“نتشاوف المسا”.. هكذا جاءت دعوة صديقي الشامي عبر الهاتف.. تحمل نبرة الاستدعاء، خلافاً لعادته.. أدركت أن هناك ما يشغله.. فاستجبت دون مماحكة.. كان ينتظر، في زاوية مقهى اختاره منعزلا.. أوضح مبتسماً: “حتى لا يزاحمنا العربان.. فتضيع الطاسة”..
ـ خير..ـ كل خير.. لكن سحابات القيل والقال التي زحمت فضاء المدينة الرمادية، تحتاج جواب ما يبددها، وأضاف ليغلق باب الدوران حول ما قصد أن يصل إليه: .. بدون تذويق، أنت تعرف أنني مَعنّي مثلك بأمر المصريين.. وما جرى في الأسابيع الماضية يحتاج إلى توضيح.. أريد منك أن تسهم معي في فك طلاسم الأسئلة التي تزاحمت في أفق الجالية؟
.. كنت ترددت طويلاً في الكتابة، حول ما يدور لشغل أوقات الفراغ في أروقة المقاهي، وما يردده جنرالاتها.. وكنت أيضاً قد اخترت عامداً العزوف عن الدخول في مباريات عقيمة حول ما قال زيد هنا وما ردد عمرو هناك.. لكن أمام إلحاح صديقي الشامي، وبعد أن هدأت زمجرة الريح في حواري وأزقة الجالية.. قلت على البركة: هات ما عندك يا “زلمة”.. فقط.. اسمح لي بوضع جملة بين هلالين “ما سيأتي عبر حوارنا لا يلزم غيري.. ولا يعبر إلا عن قناعاتي”..
ـ لماذا السفارة؟!
هكذا بدأ الرجل بما ظن أنه طريقي إلى “حبل المشنقة”..
ـ وكان الجواب حاضراً.. لأن السؤال كان هو أيضاً دائم الحضور.. قلت لصديقي: أظنك تعرف عبر سنوات طويلة تعايشنا فيها، موقفي في هذا المنحى.. لكن ما أعتقد ـ وعلى خلاف ما ظننته أنت “بحَوَط شامي” طريقي إلى حبل مشنقة ـ قلته بلا مواربة، في لقاءات مع أصدقاء شرّقت وغرّبت بهم الهواجس والظنون.. قلت أنني أتعامل مع السفارة على اعتبار أنها رمز للوطن.. وليست إدارة في حزب يحكم أو يعارض.. مِنْ هنا، لم أتحسس ولا أجد ما يبرر الحساسية في هذا الشأن.. الاتحاد يا صديقي كما أفهمه منظمة مدنية نمساوية، تهدف إلى أن تكون مظلة لكل المصريين في مغتربهم، ليست حزباً وليست جماعة فكرية.. علاقتها بمؤسسات الوطن ومؤسسات المغترب محكومة بالضرورة، بموازنات مصالح المصريين ورغباتهم وتبايناتهم.. تبعد أو تقترب من هذه المؤسسة أو تلك وفق فهم ناضج لما يحكم علاقتها كمؤسسة، بغيرها من مؤسسات أخرى.. رسمية كانت أو شعبية..
.. ثم إن إنكار دور واحد من رجالها وحماسه الزائد لفكرة الاتحاد.. وسعيه بدأب لتحقيقه.. يحاور هذه الجماعة ويحرض تلك الرابطة.. ويمد حبال الصبر مع يتصورون أنهم رأس كل جسر ومفتاح كل زاوية.. فعل كل ذلك ترويجاً لفكرة اتحاد طال التشوف إلى قيامه.. ومن العيب التنكر لهذا الدور أو الفعل أيا كانت العلل أو الدعاوى..
ـ لكن للبعض تحفظات حول ما جرى في اللقاء!!.. الطريقة التي جرت بها الانتخابات!!، هناك من يهمس أن ترتيبا ما جرى بليل، أو خلف الطاولة؟!
ـ يا صاحبي.. الهمس في جاليتنا العربية.. مثل مقبلات المائدة.. وأحياناً وجبتها الرئيسة.. لا أريد في هذا الشأن أن أكون صادماً ـ لجنرالات المقاهي ـ لكن لا رغبة لي في تذويق الكلام “تبويساً للحى”.. كل عمل مؤسسي في تقديري.. لا يمر إلا عبر تخطيط.. يَعْمَد إليه المعنيون بالأمر؛ ينصرفون بداية إلى قراءة الواقع، وتلمس التباينات، ووضع الإصابع على مداخل المناطق الخطرة ومخارج المناطق المأمونة.. بغير ذلك يصبح الأمر مجرد فعل عابث لا يصنع مؤسسة، ربما يضيف بالكاد، مقهى جديد، إلى مدينة مزحومة أصلاً بالمقاهي؛
.. وكان لابد أن تجري الإجابة على سؤال.. ظل يتمدد قبل أن تتشكل ملامح الاتحاد، ولازَم كل تحرك في الشهور الماضية.. أي نوع من القيادات يحتاج الاتحاد؟
.. نعم تحفل الجالية بقيادات مارست العمل العام لسنوات طويلة، وقدمت، ولا شك، كل ما كان ممكنا أن تقدمه وفق ظروفها وقدراتها.. وأحياناً ميولها ورغباتها..
.. واسمح لي أن أستعير ما أجد أنه يلامس ما أرمي إليه هنا.. أن أستعير عرفاً يسود ملاعب الكرة، ويرضعه كل لاعب ينزل إليها.. “من لا يعرف متى يغادر الملعب لا يعرف قواعد اللعبة”..
.. تغير الواقع وتغيرت الناس والأفكار، والمؤسسة التي يجري الترتيب لها ليست نادياً لبعض الناس لهم مزاج ورغبات رواد النوادي، أو رابطة لجماعة تعتنق هذا الفكر أو ذاك.. الاتحاد ـ كما قلت قبل ذلك بقليل ـ مؤسسة أوسع وأجمع.. وهو ما يفرض بالضرورة البحث عن قيادات مختلفة، قادرة على الانفتاح على كل ألوان الطيف، وقادرة على التعلم أيضاً من تجارب الماضي واستيعاب دروسه.
.. أقول ذلك، وأنا لا أعني هنا بالضرورة أن القيادات التي مارست الفعل في سنوات سبقت، لا يتوفر لها كلها بعض أو كل المعايير التي قصدت أن أشير إليها..
.. وفق هذا الفهم ـ البحث عن قيادات مختلفة ـ جرت المشاورات، ولم تكن بليل، ولا تحت الطاولة.. بالطبع كانت تجري بحرص، ووفق موازنات لتحقيق الصيغة التي جاءت في دستور الاتحاد، وسادت مناقشات اللجنة التحضيرية.. قيادات تسعى لجمع شمل كل المصريين بدون تمييز أو انحياز.
.. ولم تكن المشاورات على “المشاع” استجابة لمن يستهويهم تعبير الشفافية.. الشفافية ـ في تقديري ـ لا تعني مشاعية ساذجة تكون مرتعاً لتحقيق ما تميل إليه أمزجة “جنرالات المقاهي” وأصحاب الحق الإلهي أو الحق بالتقادم..
ربما قاد ذلك الحرص الزائد إلى وقوع البعض في حسابات خاطئة ـ قادهم إليها الاعتياد على وهم.. أنهم يمسكون بقواعد اللعبة دائماً.. ولم يدركوا في الوقت المناسب أن القواعد تختلف مع كل مرحلة.. وكان البعض ـ وبدون قصد ـ ضحايا لتلك الحسابات الخاطئة.
