صوت لامس القضية والإنسان
فقدت الثقافة الفلسطينية والعربية بداية هذا العام 2007 شاعرة وإعلامية فلسطينية لامعة، بوفاتها فجر يوم الأول من كانون الثاني في مستشفى فيرفاكس بولاية فرجينيا الأميركية، بعد صراع طويل مع مرض عضال. وتعتبر السيدة ناهدة الدجاني من الإعلاميات العربيات اللامعات حيث عملت لأكثر من أربعين سنة في حقل الإعلام في الشرق والغرب، كما أنها شاعرة مهمة ومن البارزات في مجتمع الشعر والأدب العربي عموماً. وهي عضو في مجلس المشرفين على مركز الحوار العربي في الولايات المتحد الأميركية.
هي من جيل آمن بأن فلسطين ستعود. ثم تراجع فآمن بأنها قد تعود. ثم تراجع فآمن بأنها… لن تعود. جيل كان ابن القضية المركزية العربية التي تفرّق عشاقها شيئاً فشيئاً، فباتوا ينتمون الى… قضايا. كل بلد عربي له قضية. فالأجيال التي بَنَت أحلامها الكبيرة على وقع ثوري متمرّد رافض، واصطدمت بالواقع العربي الذي كان صعباً فاستحال قاتلاً، لم تجد بدّاً من الانصراف من العام الى الخاص، ومن المجتمع الى الذات، عندما اشتدت ظروف الحياة. والحياة قهّارة. لكن حلم فلسطين بقي. في ناهدة فضلي الدجاني بقي، وفي تلك النخبة العربية. والمعركة التي تبدو أحياناً انها انتهت بالهزيمة، يبدو انها لن تنتهي بالهزيمة. أو هكذا يتراءى لمن هم من وزن ناهدة في العقل والقلب والرؤيا.
من الفتاة الطيّبة المطرودة من بلدها، الى الفتاة الجامعية النجيبة في الجامعة الاميركية في بيروت عام 1953 الى محطة «الشرق الأدنى» الإذاعية التي كانت قبلة الأنظار في مستواها وخبراتها بين الإذاعات أو بين إرهاصات الإذاعات العربية، الى مؤسسة خاصة بها وبزوجها وببعض المغامرين الأنقياء الأكفاء للإنتاج الإذاعي، الى الإذاعة اللبنانية، الى الهجرة بعد حرب لبنان 1975 الى الولايات المتحدة الأميركية: رحلة إذاعية وإعلامية زاهية ملأتها ناهدة فضلي الدجاني بما يمكن اعتباره أحد أجمل وأبرز الأصوات النسائية الإذاعية العربية وأفضلها.
إنه الصوت العذب الذي خُلق من قصيدة ضائعة، من كتاب متروك، ومن نغم قديم دافئ يطلق في الأذن عصافير وفراشات. كانت ناهدة صوتاً ذائباً أكثر مما هي كائن من لحم ودم. ولم يكن يستطيع المستمع الى صوتها من الإذاعة اللبنانية في الستينات والنصف الأول من سبعينات القرن الماضي، وهي تقرأ «صفحة من كتاب» أو مقطعاً من قصيدة لخمس دقائق على الأكثر، ان يصدّق ان هذا صوت، لا آلة موسيقية رومانسية أسطورية.
ومن لم يعشق في ذلك الزمن، كان صوت ناهدة فضلي الدجاني يدعوه الى العشق. فإذا لم يجد من يعشقه، فمن المؤكد انه قد يعشق صوتها. كأنه كان صوت حبيبة يأتي من الخيال الذي يصنع الحبيبة، لا من الحبيبة بالضبط، صوت هو الإنسان.
كما يدل العبير على الوردة، كما تدل الغيمة على المطر. كما يدلّ القلب على مالكيه، هكذا كان يدلّ صوت ناهدة على ناهدة: المرأة الكامنة خلف حزن كامن خلف قضية كامنة. لا المرأة كانت قادرة على ان تفلت الحزن المتدفق خشية اكتساح ما حولها، ولا القضية كانت قادرة على ان تتغير في وجدان المرأة، ولا المرأة كانت تريد. وثمة التواطؤ الجميل بين الجلاد والضحية، بين السيف والعنف، بين الحب والموت من الحب.
