يبدو أن تحذير الزعيم الليبي معمر القذافي خلال القمة العربية الأخيرة في دمشق من أن أمريكا ستطارد الزعماء العرب واحدا تلو الآخر بعد إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بدأ يجد آذانا صاغية على أرض الواقع ، حيث فوجيء العرب والعالم في 14 يوليو 2008 باتهام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو للرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية في دارفور ، مطالبا المحكمة باعتقاله .
إعدام صدام شكل سابقة أيضا
هذا القرار اعتبره كثيرون بأنه سياسي مائة بالمائة ويؤكد أن الولايات المتحدة قررت استخدام سلاح المحكمة الجنائية الدولية لإسقاط نظام البشير الذي طالما حال دون تحقيق مخططات المحافظين الجدد وإسرائيل في تقسيم السودان والاستيلاء على ثرواته الهائلة وخاصة المعدنية والغذائية والمائية منها .
وهناك أدلة تدعم صحة ما سبق من أبرزها أن المحكمة ليس من اختصاصها نظريا محاكمة مواطنين أو مسئولين سودانيين لأن السودان لم يصادق على معاهدة روما المؤسسة لها وهذا شرط جوهري للقبول بولايتها ، إلا أن الولايات المتحدة استغلت بعض ثغرات المعاهدة للف حبل المشنقة حول رقبة البشير ومنها أن نظام المحكمة الجنائية الدولية يعطي لمجلس الأمن الدولي صلاحية اللجوء إليها (المادة 13 ) والمطالبة بمحاكمة المسئولين عن الجرائم ضد الإنسانية (المادة 7 ) حتى وإن كانت الدولة التي ينتمون إليها لم تصادق على معاهدة روما أو لم تكن طرفا فيها.
وبالفعل ، ضغطت الولايات المتحدة على مجلس الأمن لإصدار قرار في مطلع إبريل 2005 يجيز إحالة مرتكبي التجاوزات في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية .
ورغم أن البعض قد يشير إلى الحصانة الدولية للبشير باعتباره رئيسا للسودان ، حيث تنص العديد من الدساتير على نوع من الحصانة ضد المقاضاة الجنائية بالنسبة لرئيس الدولة والمسئولين الحكوميين والبرلمانيين ، إلا أنه وللأسف فإن المادة 27 من النظام الأساسى للمحكمة قضت بعدم الاعتداد بالصفة الرسمية للإعفاء من المسئولية الجنائية أو جعلها سببا لتخفيف العقوبة.
هذا بالإضافة إلى أن احتمال استخدام الصين وروسيا الفيتو ضد قرار اعتقال البشير هو أمر غير مؤثر لأن سلطات مجلس الأمن محدودة جدا وفقا لمعاهدة روما ، فالمادة 16 تسمح للمجلس فقط بأن يطلب من المحكمة طبقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إرجاء تنفيذ قراراتها لفترة 12 شهراً ، قابلة للتجديد ، وليس إلغائها .
وزيادة على ذلك، فإن المادة 16 تشترط أيضا أن يخضع مثل هذا الطلب لموافقة جميع الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس أو امتناعها عن التصويت، أما في حال استخدام إحداها حق النقض، فإن الطلب لا يسري على المحكمة ، أي أن السودان بات على موعد مع ابتزاز دائم من قبل أمريكا والغرب ، ولعل تلك النقطة بالذات هى التي دفعت الولايات المتحدة لرفض المصادقة على معاهدة روما بل والانسحاب أيضا من التوقيع عليها ، فهى كانت قد طالبت بأن تكون المحكمة خاضعة لمجلس الأمن حتى تملك حق النقض في وجه قراراتها ، إلا أن النظام الأساسي للمحكمة لم يأخذ بهذا الطلب .
تهديد الزعماء العرب
ولذا سرعان ما ركزت واشنطن على استخدام صلاحيات المحكمة لتأديب “الحكام المارقين” بعيدا عن الحروب وفيتو مجلس الأمن ، وهو ما ظهر بوضوح في حالة الرئيس السوداني ، وهنا يتساءل البعض : هل يشكل القرار سابقة لمحاكمة مسئولين عرب آخرين ، وماذا يفعل السودان لمواجهته؟ .
