قليل من الرجال الذين تركوا علامات وبصمات ساطعة كالشموس على جدار التاريخ البشري، وقليل ما هم أولئك الرجال الذين أثروا الحقيقة برغم زخرف وحلاة الدنيا وبهرجها، وخاضوا غمار الحياة ببؤسها وشقائها، مضحين بكل غالٍ ونفيس في سبيل هذه الحقيقة التي عشقوها، حتى أصبحت وإياهم شيئاً واحداً، وأصبحوا لا يرون الحياة إلا من خلال تلك الحقيقة التي جعلتهم مغامرين من الطراز الأول، مغامرة تكاد تكون لغرابتها ضرباً من الخيال الجامح تعتبر شخصية المستشرق النمساوي
اليهودي الأصل (ليوبولد فايس) الشهير بعد إسلامه (بمحمد أسد) ذلك الصبي الذى أصر والدة على دراسة النصوص الدينية ساعات طويلة كل يوم، حتى وجد نفسه وهو في سن الثالثة عشرة يقرأ العبرية ويتحدثها بإتقان، درس التوراة في نصوصها الأصلية وأصبح عالماً بالتلمود وتفسيره، ثم انغمس في دراسة التفسير المعقد للتوراة المسمى (ترجوم) فدرسه وكأنما يهيئ نفسه لمنصب دينيمن وبعد إسلامه يعد من الشخصيات العظيمة التي حاولت التقريب بين العالم الإسلامي وأوروبا، وإحدى الشخصيات المؤثرة في العالمين العربي والإسلامي.، حيث تنقل بين العديد من البلدان العربية والإسلامية والغربية وإسرائيل،. ومنذ اعتناقه للإسلام اتخذ من الزي العربي البدوي لباسا دائما، والعربية لغة، والجمل وسيلة لمواصلاته. جاب الصحاري والكفور، وخالط البدو.وله مغامراته المدونة في الصحاري والمدن والبلدان المختلفة.وأتقن العربية بطلاقة، والعديد من اللهجات العربية. ترجم معاني القرآن الكريم، والحديث الشريف إلى الإنجليزية، وله مؤلفه الشهير: (الطريق إلى مكة الذى أصبح فيلماّ وندعوا لمشاهدته ) .
إعتنق الإسلام تحت إسم محمد أسد وبدأ يرتدي اللباس العربي ويتكلم العربية بدلاً من الألمانية هل كان حالما مغامرا، أم متدينا متحمسا؟ في كل الأحوال فإن هذا الرجل ما يزال يثير الانتباه بمسار حياته الخيالي. فقد ولد ليوبولد فايس يهوديا سنة 1900 وترعرع في فيينا، ثم غدا في ما بعد مساعدا للمخرج السينمائي فريدرش مورناو ببرلين، قبل أن يقوم برحلة عبر بلدان المشرق من القاهرة إلى طهران كمبعوث لصحيفة “فرانكفوتر تسايتونغ“.
بعدها اعتنق الديانة الإسلامية وغير إسمه ولغته ولباسه، وكان ممن شارك في وضع الأسس النظرية لتأسيس دولة باكستان التي غدا ممثلها لدى الأمم المتحدة في ما بعد. شخصية ليوبولد فايس، محمد أسد فيما بعد، تعكس في مسارها مجمل أحداث القرن المنصرم.
أحب أسد جزيرة العرب وأهلها واعتبرها موطنه، كان من أتباع الملك عبد العزيز وبادله الود، وظل من أخلص خلصائه زماناً، واتصلت مودته بأولاده من بعده.
تفاعل أسد مع كل قضايا الأمة، ورافق الشهيد عمر المختار وصحبه في كفاحه ضد الإيطاليين. ثم انتقل بعد ذلك إلى الهند، حيث لقي العلامة محمد إقبال، وقد أقنعه إقبال ليبقى حتى يساعد في إذكاء نهضة الإسلام في الهند، ومشروع إقامة دولة باكستان.
كان بإمكان حفيد الحاخام الأورثوذوكسي بنيامين أرجيا فايس تشيرنوفيتش، وابن المحامي اللمبرغي كيفا فايس أن يواصل، بكل بساطة، المسار العلماني لعائلته.
كما كان من الممكن له بعد انتقال أبويه إلى فيينا سنة 1914 أن يواصل طريق التنقل هذه التي كانت ستقوده عبر حطام مملكة الدانوب وخلال سنوات الازدهار التي عقبت الحرب العالمية الأولى، في هجرة طوعية إلى فلسطين أو في رحلة طائشة إلى أميركا أو نحو موت داخل محارق هتلر، كما حدث لأبيه وأخواته.
لكن هذا الشاب، وبعد دراسة غير متحمسة بشعبة الفلسفة، قد فضل على كل ذلك أن يظل متنقلا بين مقاهي الأدباء بفيينا ثم برلين من بعدها، والعمل من حين لآخر إلى جانب السينمائي مورناو.