ثلّة من الفلسطينيين كانت في المقدمة، عرف العالم العربي الهمّ الفلسطيني من خلالها. كانت ثلّة مبدعة. ظلّت مبدعة، على رغم تغير الحال والمآل.
ناهدة فضلي الدجاني واحدة من كثر، لم تفقد فلسطين فحسب. فقدت في ما بعد لبنان. وفقدت صوتها خارج سربه.
صوت ناهدة فضلي الدجاني، قيل والله اعلم انه فقد العالم العربي، أخيراً، ولذلك مات!
ناهدة فضلي الدجاني، ومن لا يذكرها في برنامجها اليومي في الاذاعة اللبنانية مع الصباح؟ صوت الفجرية، والحنجرة القمرية التي تعبق أريج الشمس وتسبق النهارات.
المذيعة المعروفة وقتذاك في الاذاعة اللبنانية تقرأ الشعر والنثر صباحاً كمن يزرع حدائق الورد والنعناع، وكمن يرسل رسائل كثيرة تبحث عن الاصدقاء.
يفاجئك الإسم ناهدة فضلي الدجاني بكم كثير من الأشياء، المشتركة، القريبة والبعيدة أقوى من الموت.
إنها صورة من لبنان والزمن الجميل. صورة لا يمكن أن تذهب بعيداً، وهي لا تدعك الا وتحبها بطرقها اللطيفة، بصفتها صديقة كل اللبنانيين، وكل الأصدقاء.
ناهدة فضلي الدجاني رحلت عن عمر يناهز السبعين عاماً، وهي تنتمي الى جيل الخمسينات في العمل الاذاعي.
بدأت عملها الاذاعي في “الشرق الأدنى” حيث تعرفت حينها الى زوجها غانم الدجاني، وبعدها انتقلت الى الاذاعة السعودية، ثم الاذاعة اللبنانية حيث قدمت حتى العام 1977 برامج عدة، كان اشهرها برنامج “مع الصباح” الذي حصد شهرة واسعة في صفوف جمهور العامة والنخبة ويرى ان الرئيس الراحل سليمان فرنجية كان من المدمنين على سماعها يومياً.
المذيعة المعروفة تميزت بصوتها الدافئ وأدائها المضبوط والموقع. لا صوت اذاعياً يضاهيها شعراً الى الآن. تسمع صوتها تشعر كأنك في الجنة.
صوتها لا يذهب ابداً. هي السيدة المحافظة، الفاتنة والراقية جداً، صاحبة القد النحيف والممشوق واللهجة الشديدة الوضوح، كأنها إشراقة مهرجانات شمسية.
بعد مغادرتها وزوجها لبنان في العام 1977، بقيت ناهدة فضلي الدجاني وفية للبنان.
ويروي المخرج المسرحي محمد كريم، كيف تلقى خلال حرب 12 تموز المشؤومة اتصالاً هاتفياً منها وهي على سرير مرضها في اميركا لتطمئن عنه وعن عائلته وتطمئن على لبنان واللبنانيين، مبدية حزنها الشديد لما آلت اليه امور الحرب الاخيرة، على أمل ان ذوي الشأن يسمعونها.
إنها القوة الحرة للكلمات الشعرية على نحو مضمون انساني ملتزم اكثر من اللازم.
ناهدة فضلي الدجاني كانت امرأة مرئية بصوتها في زمن لم تكن فيه المرئيات الحالية، وبرسائل صوتية مثقفة بالأفضل وبالفرح والالوان.
مارست الإعلام كامرأة مكافحة وقد تلقت علومها BS في الجامعة الاميركية في بيروت، وتركت خلفها عائلة تلقت علوماً عالية.
نخسر برحيلها ذلك الصوت الهائل في مدّه وجزره، الصوت الطويل العالي على نظام ووعاء جمالي جدي انساني روحي وغنائي وايقاعي، والأهم الصوت المثقف النادر والاستثنائي في زمن الاصوات الهابطة ثقافياً وفنياً.
وهنا بعض النصوص المختارة لكلمات للشاعرة ناهدة فضلي الدجاني
في ليل القهر العربي الطويل، وفي زمن نكاد نكسر فيه مرايانا، تهب نسمات تمنع الاختناق عنا، وتعيد البريق لأعيننا.