البشير في موقف لايحسد عليه
والإجابة أن ما حدث مع الرئيس السوداني يعد بالفعل سابقة لأنه لأول مرة يصدر النائب العام بالمحكمة الجنائية قراراً باعتقال رئيس دولة وهو في الحكم،الأمر الذي يفتح باباً جديداً لإحالة الرؤساء المتهمين في جرائم حرب أو إبادة أو جرائم ضد الإنسانية للمحكمة دون الاعتداد بالحصانة الموضوعية أو صفتهم الرسمية .
وفي هذا الصدد ، يذكر الدكتور عبد الله الأشعل مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق أنه إذا أرادت واشنطن معاقبة أي رئيس خرج عن طوعها فستسلط عليه المحكمة الجنائية الدولية بزعم انتهاكه لحقوق الإنسان .
ولعل تصريحات وزير الدولة بوزارة الإعلام والاتصالات السودانية كمال عبيد تسير في هذا الاتجاه ، فهو أكد أن توقيت الإعلان عن اعتقال البشير يشير إلى أن منطلقات المحكمة سياسية وليست قانونية ويثبت عدم الرغبة في تحقيق السلام والنماء والاستقرار في السودان ، قائلا :” المحكمة بهذه الخطوة تريد صرف الأنظار عن محاكمات المخربين الذين اعتدوا علي أم درمان، والتي تجاهلتها المحكمة ولم تعلق عليها، كما ترمي إلي صرف الأنظار عن إجازة قانون الانتخابات العامة ومنع البشير من الترشح لولاية جديدة ، بالإضافة للتغطية على اجتماعات لجان التحكيم في قضية أبيي ، التي تعامل معها البشير بحنكة سياسية عالية “.
وفيما يبدو أنه توضيح للهدف الخفي من وراء إصرار واشنطن على إصدار أمر الاعتقال في هذا التوقيت ، أضاف عبيد أن الخطوة تأتي والأنظار تتجه نحو السودان للإسهام في حل أزمة الغذاء العالمي نظراً للإمكانات والموارد الزراعية الكبيرة التي يتمتع بها ، محذرا من أن الخرطوم ستطالب بمحاكمة لويس مورينو أوكامبو لخروجه عن الخط القانوني للمحكمة الجنائية الدولية وتنفيذه طلبات واشنطن .
صحيفة الجمهورية المصرية هى الأخرى ، كشفت في تقرير لها أدلة تورط أمريكا في إصدار قرار اعتقال البشير ، قائلة :” إن عبد الواحد محمد النور مؤسس حركة تحرير السودان المتمردة في دارفور ظهر علي شاشات التليفزيون الأمريكية في 12 يوليو وارتكب زلة لسان فاضحة عندما قال إن أوكامبو بعث برسالة مفادها أن أي شخص يرتكب جرائم وإبادة جماعية سيحاكم، ولم يكن أوكامبو قد كشف بعد عن فحوي اتهامه لمسئولين سودانيين بينهم البشير”.
واستطردت تقول :” الأصابع الأمريكية ظهرت في السودان تمهيداً لاحتلاله ، ليس خافياً علي أحد أن هذه المحكمة هي إحدي أدوات أمريكا لتدمير الاستقرار العالمي ومحاصرة دول بعينها تري واشنطن أنها ربما تشكل تهديداً من وجهة نظرها للمصالح الأمريكية ، السودان والذي يعد عمق مصر الاستراتيجي وجزءاً هاماً من أمنها القومي، أصبح مطمعاً لعدة دول علي رأسها الولايات المتحدة منذ اشتعال أزمة دارفور ووجود مؤشرات قوية علي وجود معادن ثمينة وبترول ويورانيوم بالإقليم” .
واختتمت الجمهورية تقريرها ، قائلة :” أمريكا تريد التغلغل في السودان والتحكم في هذا البلد العربي المترامي الأطراف والمليء بالثروات البكر والذي يمكن أن يحل أزمة الغذاء في عدة دول عربية، وعنه تقول عدة صحف أمريكية أنه يمكن أن يشكل جسر إنقاذ مائي لإسرائيل ومد خطوط أنابيب مياه النيل إليها. للأسف ستظل أمريكا تضغط من خلال الأمم المتحدة كي يتزايد نفوذها في المنطقة العربية وتقترب أكثر من مناطق الثروة والبترول ، لكن المخطط الأمريكي مكشوف ، وستتصدي له الدول الحليفة للسودان وللحق العربي”.
