سؤال قد يبدو غريبا عن القاموس الذي اعتاده الآباء في مجال التربية، و الذي يجعل تغيير سلوك الطفل هدفه الأول و الأساس، و لكني مع ذلك أقول لك:
إذا كنت من الذين اطلعوا على موضوع: مثلث العنف التربوي:
فأرجو أن تكون من الذين قد أدركوا خطورة تبني خيار العنف تجاه الطفل، فقرروا التخلي عنه.
و إذا كنت من الذين اطلعوا على موضوع: المفاتيح السبعة لعالم الطفل:
فأرجو أن تكون من الذين قد أدركوا مدى الغربة التي يعيش فيها الطفل بين أيدينا، فقرروا التجاوب الإيجابي معه.
و إذا كنت من الذين اطلعوا على الموضوعين و أدركوا الأمرين و قرروا القرارين، فأرجو أن تكون من الذين قد طرحوا السؤال التالي:
كيف أستطيع تغيير سلوكي تجاه طفلي؟
وعليه أقترح عليك الخطوات الأربعة التالية:
أولا: أن تعترف بأن سلوك طفلك هو انعكاس لسلوكك معه.
ثانيا: أن تجعل حاجة طفلك مركز اهتمامك عوضا عن سلطتك.
ثالثا: أن تجعل سلطتك في خدمة حاجات طفلك.
رابعا: أن تتبنى الخيار الإيجابي في التربية عوض الخيار السلبي.
أولاً: أن تعترف بأن سلوك طفلك هو انعكاس لسلوكك معه:
قد يروق لبعضنا أن يتناسى بدهية بسيطة مفادها: أن أطفالنا مهما كانوا ‘مزعجين’، فإنما هم نتاج ما صنعته أيدينا.
ولأننا ننسى ذلك، فإنه يحكى أن مؤذنا نام حتى أشرقت الشمس، فلم يؤذن لصلاة الفجر، ولما استيقظ خرج إلى الناس محتجا، لا على نفسه و لكن على الشمس التي أشرقت قبل الوقت المعتاد.
و حتى لا نقع في تمثيل دور المؤذن الذي يحتج على الشمس التي أشرقت قبل الموعد، بدل أن يعترف أنه قد نام أكثر من اللازم، فإنه علينا أن نتقبل أولا أننا المسؤولين عن السلوك الذي يمارسه الطفل، و الذي نشتكي نحن منه، و ما هو في الأصل إلا فعلنا ارتد إلينا.
تلك هي نقطة بداية التحول، و ذلك هو شرط تغيير ما بالنفس في هذا المجال.
أمران اثنان يجنيان على علاقتنا الطبيعية بأبنائنا:
ـ الأول: الجهل بحقيقة الطفل، وحقيقة عالمه.
ـ الثاني: الصورة النمطية للأب و الأم التي نشئنا عليها ماضيا، و التي نريد أن نحاكيها محاضرا ومستقبلا.
ليست الشريعة و لا العلم ـ غالبا ـ هما لمرجع الحقيقي في رسم صورة الطفل و صورة الأب و صورة العلاقة بينهما، إنما هي الخلفيات الاجتماعية التي غالبا ما تبنى على بدهيات متوارثة.
فالطفل ـ حسب النمط الاجتماعي السائد ـ رجل صغير، و لذلك عليه أن يكون مؤدبا بآداب الكبار ومتفوقا في دراسته. و الأب النموذجي والأم النموذجية ـ دائما حسب الخلفية الاجتماعية المتوارثة ـ هما من يقول الكلام فيُسمَع،و من يأمر فيطاع، وظيفتهما تجاه طفلهما محددة في الحرص على حسن تغذيته و سلامة صحته، و متابعته في شؤون دراسته و أمور مستقبله ، سمتهما الحزم، وعلامتهما الصرامة و العذل..
ينبغي علينا إعادة رسم صورة الطفل كما هو، لا كما دأبنا أن نراه. إضافة إلى أنه بغي علينا إعادة تحديد نموذج الأب والأم كما يجب أن يكونا عليه، لا كما توارثناه اجتماعيا.وذلك من خلال استحضار حاجات الطفل و سلطة الوالد و العلاقة الايجابية بينهما، ومن خلال عرض القواعد التربوية الإيجابية، التي سوف يكون لنا موعد لاحق للحديث عنها بإذنه تعالى في مقالات لاحقة.
و لذلك، سننتقل من التساؤل: كيف ينبغي أن يكون طفلي إلى العبارة التالية:
‘الطفل’ كما هو… و ‘الأب’ ينبغي أن يكون… أي سنصبح ـ و نحن نمارس العملية التربوية مع أبنائنا ـ موضوع التغيير قبل أبنائنا.إننا بكلمة واحدة مدعوون إلى إحداث جرح نرجسي عميق في ذواتنا لتجاوز حالة تنزيه المربي التي نشئنا عليها، إلى مرحلة تقييم و محاسبة المربي في ذواتنا.
ثانيا: أجعل حاجة طفلي مركز اهتمامي عوضا عن سلطتي:
وفي هذه المرحلة
ابدأ بطرح السؤال التالي على نفسك:
سلطتي أم حاجة طفلي: أيهما مركز اهتمامي؟
[1]يفيدنا الباحث الأمريكي الذائع الصيت ستيفن كوفي، بأن وراء كل سلوك نمط فكري يوجهه، كما أن وراء كل نمط فكري في حد ذاته مركز اهتمام يحكم ذلك التفكير. إنه يحاول أن يلفت انتباهنا إلى سنة كونية مفادها: انك إذا ما استطعت تعديل مركز الاهتمام فسيتم تعديل نمطك الفكري المرتبط به، هذا الأخير سيؤدي بدوره إلى تغيير نمطك السلوكي. أي بكلمة واحدة: إن تغيير ‘مركز الاهتمام’ هو سر نجاح تغيير السلوك.فإذا كان مركز اهتمامنا في تعاملنا مع أطفالنا هو سلطتنا، فإن نمط تفكيرنا سيكون ـ و بشكل تلقائي ـ هو الحفاظ على هذه السلطة ـ بالتركيز على أساليب المحافظة عليها و تأكيد دعمها في كل مناسبة، و بالتالي فإن نمط سلوكنا سيكون ـ من غير أن نقصد ذلك ـ عدوانيا تجاه أطفالنا، اعتباره مصدرا محتملا من مصادر تهديد هذه السلطة. ولأن إرجاع أصل المشكلة إلى ذواتنا يؤلمنا، فإنه عادة ما نفضل أن نتفادى ذلك، بإلقاء اللوم على من هو الضحية الحقيقية: الطفل.
أما إن عدلنا مركز اهتمامنا، و جعلناه حاجة الطفل، فإن نمط تفكيرنا سيتغير و سيصبح هو تحقيق حاجة الطفل، و بالتالي فإن نمط سلوكنا سيصير ـ من غير أن نتكلف ذلك ـ حواريا مع أطفالنا. وبذلك لن يؤلمنا إذا ما أرجعنا المشكلة إلى ذواتنا، و لن نضطر إلى إلقاء اللوم على أطفالنا في كل مناسبة.
ثالثا: أجعل سلطتي في خدمة حاجات طفلي:
أما في هذه المرحلة فابدأ بطرح السؤال التالي:
طفلي في خدمة سلطتي؟ أم سلطتي في خدمة حاجات طفلي؟
لقد قرأنا و نحن صغار، أن فلاحا فقيرا، كانت له دجاجة، تبيض له كل يوم بيضة. و في أحد الأيام وجد أنها باضت له بيضة ذهبية، فرح بها وقبلها، واتجه بالبيضة نحو السوق، فباعها. و في اليوم الموالي باضت له بيضة ذهبية أخرى، ثم قام بنفس الشئ، و ظل هكذا بضعة أيام. و خلال وقت قصير كثر ماله، إلا أن صبره قل كثيرا، فلم يعد قادرا على انتظار البيضة الذهبية كل يوم، وفكر في أنه ربما لو فتح أحشاء الدجاجة لحصل على كمية هائلة من الذهب دفعة واحدة. و هكذا، ذبح الدجاجة دون أن يجد فيها شيئا.
إنه نفس نمط التفكير الذي يتحكم في خياراتنا: سواء في التعامل الاجتماعي أو الإداري أو السياسي أو الاقتصادي أو التربوي: فلا يخرج أي منها عن أحد ثلاثة:فإما أن نكون من الذين يهتمون بالنتائج والمردوديات المباشرة، أو أن نهتم بأداة الإنتاج، أو أن نجد طريقة ثالثة لنوازن اهتمامنا بين الاثنين: الإنتاج وأداة الإنتاج.[2]
فإذا كنت من الذين يهتمون بالإنتاج مهما كانت الوسيلة، فإنك لا محالة ستكون ـ في تعاملك مع طفلك ـ من الذين يهتمون بتنفيذ الأوامر بأي طريقة وكيفما كانت انعكاساتها على الطفل: فتمارس الصراخ والإهانة و الضرب، إذ لا هدف يعلو حينها فوق تحقيق انضباط طفلك لأوامرك. إنها عملية ذبح نفسي لكيان الطفل،كما ذبح الفلاح الساذج دجاجته ليحصل على الذهب دفعة واحدة.
و إذا كنت من الذين يهتمون بأداة الإنتاج مهما كانت الظروف، فإنك ستكون من الذين يراعون شيئا واحدا في تعاملهم مع الطفل: أن يبقى طفلك راضيا عنك و يحبك، حتى لو لم تلقنه مبدأ تحمل المسؤولية في تعاملك معه.
و في كلتا الحالتين السابقتين فتحقيق حاجة الطفل التربوية تكون غائبة تماما عن الاهتمام.
إن العملية التربوية بين الأب و الطفل تتشكل من مكونين اثنين، هما:
1.سلطة الوالدين:
و تتكون سلطة الوالدين من ثلاث عناصر:
ـ الموقع التحكمى في القرار
ـ التفوق الجسدي
ـ النضج النفسي
2.حاجة الطفل:
إذا كانت لنا نحن الآباء سلطة يلزمنا ممارستها، فللأبناء حاجة تربوية من حقهم أن يستفيدوا منها، و هي أربعة أنواع متكاملة:
ـ تحقيق الذات
ـ احترام الذات
ـ الشعور بالمحبة
ـ الشعور بالأمن
ـ الشعور بالانتماء
و لذلك فتتوزع هذه الحاجات على أربع مستويات بالشكل التالي:
ـ النفسية العاطفية
ـ العقلية المنطقية
ـ الحسية الحركية
ـ الاجتماعية
ملحوظة: ما ودر في الخانات الداخلية للجدول، من حاجات تربوية للطفل، إنما هي مجرد نماذج من باب التمثيل لا الحصر.[
و حسب نوع العلاقة بين هذه السلطة و تلك الحاجات تتحدد طبيعة المربي، فمن السهل أن تجعل طفلك خاضعا لك مستسلما لكل أوامرك، ولكن ذلك لا يضمن أن يتمتع طفلك بصحة نفسية سليمة، أو أن يتبنى قيما تربوية إيجابية. ولذلك فعليك أن تحدد أولوياتك:سلطتك أم حاجة طفلك؟
و على أساس تلك الثنائية، ينقسم الآباء إلى ثلاثة أصناف:
ـ الأب المتسلط: من ضخم سلطته على حساب الحاجات التربوية لابنه، معتمدا كلية على مبدأ ‘الهيبة’ الوالدية. وباعتبار الطفل كائنا هشا فمن السهل تنفيذ إرادة التسلط عليه و إكراهه على الإذعان بأي شكل يريده الأب المتسلط، دون اللجوء إلى أي وسيلة من الوسائل التي تعبر على احترام كيان الطفل. وبذلك يكون مركز اهتمامه بالأساس هو ذاته:فتكون ذاته مقدسة، و إرادته طاغية،و سلطته مضخمة. في مقابل كيان الطفل الذي يكون مزدرى، و إرادته مغيبة، و حاجته ملغاة. لتكون نتيجة لذلك السمة التي تطبع علاقة الأب المتسلط بطفله هي سمة التوتر.
ـ الأب المتساهل: من ألغى سلطته الوالدية لحساب تدليل الطفل والخضوع لما يريد بالشكل الذي يريد وبالقدر الذي يريد، معتمدا على مبدأ ‘الحب’ المفرط. إنه يريد من طفله أن يحبه مهما كان الثمن، في حين لا يفكر هو كيف يكون طفله محبوبا، و تلك من المفارقات العجيبة: ففي الوقت الذي نجد فيه المربي المتساهل يظن أنه يتخذ موقفه ذاك حبا للطفل، يكون حرصه في حقيقة الأمر على أن يبقى هو محبوبا لدى الطفل، مما يعني أن حبه الحقيقي هو لذاته لا لذات الطفل، وبذلك يلتقي المربي المتساهل مع المربي المتسلط في كون مركز الاهتمام لديهما ليس هو الطفل و لكن هو ذاتهما. فتكون نتيجة لذلك ذاته مزدراة، و إرادته غائبة،و سلطته ملغاة. في مقابل كيان الطفل الذي يكون مقدسا، و إرادته طاغية، و حاجته ملغاة. لتكون نتيجة لذلك السمة التي تطبع علاقة الأب المتساهل بطفله هي سمة الابتزاز.
