رحل عالمنا الشاعر فاروق شوشة صباح اليوم الجمعة 13محرم 1438م (14أكتوبر2016م) بعد رحلة حافلة بالإبداع والنقد قضاها فى خدمة لغة الضاد التى عشقها منذ وقت مبكر من حياته فحفظ القرآن الكريم فى قريته وهو لم يبلغ العاشرة بعد، ثم أراد أن يكمل المسيرة فالتحق بدار العلوم التى قال عنها أحد أساتذتها الإمام المجدد محمد عبده: (تموت العربية فى كل مكان وتحيا فى دار العلوم).
ولد الشاعر فاروق محمد شوشة 17 فبراير 1936 بقرية الشعراء بمحافظة دمياط، حفظ القرآن فى كتاب القرية، وأتم دراسته في دمياط.
وكان يريد أن يلتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة ولكنه آثر التحاق بكلية دار العلوم، وتلقى العلم على كوكبة من الأعلام منهم : عمر الدسوقى، وأحمد الحوفى، على الجندى الشاعر، وعبد الحكيم بلبع، ومحمود قاسم، ومحمد غنيمي هلال ، وبدوى طبانة، وأحمد شلبى، وتمام حسان، وإبراهيم مصطفى، وإبراهيم أنيس وغيرهم.. وتخرج منها عام 1956، وكان من دفعته عبدالصبور شاهين ورمضان عبدالتواب وعبدالعظيم الديب وكل تفوق فى مجاله وبلغت شهرته الآفاق، ثم حصل على دبلوم التربية من كلية التربية جامعة عين شمس 1957. وفور تخرجه عمل مدرساً بالتربية والتعليم 1957، ثم التحق بالإذاعة عام 1958, وصاهر رئيسها عبدالحميد الحديدى وتزوج ابنته المذيعة هالة الحديدى، التى اشتهرت ببرنامج “ألحان زمان”، وتدرج في وظائفها حتى أصبح رئيساً لها 1994 ، وأهم برامجه الإذاعية : “لغتنا الجميلة” ، منذ عام 1967 ، والتلفزيونية: ( أمسية ثقافية ) منذ عام 1977 وكلا البرنامجين يقدمان نماذج وأشعاراً وأدبيات فنية الطرح ومفيدة للثقافة وأعلامها وسائغة للمستمعين والمشاهدين،فالمقدم فاروق شوشة لهذين البرنامجين يتناول شجوناً من الشعر ونماذج من الأدب، بروح حيوية وإلقاء عذب جميل، وهو يذكرنا بالشاعرين العظيمين من بلاده وهما أحمد شوقي وحافظ إبراهيم اللذين كان أحدهما أجود إلقاء من الآخر وأحدهما أشعر من الآخر، فشوقي هو أمير الشعراء وحافظ فاز بلقب شاعر الشعب حيث أن الأخير أبدع إلقاءً من الأول، لكن المحصلة هي الموضوعات وعناصر الشعر لكل منهما، ونجد فاروق شوشة على ضوء ذينك الشاعرين من أكبر منشدي وأعظم ملقي شاعري أدبي في العصر الراهن، أي أنه أتى بعد شوقي وحافظ إلى يومنا هذا.وامتد نشاطاته الأخرى ليشارك فى الحياة الأدبية شاعراً وناقداً وقد عمل أستاذاً للأدب العربي بالجامعة الأميركية بالقاهرة..
عين عضواً فى مجمع اللغة العربية في مصر. رئيس لجنتي النصوص بالإذاعة والتلفزيون ، وعضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة ، ورئيس لجنة المؤلفين والملحنين . شارك في مهرجانات الشعر العربية والدولية..
أثرى الشاعر فاروق المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات التى توعت بين الإبداع الشعرى والمسرحى وكتابة المقالات النقدية التى تناول فيه شعراء كل العصور، وقدم من خلاله العديد من الشعراء الجدد، والدواوين الشعرية منها “إلى مسافرة”، “العيون المحترقة” وغيرها، ومن كتبه: “لغتنا الجميلة”، و”أحلى 20 قصيدة حب في الشعر العربي”، و”أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهي”، و”مواجهة ثقافية”، و”عذابات العمر الجميل “سيرة شعرية”.
وخلال هذه الرحلة الطويلة فى خدمة اللغة حصل شوشة على العديد من مظاهر التكريم فى مصر وخارجها.. فحصل على جائزة الدولة في الشعر 1986, وجائزة محمد حسن الفقي 1994, وعلى جائزة الدولة التقديرية في الآداب 1997، وحصل على هذا العام على جائزة النيل وهى أرفع جائزة فى مصر..