ولعل الأمر الأهم الذي يفضح أمريكا والمدعي العام للمحكمة الدولية أن قرار الاعتقال شمل فقط البشير وأحمد محمد هارون وزير الدولة السودانية للشئون الإنسانية ومحمد على عبد الرحمن كوشيب ، أحد قادة ميليشيات الجنجويد ، رغم أن الاتهامات بارتكاب جرائم حرب طالت أيضا عشرات المتمردين في دارفور ، مما يعني أن السكوت عن الباقين له دوافعه السياسية.
وهذا ما يظهره تقرير صادر عن مجموعة الخدمات البحثية فى الكونجرس الأمريكى أشار إلى نجاح المساومة السياسية الأمريكية فى إبعاد من تعتبرهم مهمين لها من شبح الملاحقات القضائية ، قائلا :” صلاح قوش و متهمون سودانيون آخرون أدوا أدوارا مهمة فى خدمة مصالح أمريكا ولذا فإن واشنطن ترفض ملاحقتهم قضائيا “.
المطلوب عربيا
ورغم أنه بات من المؤكد أن واشنطن تسير قدما في مخطط تقسيم السودان سواء كان ذلك عبر اتفاقية السلام التي تضمن انفصال الجنوب أو من خلال إشعال أزمة دارفور، إلا أن العرب لم يقوموا حتى الآن بخطوات جدية لإنقاذ السودان من المصير الذي وصل إليه العراق.
بوش واولمرت يسعيان لتقسيم السودان
صحيح أن مصر التي يمثل السودان عمقها الاستراتيجي من الجنوب استجابت على الفور لرغبة البشير بزيادة عدد القوات المصرية ضمن قوات حفظ السلام المشتركة التي تضم الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة ، إلا أن هذا لم يمنع تنفيذ المخطط الأمريكي ، فالأولى كان التحرك قبل أن يتم حصار السودان بالقرارات الدولية التي صدرت وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والتي أوجدت الأرضية الخصبة لتلاعب المحافظين الجدد وإسرائيل بهذا البلد العربي المسلم .
فالرئيس السوداني بات في قبضة المحكمة الجنائية الدولية لأن قراراتها غير قابلة للإلغاء ولا تسقط بالتقادم ، ويبدو أن هذا هو الثمن الذي كان لابد أن يدفعه العرب من وجهة نظر بوش للتغطية على فشله في العراق وأفغانستان ولبنان ولرفع أسهم المرشح الجمهوري جون ماكين في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة .
ولذا لا مناص من تكثيف التحرك العربي والإفريقي في الأمم المتحدة لدفع مجلس الأمن لمطالبة المحكمة بتأجيل تنفيذ قرار اعتقال البشير ، بالإضافة إلى ضرورة تحرك الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي سريعا لإصدار فتوى من المحكمة الجنائية الدولية حول حصانة الرؤساء لضمان عدم استخدامها كسلاح سياسي لخدمة مخططات واشنطن ، وباعتبار هذا الأمر يضر بمبدأ أساسي في القانون الدولي وهو مبدأ السيادة.
أيضا لابد من حملة إعلامية ودبلوماسية ضد قرار المحكمة تركز على أن قضية دارفور هي قضية سياسية في المقام الأول وأي تدخل فيها من قبل المحكمة قد يعرقل جهود إحلال السلام بالإقليم ، هذا بجانب المقارنة بين ما يحدث في دارفور وهو نزاع قبلي داخلي بين مسلمين وبين المذابح التي ترتكب في فلسطين ولبنان والعراق والصومال وأفغانستان ولا تلتفت لها المحكمة ، الأمر الذي يفقدها مصداقيتها .
ومن بين الأمور الأخرى الهامة جدا في هذا التحرك ، الاهتمام بتجميع أدلة إدانة إسرائيل باعتبار الاستيطان الذي تقوم به من الجرائم التي تقع طائلة المحكمة ، هذا بجانب الجرائم التي قامت بها في أعقاب إنشاء المحكمة سواء كان ذلك في فلسطين أو لبنان ، ووضعها بيد الجمعية العام للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية لإحراج واشنطن ومجلس الأمن وأوكامبو نفسه ، لعل وعسى ينجح العرب يوما في فرض حقوقهم على أجندة المجتمع الدولي.
وبعد ذلك ، يبقى التساؤل الملح ” أي من الحكام العرب ستستهدفه واشنطن بعد صدام والبشير ؟ ” ، هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة .