلي جنب . وكثيراً ما كان يخشى أن يكبر أولاده في بيئة تعترف بالإباحية . وفى هذا الإطار يعترف بأن انتقاله من الولايات المتحدة الأمريكية لأوربا بعد أن قضى عدة سنوات بأكبر جامعاتها جاء رغبة منه . وكما يقول : “على الرغم من تميز الشعب الأمريكي بالطيبة ، وبأنهم أقل عنجهية من شعوب أوروبا التي تفتخر بعراقتها ، وبأنهم يتقبلون الأجانب بروح مفتوحة عن أوروبا … فإنهم يختلفون عنهم في نفس الوقت بالتربية الإباحية لأولادهم . ولقد كان قرار العودة إلي أوروبا علي أن تكون محطة لعودتنا مرة أخري إلي مصر” . فهو كما يقول عن نفسه يشعر بأنه بلا معني في أوروبا ، فقد غرس فيه أباه الحس الوطني منذ أن كان صبياً .