بعدها بدأ يعمل في معالجة برقيات الأنباء لدى وكالة رودولف دامرت للأنباء، وهي فرع لوكالة “يونايتد براس أوف أميركا“ ، قبل أن أن يتوفق أخيرا للتحول إلى صحفي محترف على حوار خاص أجراه مع زوجة الكاتب الروسي مكسيم غوركي سنة 1921.
بحثا عما هو أسمى
سنوات الانطلاقة الاقتصادية لفترة ما بين الحربين التي كانت مركزة على التطور التقني والرفاه المادي قد أثارت في ذلك الشاب شعورا بالاغتراب، أو هكذا كان الأمر على الأقل كما يصف ذلك هو نفسه في مذكراته التي صدرت سنة 1954 تحت عنوان “الطريق إلى مكة“.
كان ليوبولد فايس يعتبر ذلك الوضع الذي يعبر عنه هرمن بروخ بـ”فراغ القيم” كإحدى الأعراض المميزة لمجتمع لم يعد له من هاجس سوى البحث عن وسائل الراحة والرفاه. أما هو فكان يبحث عما هو أسمى.
و كان قد تمكن في سنين طفولته بفضل معرفة متينة باللغة العبرية من قراءة الكتب المقدسة، لكنه أضاع الصلة بالديانات من بعدها داخل بيت عائلته الذي أصبحت الدنيا همَّه الأول.
ومع ذلك فإنه لم يكن من الصعب على الشاب في ما بعد أن يشعر بالميل إلى الاتجاه الفكري لمارتن بوبر أو أويجن هوفليش، ذلك الاتجاه الذي يعيد التراث اليهودي إلى الموروث الشرقي متخطيا في ذلك الثقافة الأوروبية.
وقد أشعلت أحلام الشرق الجميلة التي سادت الأوساط الأدبية في برلين جذوة اهتمامه هذا. حيث راجت فكرة الصحراء كانعكاس لصورة غير رجعية منفتحة على العالم مناهضة للحداثة في التصور الأوروبي منذ إليزابيث إيبرهارد وت.هـ.لورنس.
لم يفوّت فايس على أية حال وهو في الثانية والعشرين من عمره الدعوة التي وجهها له عمه دوريان فايغنباوم المقيم في القدس لزيارته هناك.
حيث اصطدم في الشرق الأوسط بالأوضاع المتوترة أثناء الحقبة الاستعمارية التي لحقت انهيار الامبراطورية العثمانية، حيث تتنازع بريطانيا وفرنسا اقتسام مناطق النفوذ، وحيث بدأ الوافدون من اليهود المهاجرين اثارة حفيظة السكان الفلسطينيين.
وكان ليوبولد فايس قد وقف منذ البداية موقف الرافض للفكرة الصهيونية. وكانت فكرة تأسيس دولة يهودية على النمط الأوروبي تبدو له مشبوهة فهي أقرب إلى فكرة تخدم مصالح السيطرة الأوروبية أكثر من أي شيء آخر، وهي فكرة يصعب على الشعب العربي أن يقبلها.
إضافة إلى أن فكرة تأسيس دولة يهودية في فلسطين كانت تمثل في نظره انحرافا مشوها للتراث اليهودي. كما أنه غادر أوروبا الحديثة وفي نفسه شعور بالاغتراب ليجد لدى المهاجرين اليهود نفس الهوس الأوربي بالقيم المادية- الذي لم يحدث له إلا أن انتقل إلى عالم المشرق.
بينما بدا له في مقابل ذلك أن العرب بثقافة حياتهم التي لا تزال محافظة على طابعها الساميّ “هم السكان الحقيقيون لهذه البلاد”، كما عبر عن ذلك فيما بعد في مذكراته.
دوّن ليوبولد فايس كمراسل خاص لصحيفة “فرنكفورتر تزايتونغ“ مثل هذه الملاحظات وغيرها، وقد أرسل تلك المقالات إلى أهم الصحف الألمانية آنذاك، التي رفضتها جميعا عدا “فرنكفورتر تزايتونغ“.
ثم عرضت عليه هذه الأخيرة عقد مراسل خاص لإنجاز سلسلة من التقارير الصحفية وكتاب صدر سنة 1924 عن دار “سوسييتيتس فرلاغ” تحت عنوان “مشرق مجرد من الرومنطيقية؛ من يوميات رحلة“.
في إطارمهمته الصحفية هذه سافر ليوبولد فايس إلى القاهرة وعمان، ثم إلى بيروت و دمشق خفية ومشيا على القدمين، لأن الإدارة الفرنسية رفضت منحه كنمساوي تأشيرة للدخول.