.. ثم من تقعروا، وأفتوا بأنه لم تكن هناك انتخابات ديمقراطية.. فاتهم قراءة دستور الاتحاد، وهو الوثيقة الحاكمة في هذا الشأن.. وقد جاء فيه.. أن مجلس الإدارة الأول للاتحاد هو مجلس توافقي، لا يخضع لقواعد الانتخاب، لاستحالتها قبل استكمال ملامح الاتحاد وتوسع العضوية فيه..
ـ أشار أحدهم إلى أن الاتحاد، بصفته مؤسسة علمانية، ضم في مجلس إدارته الأول، بعض قيادات مرجعيتها مؤسستها الدينية أو اتجاهها الفكري أو العقائدي؟!
ـ هذا خلط بَيّن.. يعكس اضطراب في قراءة المفاهيم الحاكمة للكيانات.. بداية.. توصيف الاتحاد لا يجب أن يأتي وفق القاعدة التي تصنف بها الأحزاب والجماعات والمدارس الفكرية والعقائدية.. فالقول بأنه مؤسسة علمانية، هو افتراض لا يستقيم مع المنطق.. الذي يقول بذلك، يتصور الاتحاد باعتباره حزب أو جماعة أو مدرسة، يحكمها المعتقد السياسي أو الفكري.. الاتحاد ليس كذلك، ولا يحتمل، هو إطار جامع لكل المصريين في المغترب، بكل تبايناتهم ومصالحهم وأمزجتهم.. هويته الوحيدة، هي المصرية.. الجامع المشترك الذي يجمع كل المنتسبين إلى عضويته والمستهدفين.. ويصبح من السذاجة في هذا الشأن استبعاد حتى مَنْ يعتقد صاحب هذا الفهم أن مرجعيتهم هناك؛ عند سيدنا أو أبونا.. أستاذنا أو معلمنا.. الناس ليسوا أطباقاً صينية.. بيضاء.. بلا أفكار ولا عقائد أو حتى ولاءات.. ولا حظر أو قيد على حقهم في المشاركة في الفعل العام.. المحظور الوحيد، وربما الأوحد، أن تكون مرجعياتهم أو عقائدهم قيداً على حركتهم، أو عائقاً يحول دون تفاعلهم مع من يخالفونهم الاعتقاد أو المرجعية..
.. واسمح لي يا صديقي الشامي بعد استهلكنا نصف دستة من فناجين القهوة؛
.. أن أقفز إلى قناعة أوسع ضفافاً من فائض كلام.. يجري في مقاهي مزحومة بسحابات دخان النارجيلة؛
.. الاتحاد ضرورة يفرضها واقع المغترب ومشكلاته، هموم المصريين.. تشوفاتهم وتطلعاتهم.. وحتى رغباتهم الصغيرة.. الاتحاد خيمتهم التي سوف تحميهم ـ إن أحسن تثبيت أعمدتها ـ من تقلبات الفصول، والبشر أيضاً.
.. ولك يا صديقي الشامي، أنت ـ على وجه الخصوص ـ وأعرف أن همومك العربية غالبة، أقول وأنا مطمئن: أن قيام الاتحاد بشارة عافية قادمة، سوف تمد ظلها على كل الجالية العربية.. وطالما أشرت أنت ذاتك إلى ذلك.. قلت وأكدت.. أنه إذا تعافت الجالية المصرية تعافت بالضرورة الجالية العربية..
………..
وغادر صديقي الشامي المقهى.. لكن تداعيات الحوار معه ظلت حاضرة.. تحوم في الأفق وتشغل الرأس.. وفي محاولة للانفلات من دوامتها قفزت من تلافيف الرأس صور بعض ظرفاء الجالية.. كان لابد بالضرورة أن تأتي صورهم وأن تُحّوم ملامحهم.. بعد أن كانت واضحة في بعض التساؤلات التي جاء بها محاوري الشامي الذي غادر قبل أن يطول ذيل فاتورة الحساب..