كمثل طفل يرمي حجرا، أم تضع مولودا، رجل يقول الحقيقة، يد تمسح عرق جبين متعب، إنسان يملك شجاعة الاعتذار، صوت يقول الآه شجنا، موهبة مبدعة تبتكر جديدا، رجل سياسة عميق الثقافة، مطبعة تصدر كتابا، مسرح يقدم فنا، إصرار رجل وامرأة على المضي في مشروع ثقافي للحوار في زمن الصراخ والرصاص، مسؤول عن غزو العراق مخزيّ لما فعله سجانو الشعب العراقي المعروفون بقوات التحالف لتحرير العراق.
نقول ذلك بأسف وغصة، غير أن عذاب المساجين إهانة لمن يقول لنا إننا محكومون برجال الكهوف، فمن يعيّرنا بهذا القول، محكوم برعاة البقر ومجرمي الحروب وبكائي الحيطان. هؤلاء الذين سّيسوا الدين للوصول إلى غاياتهم، لن يحصدوا سوى لعنة الشعوب، ولن يبق سوى الطفل والرجل والمرأة والمواهب المبدعة.
في أمسية مركز الحوار 19 مايو/أيار 2004
(نحن حملنا من دنيانا العربية الحبيبة الومض والدفء والعمق والحنان النابع من ثقافتنا العربية لنجبله بالحرية والتقنية والمستقبلية النابعة من ثقافة العالم الجديد، لعلّه يبحر ثانيةً إلى دنيانا، فتصحو من كبوتها، وترفع رأسها، وتنظر إلى الأمام بعيداً عن الماضي الذي أصبح كاللص يسرق عافية وآمال وطموحات شعوبنا كأنَّنا أعجز من أن نفكر بمنطق القرن الحادي والعشرين ونفضل الحنين إلى القرون الوسطى، بحيث يكاد ذلك يصبح هوية ثقافية، أمَّا نحن في “مركز الحوار” فهويتنا قومية عربية في سياستها، عربية أمريكية في ولائها، روحانية إسلامية مسيحية أغريقية آسيوية أندلسية في ثقافتها).
الذكرى السابعة لتأسيس مركز الحوار العربي في واشنطن – 2001
“حين يصبح الحبّ حبّ الوطن، ويُقهر شعب ويجوع ويُعذّب ويُشرّد، ويظلّ يقاوم ويرفض المساومة، ويصرّ على حقّه في الحياة والحريّة، وحين أعطت بريطانيا فلسطين لليهود، حدث خطأ في المعادلة الدولية التي أخذت مستقبل شعب يموت حبّاً في أرضه، وأعطته لماضي شعوب غازية من أطراف الدنيا، لأنّ العطاء النابع من غير حب يظل مزعزعاً تنقصه مدارك الحق، لكن جبروت الحب سيظلّ أقوى من أي شيء، فالشعب الذي يموت حباً من أجل الوطن سيظل صوتاً صارخاً في ضمير الإنسانية وسيظلّ رمزاً لما تحمله قصائد الشعراء وآهات المغنين من عميق الحب”.
ندوة “مركز الحوار” -7 آذار/مارس 2001
أتساءل، إذا كان مركز الحوار العربي، قد أنجز هذا الكمّ وهذا النوع من النشاطات الفكرية والفنية، وهذا التواصل الإنساني، في العقد الأول من عمره، وبجهد يكاد يكون فرديا، فما هي المنجزات المتوقعة منه في عقود الصبا والنضوج والعمر الثاني؟ وبجهود جماعية؟
الجواب المؤمّل: كثير كثير، فكل عمل كبير يبدأ بحلم متكرر وجهد متواصل. وتجربة مركز الحوار تؤكد هذه المقولة
سواء كنت معكم في الآتي من الأيام أو لم أكن، فإني أصلي أن يكون تفاعل الإنسان العربي في محيطه الأميركي إيجابيا، يؤثر ويتأثر، ويسهم مع المجموعة الكاملة في إضافات تغني الحضارة البشرية.
بارك الله في نيّاتكم وجهودكم، وكل عيد وأنتم بخير
الرجوع للخلف