كانت مقالاته ملتزمة جريئة في تحاليلها وراقية في أسلوبها، لكنها انتقادية تجاه الحركة الصهيونية بطريقة جعلت إدارة التحرير في فرنكفورت ترى نفسها مجبرة على التباين مع موقف كاتبها.
ومع ذلك فقد استطاع هذا الأخير لدى عودته إلى ألمانيا خريف سنة 1923 أن يعاين عن كثب إلى أي مدى كانت مقالاته ناجحة. ثم عرض عليه رئيس التحرير هاينرش سيمون رحلة أخرى، فارتحل مجددا صحبة زوجته الرسامة البرلينية إلزا شيمان وابنها هاينرش من مصر عبر بغداد وأفغانستان باتجاه إيران.
حيث أقام لمدة سنة ونصف وتمكن، ليس دون تحفظ، من متابعة صعود رضا خان مؤسس السلالة الحاكمة الذي اعتقد أنه رأى فيه مؤسس دولة قومية لائكية على النمط التركي الكمالي.
قصتــه مع الإســلام
لدى عودته إلى ألمانيا قدم فايس، الذي غدا في هذه الأثناء كاتبا ذا شهرة، استقالته من العمل في صحيفة “فرنكفورتر تزايتونغ”، وتحت إسم محمد أسد اعتنق الإسلام بمعية زوجته وابنه بالتبني، ثم انطلق في شهر يناير 1927 في رحلته المشرقية الثالثة.
منذ تلك اللحظة ارتدى المسلم الجديد اللباس المشرقي وبدأ يتكلم العربية عوضا عن الألمانية. وكانت وجهة رحلته الأساسية في هذه المرة مكة.
هناك فقد زوجته إثر وفاة مفاجئة وعمّق معرفته بالقرآن، وسرعان ما انضم إلى مجلس المستشارين لدى الملك عبد العزيز بن سعود. وقد بدا لمحمد أسد الساعى وراء الحقيقة أنه قد لمح وأعتقد في المذهب الوهابي بشائر التجديد الإسلامي المرتجى من منطلق العودة إلى الروح الأصيلة للإسلام،
إلى أن خاب أمله وابتعد مغادرا البلاد مع زوجته الجديدة، إحدى بنات الشيوخ، وابنهما المشترك طلال. وعبر كراتشي واصل رحلته باتجاه مناطق البنجاب.
لم يكن تحول ليوبولد فايس إلى الإسلام مع ذلك مجرد نوع من القطيعة المتعصبة مع ماضيه الخاص، ذلك ما سيثبته تصرفه على إثر إلحاق النمسا بالرايخ الألماني. فلما بلغه نبأ الوضع العسير لعائلته سافر إلى فيينا سنة 1939 ومنها إلى لندن بغية السعي إلى الحصول على تأشيرة سفر لكل من أبيه وحماته وأخته.
لكن كل مساعيه باءت بالفشل. بل إنه تم إيقافه هو نفسه كمواطن نمساوي حال عودته إلى الهند، حيث ألقت به السلطات البريطانية في معتقل لم يغادره حتى سنة 1945. ثم جاءت مساهمته في وضع مخطط تأسيس دولة باكستان الجديدة لتغدو تلك الفترة إحدى فترات حياته الأكثر ثراء.
سفيراّ لباكستان
مثلت باكستان بالنسبة إليه مشروع دولة مثالي بمنأى عن كل أنواع الأفكار القومية؛ مشروع لا يقوم على قاعدة الانتماء الإثني والعشائري أو على قاعدة حدود ترابية ثابتة، بل على الاختيار الطوعي للمرجعية الإسلامية؛ نوع من جمهورية ذات قداسة مستعادة وبما يناسب ذلك من وطنية دستورية.
لكن لم يكن هناك سوى القليل من المقترحات التي صاغها محمد أسد، الذي سيعدّ من هنا فصاعدا متدينا شديد الحماس، قد وجد مكانه داخل الدستور الباكستاني. إلا أنه سيلخص أفكاره تلك في ما بعد في كتاب بعنوان “مبادئ الدولة والحكم في الإسلام“.
ومنذ سنة 1952 شغل لمدة سنتين سفيراّ لباكستان لدى منظمة الأمم المتحدة بنيويورك. وعندما رفضت السلطات الباكستانية بعد عودته من أميركا زواجه الثالث من المرأة البولونية التي جاءت معه وقد اعتنقت الإسلام، استقال من جميع وظائفه وتفرغ من جديد للكتابة.
بعد وفاته سنة 1992 تم دفنه في المقبرة الإسلامية بغرناطة. وقد وجد في هذه النقطة الواقعة في الطرف الغربي الأقصى من أوروبا ما يتناسب أكثر من أي موقع آخر مع تصوره المثالي للمشرق، حتى وإن كانت لا تمثل بالنسبة له سوى ذكرى ماض بعيد، عوضا عن رؤية مستقبلية.