ـ الأب المتوازن: من وظف سلطته لتحقيق الحاجات التربوية للطفل، معتمدا على مبدإ ‘الثقة’ بينه و بين ابنه عن طريق التواصل و التقارب و التفاوض و التدرج و التوافق.باعتبار أن مبدأ الثقة هو نقطة التوازن بين الهيبة المطلقة و الحب المفرط. فتكون نتيجة لذلك ذاته محترمة، و إرادته حاضرة،و سلطته موظفة. بالموازاة مع كيان الطفل الذي يكون محترما، و إرادته حاضرة، و حاجته مستهدفة. لتكون نتيجة لذلك السمة التي تطبع علاقة الأب المتوزان بطفله هي سمة الانسجام.
و يلخص الجدول أسفله ما نقصده في هذا الشأن:
رابعا: أتبنى الخيار الإيجابي في التربية عوض الخيار السلبي:
حينما يواجه المربي الإيجابي ـ و الأب المتوازن ـ سلوكا سلبيا من قبل ابنه، فإنه:
ـ أولا: يعمل على فهم سلوك الطفل على حقيقته، لا على أساس ما دأب المجتمع على تفسيره به، مستحضرا المفاتيح السبعة لفهم عالم الطفل فيسهل عليه تفسير أي سلوك وارد على حقيقته.
ـ ثانيا:يبحث أولا عن مدى مسؤوليته في سلوك طفله، فيراجع إشباع حاجة طفله التربوية، ويبحث عن الأسباب التي دفعته للقيام بما قام به.
ـ ثالثا:يركز اهتمامه على تحقيق حاجات الطفل التربوية لا على تحقيق سلطته، و بالتالي فنمط تفكيره يكون هو توظيف سلطته لخدمة حاجات طفله، وأما نمط سلوكه حواري توافقي تفاوضي.
ـ رابعا:يعمل على تعديل مركز اهتمام الطفل، في حالة ما إذا كان مركز اهتمامه خاطئ، ويثير انتباهه إلى مركز الاهتمام الصحيح، فيدفعه دون إكراه إلى تبني السلوك الصحيح، ولا يركز على السلوك السلبي في حد ذاته، لأن التركيز عليه تأكيد له.
خاتـمـة:
تلكم بعض الاقتراحات للجواب على سؤالك: كيف أستطيع تغيير سلوكي تجاه طفلي؟
طبعا، من حقك أن تسأل: هل سيجد المربي الوقت الكافي للتعامل مع سلوك طفله بهذا القدر من التريث و الدقة و’ البرود’؟ وبالتالي هل يعتبر ما تطرحه علينا من اقتراحات هي أمور قابلة للتطبيق بالأساس؟
إن هذه العمليات في الواقع لا تحتاج منا إلا إلى استيعاب ما يجب أن نقوم به، وللتدرب لبعض الوقت، وبعد ذلك سوف تصبح جزءا من سلوكنا التلقائي، وحينها ستجري تلك العمليات في ذهنك بسرعة قصوى و ستبرمج رد فعلك الصحيح. ولكن البداية تحتاج إلى صبر ومجاهدة، فليس من السهل التخلص من الصورة النمطية التقليدية للمربي، و هي التي تثوي عميقا في عقلنا الباطن، كما أنه ليس من السهل الخروج عن السلوكيات الموروثة و الجاهزة. بل إنك بعد اقتناعك بما يتوجب عليك القيام به، وشروعك في تطبيق تلك القناعات الجديدة لديك، فقد تجد نفسك أحيانا ترتكس إلى نفس السلوك السلبي الذي اعتدت عليه من قبل.
حينها لا ينبغي عليك أن تصاب بالإحباط فتقول:’لا فائدة من المحاولة ومن كل ذلك التكليف، دعنا وما ألفينا عليه آباءنا فهو أريح لنا. ألم تكن طريقتهم مجدية أيضا؟ هاأنت ترانا أمامك، إننا نشعر أننا بخير تماما’
لا تقل ذلك، بل حاول باستمرار، ففي كل مرة ستكرر فيها المحاولة ستحقق تقدما في سلوكك الإيجابي، فالتربية الإيجابية مسار كامل، بكل ما يعنيه من مثابرة وبناء، و ليست مجرد وصفة سحرية، ستؤدي مفعولها فينا بضربة لازب.
بقلم: الأستاذ ماهر الملاخ باحث في المجال التربوي
دبلوم الدراسات المعمقة تخصص لسانيات
[1] العادات السبع للقادة الإداريين، ستيفن كوفي، ص: 22. [2] انظر: العادات السبع للقادة الإداريين، ستيفن كوفي، ص: 47