من الصعب تمييز ما هو نمساوي في هوية الموسيقى النمساوية مما هو غير نمساوي، ولاسيما في القرون الثلاثة الماضية؛ لأن موقع النمسا في وسط أوربا، واستقطاب ڤيينا- بوصفها عاصمة الامبراطورية الرومانية – الجرمانية المقدسة- للمفكرين والمثقفين والموسيقيين الذين قدموا إليها من ألمانيا وإيطاليا وبوهيميا وهنغاريا وسلوڤينيا وسلوڤاكيا وكرواتيا جعل الموسيقى النمساوية تتكون من خليط امتزج به ما هو أوربي بما هو نمساوي. فهايدن[ر] Haydn، وموتسارت[ر] Mozart، وشوبرت[ر] Schubert، وبروكنر[ر] Bruckner، وشونبرغ[ر] Schönberg، وڤيبِرن[ر] Webern، وبِرغ[ر] Berg مع أنهم نمساويون لا يمكن وصف مصنفاتهم بالمصنفات النمساوية! فأعمالهم كانت عالمية قبل مجيء عصر العولمة بمئة إلى مئتي عام! كما أن جميع المؤلفين غير النمساويين الذين عاشوا في ڤيينا وألفوا فيها أعمالهم مثل سالييري Salieri وبتهوڤن[ر] Beethoven وبرامز[ر] Brahms ومالر[ر] Mahler وغيرهم امتزجت في مصنفاتهم الروح الأوربية بالروح النمساوية. إضافة إلى أن عدداً كبيراً من الموسيقيين الذين لم يعيشوا في النمسا وجدوا طريقهم إليها سواء من أجل إتمام دراستهم أم من أجل تقديم أعمالهم في العاصمة ڤيينا، مثل باغانيني[ر] Paganini، وليست[ر] Liszt، وشومان[ر] Schumann، وڤاغنر[ر] Wagner. والموسيقى النمساوية المحضة التي بالإمكان تسميتها بالموسيقى النمساوية هي موسيقى الڤالس Waltz (نوع من الرقص) التي جاء بها يوهان شتراوس[ر] J.Strauss الأب وتطورت على يدي ابنه يوهان[ر].
والموسيقى النمساوية مثلها مثل الموسيقى الفرنسية أو الإيطالية، نشأت في الكنائس ومن التراتيل الغريغورية، ولكن أول فرقة موسيقية يشير إليها التاريخ في النمسا هي فرقة بلاط ڤيينا التي أسسها الامبراطور ماكسيميليان الأول عام 1496، والتي وصلت في عهد خليفته فرديناند Ferdinand الأول (1503- 1564) ثم رودولف Rudolph الثاني- الذي انتقل بها من ڤيينا إلى براغ – إلى أوجها (1552- 1612). وشهد العصر الباروكي المتأخر ظهور مؤلفين نمساويين مثل يوهان يوزيف فوكس Johann Joseph Fux ت(1660-1741) أحد أكبر فلاسفة الموسيقى والمنظرين في التاريخ. ولكن هذا العصر تميز بغزو المؤلفين الإيطاليين للعاصمة النمساوية الذين جاؤوا إليها ليقدموا أعمالهم فيها، والذين شغلوا مراكز كبيرة في البلاط النمساوي مثل أنطونيو كالدارا Antonio Caldara ت(1670-1736) الذي كتب أكثر من ثمانين أوبرا وثلاثين أوراتوريو [ر. الإنشاد الديني]، وعمل مؤلفاً في البلاط النمساوي، وأنطونيو دراغي Antonio Draghi ت(1635-1700) الذي عاش في النمسا وألف أكثر من 120 أوبرا بأسلوب أساتذة مدرسة البندقية. وتركت المدرسة الإيطالية أثراً كبيراً في الموسيقى النمساوية، وفي المؤلفين الألمان الذين جاؤوا إلى ڤيينا ليقدموا أعمالهم فيها مثل كريستوف غلوك[ر] Christoph Gluck الذي قام بتطوير الأوبرا الإيطالية الجدية. ومع أنه حقق أكبر انتصاراته في باريس جرى تقديم أوبراه «أورفيو» Orfeo التي تعد اليوم فاصلاً بين الأوبرا الجدية القديمة والأوبرا الجديـة الحديثة في ڤيينا عام 1762. ومع ذلك بقيت السيطرة للمؤلفين الإيطاليين وللأوبرا الإيطالية على الموسيقى في ڤيينا حتى وقت متأخر من القرن الثامن عشر، ولم يستطع موتسارت نفسه التخلص من تأثيرات أساتذة المدرسة الإيطالية في عدد كبير من أعماله الأوبرالية، مثل أوبرا «دون جوفاني» التي أطلق عليها ڤاغنر لقب «أوبرا الأوبرات» فهي ليست أوبرا نمساوية وإنما «إيطالية» في كلماتها وأسلوبها وروحها وطابعها، لذا فإن بتهوڤن كان يفضل عليها أوبرا «الناي السحري» ويعدها أول أوبرا ألمانية حقيقية.
اتفق المؤرخون وأساتذة الموسيقى على تسمية أساتذة المدرسة الكلاسيكية مثل هايدن، وموتسارت، وبتهوڤن، بأساتذة مدرسة ڤيينا الأولى، وسبق هؤلاء أستاذ لا يشير إليه التاريخ كثيراً اليوم هو غيورغ كريستوف ڤاغِنْسايل Georg Christoph Wagenseil ت(1715-1777) الذي عمل أستاذاً للبيانو في بلاط الامبراطورة ماريا تيريزا. وقد وجدت نظرياته عن موسيقى الآلات امتداداً في أعمال هايدن ثم موتسارت، وقد ألف نحو 16 أوبرا، ولكن أعماله المهمة كانت في مجال الموسيقى السمفونية، وتأثر هايدن بمصنفاته، وخاصة بأعماله لموسيقى الآلات، وألف 104 سمفونيات وحواريات[ر] (كونشرتات) عديدة لمختلف أنواع الآلات. وقد ورث بتهوڤن عنه اهتمامه بموسيقى الآلات لكنه لم يؤلف سوى أوبرا واحدة هي «فيديليو» Fidelio، ومع أن بتهوڤن كان أول أستاذ من أساتذة الموسيقى الرومنسية؛ فإنه غالباً ما يصنف بين الكلاسيكيين (التقليديين) الذين جاءت بهم مدرسة ڤيينا، وورث اسمَهم جميعُ الأساتذة الذين رفضوا الخروج عن القوالب التقليدية في التأليف أو تأليف أعمال بالأسلوب الطليعي الذي جاء به بتهوڤن والذي أُطلق عليه فيما بعد «الأسلوب الرومنسي».
لم تبدأ الرومنسية في الموسيقى مع برليوز Berlioz وسمفونيته «الفانتاستيك» Fantastique في باريس، وإنما مع بتهوڤن وسمفونيته السادسة في ڤيينا (1808)، التي ربما تكون أول سمفونية حقيقية ذات برنامج program music في تاريخ الموسيقى، إذا ما تجاوزنا عناوين سمفونيات هايدن. ولكن أول سمفونية كُتبت بالأسلوب الرومنسي المتأخر لأساتذة القرن التاسع عشر كانت السمفونية الكبيرة من مقام دو الكبير لابن ڤيينا الأصيل فرانز شوبرت التي ألفها نحو عام 1825، وعثر عليها شومان مصادفة لدى زيارته إلى النمسا عام 1838، وقدمها مندلسون[ر] Mendelssohn في لايبزيغ عام 1839، وأصبحت إنجيلاً لعدد كبير من المؤلفين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتأثر بها بروكنر كثيراً وهو يؤلف سمفونياته الرومنسية من خلف آلة الأرغن، ولكن شوبرت لم يكن أستاذاً رومنسياً لأنه ألف السمفونيـة من مقام دو الكبير فقط، وإنما لأنه ألف عدداً كبيراً من الأغاني (الليد Lied) التي تركت أثراً بالغاً في الموسيقى في القرن التاسع عشر، وخاصة في أعمال أساتذة الجيل التالي من المؤلفين الأوربيين، ابتداءً من شومان وانتهاء بيوهانس برامز الذي جاء من هامبورغ ليعيش في ڤيينا، ولم يخرج عن التقليدية أبداً، فتمسك بالقوالب الكلاسيكية المتحدرة من باخ[ر] J.S.Bach وهايدن وبتهوڤن، ولكنه تأثر كثيراً في أعماله الغنائية (الليد) بمصنفات شوبرت الرومنسية. كذلك انتقل تأثير شوبرت إلى أستاذ الليد الأول في ڤيينا في نهاية القرن التاسع عشر هوغو ڤولف[ر] Hugo Wolf، الذي كتب أكثر من 300 أغنية على قصائد للشعراء الألمان، تعد اليوم من أعمق الأعمال في تاريخ الموسيقى «النمساوية». ومع ذلك