واحد من هؤلاء ذكرني ولا أعرف لماذا؟! برائعة كاتبنا الكبير الراحل، سعد الدين وهبة “المحروسة” وبطلها الذي تمرد ذات صباح على وضعه في الكفر.. فقرر أن يختار لنفسه دوراً يكسر عبره رتابة الواقع.. ويشغل وقته الفارغ المتمدد بعد أن طلق الفلاحة.. “طق في رأس صاحبنا” أن ينصب نفسه “مدير عموم القنطرة”.. القنطرة الوحيدة التي تربط شرق الكفر بغربه.. وقف دون “إحم أو دستور” ينظم السير عليها.. يوبخ هذا.. ويلفت نظر ذاك.. يؤكد على زيد كي ينزل من على ظهر حمارته عند العبور.. للحفاظ على ـ سلامة القنطرة ـ وليس الحمارة.. ويشدد على عمرو ليحكم عقال ناقته، ولا يتركها تذهب وتجئ، تعبر من الغرب إلى الشرق، ومن الشرق إلى الغرب.. باعتبار أن القنطرة “سايبة وبلا صاحب”.. وكان لابد أن يُفهِم الفلاحين “أولاد الإيه” أن عهد التسيب قد ولى.. وأن العناية الإلهية وقع اختيارها على “حضرة جنابه” ليعدل حال الكفر المائل.. وأول الغيث يبدأ من فوق ظهر القنطرة..
الفلاحون بحكم طبيعتهم تقبلوا فعلة الرجل بسماحة.. هم لا يميلون لكسر الخاطر.. خاطر من يظنون أن عوادي الأيام فوق قدرته على الاحتمال.. لكن سماحتهم تلك لم تمنعهم من التهامس.. بعد أن تتباعد خطواتهم عن القنطرة.. بأن المسكين “سلوكه ضربت”.. وربما مع توالي الأيام وبحكم العادة أصبح السيد مدير العموم ونوادره.. لوازمه وحركتاه.. المعقولة والمبالغ فيها.. جزءاً من واقع الكفر لا يمكن العيش بدونه باعتباره ملح المائدة..
ظريف آخر.. ذكرني بما كان يجري في خمسينيات القرن الماضي، في الحواري المشقوقة غصباً في شارع عماد الدين أشهر ملامح قاهرة ذلك الماضي الغابر..
على مقاهي تلك الحارات كان يجلس نفر من الناس بعد أن عزت فرص الشغل.. فاخترعوا مهنة جديدة فرضتها البطالة.. اخترعوا مهنة أسماها أولاد الحلال.. فلان “لابس مزيكة”.. كانت مسارح عماد الدين في ذلك الحين تعاني من غياب أحد أو بعض عازفي فرقها ولأسباب عديدة.. وكان على المعلمة أن تدبر البديل حتى لا تفقد البقية الباقية من زبائن “المرسح”.. فترسل صبيها إلى أقرب مقهى ليعود وبصحبته واحد من أصحاب المهنة الجديدة “لابس مزيكة”، لابسها فقط.. يرتدي حلتها ولا يعرف قواعدها.. ولا حاجة به أصلاً لمعرفة تلك القواعد.. كل المطلوب أن يأخذ مكانه في التخت ـ مكان الموسيقى الغائب ـ وغير مطلوب منه سوى تمثيل دور الموسيقى دون فعله.. حتى تمر الليلة..
لكن رغم بساطة الحكاية ومحدودية الدور.. تجر العادة إلى وهم يتلبس من يقع في تلافيفها.. فيتصور ـ من على شاكلة صاحبنا هذا ـ نفسه موسيقي “بحق وحقيق” وأنه يملك ناصية العزف على كل الآلات.. ويجيد لعب كل الأدوار.. غير أن الدهر ظلمه حين ذهب لقب موسيقار الشعب للشيخ سيد درويش.. وكان الواجب أن يكون من نصيبه..
سيد مين ده!!.. “دا كان حتة عيل يدوب لابس مزيكة”..
محمد عزام رئيس تحرير مجله جسور الألكترونيه
http://www.jusur.net/