هو والحب:
أثناء البحث فى كنوز لغتنا الجميلة توقف فاروق شوشة أمام كثير من النصوص الفاتنة لعديد من شعراء الحب العرب الذين رزقوا الإلهام وصدق العاطفة والشعور وجمال التعبير والتصوير والأداء وتتمة للفائدة اختار عشرين من هؤلاء الشعراء من كل العصور الأدبية، وأراد أن يجمع بينهم فى صعيد واحد.. الكل يبوح بأجمل ما أهداه للإنسانية من قصائد ..جمع بين المنخل اليشكرى، والذي اتهمه النعمان بن المنذر بامرأته المتجردة، وكانت بارعة الجمال فأغرقه أو دفنه حياً، ويضرب به المثل لمن هلك ولم يعرف له خبر، وكانت “فتاة الخدر” هي قصيدته الشهيرة التي قالها في زوجة النعمان، وينتقل بنا إلى فتى قريش المدلل عمر بن أبي ربيعة في واحدة من أشهر قصائده والتي قالها في محبوبته “نعم”، ومجنون ليلى قيس بن الملوح أشهر العاشقين وأحد أعلام الحب العذري، والذي ضرب به المثل للعشق الصادق الذي صرع صاحبه، هذا الفتى الغيور الذي أنشد حباً خالصاً له، وجميل بثينة، ومجنون لبنى قيس ذريح، وكثير عزة، ويزيد بن معاوية، والعباس بن الأحنف، وابن الرومى، وأبى فراس الحمدانى، والشريف الرضى، ودوقلة المنبجى، وابن رزيق البغدادى، وصفى الدين الحلى، وابن زيدون، والحصرى القيروانى، وقصيدته “ياليل الصب متى غده؟”، وهى إحدى القصائد الشهيرة للحصري القيرواني، وهي قصيدة من عيون الشعر العربي ذاعت شهرتها في أندية الأدب ومجالس الغناء وتناقلتها الناس، وعارضها الشعراء، ويتناول فيها الشاعر باسلوبه المرهف ولغته الرقيقة شتى ما يدور عادة على لسان المحبين ويفضح أسرار نجواهم ومكنون قلوبهم وأبى القاسم الشابى وقصيدته صلوات في هيكل الحب، التي جذبت الأنظار لها عند نشرها في مجلة أبولو بالقاهرة، وذلك نظراً للغة الشعرية الجديدة، والتناول الجديد لتجربة الحب في الشعر العربي الحديث، وذلك في إطار من الخيال والصور الشعرية الأخاذة الفاتنة، والتي رسم فيها الشابي حبيبته كائناً سماوياً يفيض رقة وطهراً وشفافية، وعلى محمود طه وإبراهيم ناجى، ومحمود حسن إسماعيل.
قال شوشة عنها “أنها وجوه تضيف لتجربة الحب في الشعر العربي ألواناً وتنويعات ومذاقات مختلفة، تثريها وتعمقها، وتكشف عن جوهر الإنسان العربي والشاعر العربي في نظرته للحياة والوجود من خلال المرأة”، وكان متأثرا بالمجموعات الشعرية القديمة مثل المفضليات للضبى، والأصمعيات لأبى سعيد الأصمعى وجمهرة أشعار العرب لأبى زيد القرشى، ومختارات شعراء العرب لابن الشجرى ..
وقد كرر شوشة هذه التجربة فى كتاب آخر بعنوان “أحلى عشرين قصيدة فى الحب الألهى” فى هذه الحلقة تقدم إلى ساحة أسمى من ساحات هذا الحب هى ساحة الحب الإلهى، حيث فاضت وجدانات العشاق الكبار من الشعراء بأنغام وترانيم وألحان تطهروا بها، وحلقوا من خلالها، دنواً واستشرافاً من الأفق الأعلى والأسمى، حيث ينابيع الروحانية، والفيض الغامر، وحيث تمتلىء النفوس بأقباس من النورانية وتفيض العيون بدموع الندم والخشية والتوبة، وتعمر القلوب بوشائج المحبة الدائمة، ومقامات العشق وأحواله، وينسكب هذا كله فى النهاية شعراً يفيض بالصدق ويعمر باليقين والمحبة والإيمان.واختار عشرين قصيدة لعشرين شاعر بداية من الإمام الشافعى وقصيدته “تعاظمنى ذنبى” مرور بابن الفارض وقصيدته “ته دلالاً فأنت أهل لذاك”، وابن العربى وقصيدة “مرضية الأجفان”، وصولا إلى العصر الحديث حيث قصيدة محمود حسن إسماعيل “موسيقى من الله”، وطاهر أبوفاشا “على باب الرجاء”.
هذا قليل من سيرة هذا العملاق الذى لا توفيه هذه السطور حقه من التكريم..