فالرومنسية لم تنتصر انتصاراً كاملاً في الموسيقى النمساوية، على الرغم من كثرة مؤيديها. فبروكنر أكبر المخلصين للموسيقى الرومنسية والذي ألف تسع سمفونيات لم يكن قادراً في نهاية القرن التاسع عشر على تبني إرث الثقافة الموسيقية النمساوية؛ لأنه كان مجرد ريفي متدين بثقافة متواضعة، يحب ڤاغنر، ويؤلف أعماله وهو يعزف بالأرغن، لذا لم يستطع بسط سيطرته لا على العقلية ولا على الروح الموسيقية في ڤيينا. والذي سيطر على الموسيقى النمساوية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كان التقليدي برامز، الذي امتلك مؤهلات ثقافية مكنته من محاربة مؤيدي الرومنسية، وإبعاد ڤاغنر ومؤيديه من الرومنسيين عن ڤيينا، وكان هو الذي ساعد غوستاف مالر، وأيد توليه قيادة فرقة أوبرا ڤيينا. ولكن مالر لم يكن مخلصاً للأسلوب التقليدي في التأليف، وخلط بين الرومنسية والكلاسيكية في أعماله السمفونية، وبرز في البداية تأثير ڤاغنر فيه، ولكنه لم يكن ڤاغنرياً حتى النهاية، وأعماله ذاتية جداً طبعت أساتذة موسيقى الجيل التالي من المؤلفين الذين أُطلق عليهم أساتذة مدرسة ڤيينا الثانية.
تأثر أساتذة الموسيقى النمساوية بمؤلفات برامز، ومالر الذي ترك في المؤلفين الطليعيين أثراً كبيراً، خاصة من خلال سمفونيتيه التاسعة والعاشرة الناقصة، وهكذا اتجه أرنولد شونبرغ[ر] إلى تأليف أعمال بنظام الاثني عشر صوتاً، أو ما سمي جدلاً الموسيقى اللالحنية atonal، (مما أزعج شونبرغ). وتأثر أنطون فيبرن بمصنفات شونبرغ، وألف أعماله كلها بنظام الاثني عشر صوتاً، وافتقدت مصنفاته للشاعرية، وعوّض هذا النقص التلميذ الثاني لشونبرغ، ألبان برغ[ر] الذي تأثر في البداية بمصنفات ڤاغنر وخاصة بدراما «تريستان وإيزولدِه»، ومزج بين شاعرية ڤاغنر والمفاهيم النظرية لشونبرغ في أعمال متميزة مثل: «حوارية الكمان والأوركسترا» (1935)، وأوبرا «لولو» Lulu التي قدمت أول مرة بعد وفاته عام 1937.
جاء الخط المعارض للاتجاه الطليعي عن طريق مؤلفين تقليديين أقل شهرة من شونبرغ وڤيبرن وبرغ، وأفضلهم هو فرانتس شميت Franz Schmidt ت(1874-1939) تلميذ بروكنر الذي ألف أعماله بالأسلوب الرومنسي المتأخر. ولكن مصنفاته وخاصة سمفونياته الأربع لم تحقق نجاحاً كبيراً، في الوقت الذي انتشرت فيه الموسيقى اللالحنية في أوربا في النصف الثاني من القرن العشرين، ووجدت لها مؤيدين في جميع أنحاء العالم. ومع نهاية القرن العشرين لم يعد هناك مؤلفون نمساويون متميزون على غرار المؤلفين الذين عرفتهم النمسا في القرون الماضية. وبرزت فرقة ڤيينا الفيلهارمونية التي تعد واحدة من أعرق الفرق الأوركسترالية في العالم، وفرقة دار أوبرا ڤيينا. ومنذ عام 1920 يقام في سالتسبورغ – مسقط رأس موتسارت – مهرجان سالتسبورغ الموسيقي Salzburger Festspiele وذلك في شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس.